للأستاذ عبد المنعم الزيادي
تخيل نفسك تجلس في مقاعد المتفرجين وتشاهد (فيلما) يمثل حياتك اليومية، من ساعة أن تستيقظ حتى تأوي إلى الفراش ليلاً… فإذا كنت متنبها غاية التنبه لكافة الدقائق والتفاصيل فسوف تجد أن تسعين في المائة من سلوكك اليومي –وربما أكثر- شيء لا يختلف يومًا بعد يوم وتؤديه، ربما دون أن تعي أنك تؤديه. أما العشرة في المائة الباقية فهي التي قد يختلف فيها السلوك، وينشط الذهن ليواجه مواقف جديدة، وظروفًا طارئة…
ولا بأس أن يكون الأمر كذلك… فالعادة هي هبة الطبيعة لنا لتحرر عقولنا من التفكير في كل خطوة نخطوها، بحيث تخلص لرسم سياستنا العليا في الحياة، وتحديد أهدافنا فيها، وإجلاء الطرق المفضية إليها، ولتقي طاقة نشاطنا من التبدد في التوافه، أو في الأعمال الرتيبة التي نزاولها يومًا بعد يوم…
أرأيت، حين تقود السيارة، كيف يشتغل ذهنك، وكيف تبذل جهداً حين توجه اهتمامك لعملية القيادة في حين يصفو ذهنك ليفكر في مسائل أخرى، ولا تستشعر جهدًا إذا أنت تركت للعادة أمر القيادة؟!… فتلك هي الوظيفة الطبيعية للعادة، أن تحمل عنا عبء القيام بالجانب الرتيب من نظام حياتنا دون أن نتكبد جهداً فكريًا أو بدنيًا…
ولكن العادة سلاح ذو حدين فإذا كانت العادات التي درجنا عليها من شأنها أن تسهل علينا الوصول إلى المثل الأعلى الذي ننشده جسميًا، ونفسيًا، واجتماعيًا، فهي عندئذ تبدي لنا الحد الذي يسعد، وهي عندئذ مطية ذلول نركبها لتحقيق غاياتنا الطبيعية.. أما إذا كانت هذه العادات تبعدنا عن هذا المثل الذي نصبوا إليه، فهي آنئذ تبدي لنا الحد الذي يشقى، وهي عندئذ تركبنا نحن على حساب مطامحنا وآمالنا، وأهدافنا!…
ذلك أن أخطر ما في العادة رسوخها، وثبات جذورها… فكما أنها قد تكونت على مر فترة طويلة من الزمن، فإن استئصالها يحتاج كذلك لفترة طويلة، ويحتاج قبل هذا، إلى الشجاعة والتصميم والمثابرة، ويحتاج بعد هذا إلى عادة أخرى تحل محلها.. فالعادة أشبه بالقناة تحفر في أرض حياتنا، ويزيدها التكرار عمقًا واتساعًا، ومن ثم فأفضل ما تصنعه بعادة تريد أن تغيرها هو أن تحفر قناة جديدة لتتحول إليها مياه القناة الأولى، فلا تلبث هذه حتى تجف وتنضب.
والعادة هي حجر الزاوية في صرح تربيتنا، فالتربية المنزلية ثم المدرسية، هدفها الطبيعي أن تبث فينا العادات الطيبة التي تسهل لنا أداء رسالتا في الحياة حين نصب متأهبين لخوضها… على أن عبارة (العادات الطيبة) هذه عبارة جدلية يصعب تحديد مفهومها، أو إحصاء مجموعة العادات التي تندرج تحتها… وعلماء النفس، والأخلاق والاجتماع لا يصدرون على عادة أو مجموعة عادات حكمًا بالطيبة أو بالخبث إلا بناء على ما يترتب عليها من نتائج سواء للفرد أو للمجموع… وهنا نقترب أكثر من جوهر التربية: هي إذن عملية يقصد بها أن تكسبنا العادات التي تترتب عليها أفضل النتائج لأنفسنا وللمجتمع.
ولكن هل هذا هو ما تفعله التربية حقًا، سواء في البيت أو في المدرسة؟!… كلا، فهذا هو الشيء المثالي الذي نجاهد للوصول إليه، وعندئذ نكون قد خلقنا الفرد السعيد الناجح المتوافق، والمجتمع الراضي المتساند المتراحم.
وما وسيلتنا إذن لبلوغ هذا المستوى الأمثل؟… من الوسائل طبعًا أن نوجه التربية المدرسية هذه الوجهة، وأن نعلم الآباء والأمهات ما هو دورهم بالتحديد في تربية أبنائهم… ولكن أقصر السبل وأسرعها أن نعمد إلى الأفراد أنفسهم، مهما تكن أسنانهم… سواء كانوا في العشرين أو في الأربعين، ونهيب بهم أن يعيدوا تربية أنفسهم وقد أصبحت لهم القدرة على ذلك، وخرجوا من نطاق القصور الذي كانوا فيه أطفالاً، وكانت تربيتهم موكولة إلى غيرهم!
إنني أعتقد أنه إلى أن يحين الوقت الذي ترسى فيه التربية المنزلية والمدرسية على أسس حصيفة، واعية، متبصرة، فمن واجب كل فرد –إذا كان يصبو إلى أن يحيا حياة راضية نافعة- أن يعيد تربية نفسه… وأن يبدأ مهما يكن سلف من عمره، فذلك أجزى له وأربح.
وكما أن حجر الزاوية في التربية هو بث العادات، فكذلك حجر الزاوية في إعادة التربية، هو تغيير العادات المقيدة الملجمة بعادات تزيد من انطلاقنا في سبيل أهدافنا.. هي مهمة شاقة نعم، ولكن نتائجها تستحق العناء الذي يبذل من أجلها…
وانظر ما يمكن أن تفعله العادات بالأسرة… إنها يمكن أن تقوضها، وتطيح بها، وتلقى بالأبناء في سعير العذاب النفسي… يكفي أحيانًا أن يكون الزوج قد درج على النظام وتكون الزوجة قد اعتادت الفوضى لينشب بينهما النزاع الذي يزعزع أركان الأسرة!.. أو قد يكفي أن يكون الزوج قد اعتاد أن يعلق أهمية كبرى على تنظيم إنفاق المال، وتكون الزوجة قد اعتادت أن تبدده لينشأ الخلاف الذي قد يقوض بناء الأسرة!… أو-إذا تسللنا إلى أغوار النفس واطلعنا على العادات المشحونة بالانفعالات- يكفي أن يكون الزوج قد درج على أن يكون محور الاهتمام، وتكون الزوجة قد درجت على الشيء نفسه، فلا هو يهتم بزوجته الاهتمام الكافي، لأنه ينشد الاهتمام لنفسه، ولا هي تهتم به لأنها تطلب الاهتمام لنفسها!.. يكفي هذا سببًا جوهريًا لبث النفرة والشقاق بين الزوجين!…
وإذا تركنا الزواج جانبًا، وتأملنا الفرد نفسه، لوجدنا أن بناء المرض النفسي قائم على مجموعة من العادات التي رسختها في النفس شحنات انفعالية قوية… فالخوف عادة والقلق عادة، والإحساس بالنقص عادة…
ولعل أجلى ما تتضح فيه العادة من الأمراض النفسية التسلطات والوساوس… فليست هذه سوى عادات ذهنية أو سلوكية درج عليها المرء، وقد بدأت أول ما بدأت بشحنة قوية من الانفعال حفر لها مجراها، ثم زادها التكرار عمقًا واتساعًا. ومن أمثلة ذلك حالة شاب كان في كل مرة تطلب إليه من شخص فيه سلطة عليه –كالأب، أو الأم، أو المدرس، أو من في حكمهم- أن يؤدي عملاً، يهرب منه إلى الخيال وإن كان يتظاهر بأنه يؤديه!.. كان إذا اضطر إلى المذاكرة مثلًا- وهو ما تطالبه به السلطة العليا يفتح الكتاب وينظر فيه بعينيه ولكن فكره يغدو مسرحًا لأشياء أخرى أبعد ما تكون عن الكتاب ذلك أنه كان يطلب إليه، أول الأمر، أن يفعل شيئًا على غير رغبته فكان يقاوم، ثم لما اضطر إلى أن يرضخ، تظاهر بتلبية الطلب ولكنه قاوم بإبعاد فكره عن الموضوع، وأصبحت هذه –مع التكرار- عادة متسلطة عليه!…
بل إذا تركنا الأفراد أيضًا، وتأملنا المجتمع، لوجدنا أن العادات، سلوكية وذهنية، يمكن أن تنخر بناء المجتمع كله… وخذ مثلا مجتمعنا قبل الثورة. كنا قد اعتدنا أن يخضع الضعيف للقوى، والفقير للغني، وصاحب الحاجة لمن يملك تحقيق الحاجة… وكنا قد اعتدنا أن نتزلف، ونتملق، ونرائي… وأن نطأ كرامتنا، ونئد عزتنا… ثم جاءت الثورة فحولت تيار عاداتنا الاجتماعية إلى ما هو أفضل وأقوم.
وإعادة تربية أنفسنا بحيث نحيا حياة أفضل مع أنفسنا ومع الناس، تحتاج منا إلى ثورة تقلب نظم حياتنا الفاسدة التي نجري عليها بحكم العادة، ولكن علينا أن نتمثل أولاً المثل الذي نريد أن نكونه…
نريد أن نكون أصحاء الأبدان؟!. فلننظر إلى عاداتنا فربما اعتدنا أن نظل بلا إفطار حتى موعد الغداء –وهي عادة شائعة للأسف!… أو ربما اعتدنا أن نبتلع طعامنا بدلًا من أن نمضغه… أو لعلنا اعتدنا أن نهمل الترويح والرياضة!
نريد أن نكون أصحاء النفس؟!. فلننظر إلى عاداتنا الذهنية… ربما اعتدنا أن نصدر أحكامًا قبل أن تتجمع لنا كافة المعلومات… ربما اعتدنا أن ننساق وراء الغضب والاستفزاز… ربما اعتدنا أن نكون محور الاهتمام…
نريد أن نعيش في وفاق مع أزواجنا؟!. نريد أن نكون متوافقين مع الناس؟!. فلننظر إذن إلى العادات التي تقف حجر عثرة دون ذلك، ولنحمل فؤوسنا لنحفر إلى جوار قنوات عاداتنا القديمة، قنوات جديدة تتجه الوجهة القويمة… ولنثابر على الحفر، حتى وإن لاحت لنا العادات القديمة أنهرا طافحة..
أفلم ترد يومًا أن تتصف بالبطولة والشجاعة؟!… هذه هي فرصتك!
– نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق