الباب المفتوح بين الجسم والنفس

للدكتور يحيى طاهر

مدرس الأمراض العصبية بقصر العيني

قضى التقدم الكبير الذي أحرزته علوم الطب والنفس على الاعتقاد القديم الشائع بانفصال الجسم عن النفس… وأصبح الثابت أن الجسم والنفس مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، فما يؤثر في أحدهما يؤثر في الآخر… وفي هذه السلسلة من المقالات، يعرض الدكتور يحيى طاهر لأوجه العلاقة بين الجسم والنفس وكيف يؤثر أحدهما في الآخر ويتأثر به.

حين تشعر بالانشراح والسرور أو حين تحس بالانقباض والكآبة فهل تعرف أين ذلك الجزء من كيانك البدني الذي تأثر بالبيئة المحيطة بك، وولد هذه المشاعر والإحساسات؟ وهل تدري لماذا يكون انفعالك أشد منه عند غيرك؟… أو لماذا يتولاك القلق والخوف، والاضطراب بغير سبب ظاهر، بينما ينعم آخر بالسكينة وراحة البال؟.. وحين تمر بذهنك حوادث الماضي كشريط سينمائي تتابع صوره ومشاهده فهل تعلم أين تختزن هذه الصور وما الذي يدفع بها إلى ذهنك؟

سيقول البعض إننا ننسب هذا كله إلى النفس.. فنقول عن المشاعر أنها انفعالات نفسية، ونصف الاضطرابات بأنها اضطرابات نفسية..

ولكن أين هذه النفس التي انفعلت واضطربت؟ أين مقرها؟

لقد شغل هذا السؤال العلماء والفلاسفة من قديم الزمن ولكن لم يجدوا له جوابًا مقبولًا، ومن ثم جعلوا النفس في عالم الأرواح الذي لا يعرف له مكان على وجه التحديد.

ثم تقدمت علوم الطب، فتبين أن المخ هو العضو المسيطر على جميع أجزاء الجسم ظاهرة وباطنة… وقسم المخ إلى طبقات: فالطبقة السفلى هي أقدم الطبقات وجودًا وهي تحوي المراكز الآلية التي لا تتدخل فيها إرادة الإنسان، ولذا فهي موجودة في الإنسان والحيوان على السواء.

وكلما ارتفعنا في طبقات المخ زادت هذه الطبقات رقيًّا، حتى نصل إلى قشرة المخ حيث توجد مراكز الحركة الإرادية، ومراكز الإحساس التي تستطيع التمييز الحسي الدقيق، ومراكز الإبصار والسمع والذوق والشم، ومراكز الكلام، ومراكز الذاكرة، أي نصل إلى أعلى درجات الرقي التي تتوفر في إنسان هذا العصر.

ونجد أن هذه القشرة المخية أكبر كثيرًا في الإنسان منها في الحيوان، ولهذا كان الفارق العقلي بينهما كبيرًا…

وهنالك أيضًا تساءل العلماء ولكن أين النفس؟ أين القوى المسيطرة على الانفعالات، وعلى الإدراك، وعلى الإرادة؟. وانقسم العلماء فقال بعضهم أن النفس لا مكان لها في المخ، وأنها قوى فوق المراكز التشريحية المعروفة، وقال بعضهم الآخر إنها قوى جميع المراكز في قشرة المخ حين تعمل مجتمعة… وظلت النفس حائرة لا تعرف لها مكانًا!…

وقفزت الأبحاث الطبية قفزة أخرى، فاكتشف العلماء شيئًا عجيبًا.. لقد تبينوا أن قوى النفس غير المحدودة، والتي تعلو على جميع وظائف المخ، إنما تسكن أسفل طبقات المخ! أي تلك الطبقات التي كان يظن أنها بدائية أو حيوانية!

فهذا الجزء الصغير في أسفل المخ والذي كان ينظر إليه العلماء تحت (الميكروسكوب) ويقولون أنه مكون من خلايا وألياف رابطة- أي تربط الخلايا والألياف المهمة بعضها ببعض- وليست له أي قيمة فسيولوجية، اتضح أنه هو المسيطر على جميع أجزاء المخ… وأنه يتحكم في جميع مراكز القشرة المخية! ومن ثم فهو يتحكم في جميع الحركات الإرادية وهو الذي يدرك جميع الإحساسات ويميزها، وهو الذي يسيطر على درجة تنبه الإنسان لانفعالاته.. فإذا اضطرب هذا الجزء المركزي من المخ اضطربت الإرادة، واضطرب الإدراك، واضطرب التنبه، واضطربت وظائف أعضاء الجسم المختلفة كالقلب، والتنفس والمعدة، والأمعاء!…

وقد تنبه العلماء لذلك، ومضوا يركزون همهم في هذا الجزء من المخ بحثًا عن كيفية تأثره بالعوامل التي تسبب الاضطرابات النفسية.

فهل تعلم الآن أين تسكن النفس؟ إن حياتك النفسية تتوقف على عدة سنتيمترات في أسفل المخ!

– نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *