للدكتور ا. ب سبرلنج

الطبيب النفسي ومؤلف كتاب (علم النفس للملايين)

 

(ظللت طول حياتي تنتابني الأفكار الشاذة، وأقوم بعمل أشياء لا أجرؤ على التحدث عنها! وحتى عندما كنت طفلة كانت تنتابني أفكار سخيفة بلهاء كنت أفضل أن أحتفظ بها لنفسي!).

تلك هي الكلمات التي ابتدرتني بها سيدة زارتني لأول مرة في مكتبي!.

قلت لها: حدثيني ببعض هذه الأفكار الشاذة.

قالت: (إنني أتضايق وأتألم حينما لا أجد شيئًا أتضايق وأتألم من أجله! فحين أجد كل من حولي في صحة جيدة، يخيل إلى أن ابني سيصاب في حادث أو يمرض مرضًا أليمًا.. وعندما أخلو لنفسي يخطر على أن النساء سيخطفن مني زوجي! ويراودني الخوف من الكبر والشيخوخة.. هكذا يعمل خيالي طول الوقت!).

قلت لها: (هذا خيال لطيف. ولكنه عادي جدًّا وليس فيه شذوذ!).

فسألتني دهشة: (هل تريد أن تقول إن بعض النساء يخطر لهن مثل ما يخطر لي؟) فقلت مؤكدًا: (نعم، والمشاعر والخواطر التي تحسينها طبيعية جدًّا لا غرابة فيها).

لقد جاءتني هذه السيدة وهي تعتقد أنها شاذة أو مريضة نفسيًّا، أو تختلف عن بقية الناس والواقع أنه لم يكن بها شذوذ، ولا كانت تعاني صراعًا حادًا، أو عقدة نفسية.. وأود هنا أن أؤكد للكثيرين والكثيرات من أمثال هذه السيدة أنه ليست بنفوسهم آفة البتة، وأن ما يحسونه من أمثال هذه المشاعر ليس شاذًا على الإطلاق..

وقبل أن أستطرد إلى الشرح والتفسير، أذكر حالة أخرى لشاب يافع كان على وشك أن يترك الكلية لأنه كما يرى (مختلف جدًّا) عن بقية الطلبة! ولو اتبع الفتى هذا الدافع لترك الكلية، ولما غدا ما هو عليه الآن.. فهو الآن يدير إحدى شركات الإعلان، وقد تزوج في سن الثلاثين، وأصبح والدًا يفخر بولدين في صحة طيبة…

جاءني هذا الشاب يومًا وقال: (إنني خيالي جدًّا بحيث لا أستطيع أن أثبت قدمي على الأرض، أو أركز فكري على هدف واحد!.. أذهب إلى السينما فأريد أن أكون فنانًا.. وأقرأ كتابًا فأريد أن أصبح محاميًا! وأطالع الجرائد المالية والاقتصادية فيخيل إلى أنني سأصول وأجول عندما أكون رجلًا ماليًّا وصاحب أعمال! وعندما أذهب إلى حفلة رياضية أفكر في الرياضة والرياضيين! وعندما أخرج للنزهة مع فتاة، أحلم بفتاة أخرى!…

(وحدث ذات مرة أن سرت في جنازة قريب لي، وكانت الناس تطرق إلى الأرض في حزن وألم.. أما أنا فقد كان عقلي شاردًا في لحن شعبي جميل. أليست هذه الأشياء شاذة سخيفة؟!).

وأكدت لصديقي الشاب حينئذ أن نشاطه هذا، وأحلامه تلك، وتحول اهتمامه من شيء إلى آخر إنما هو شيء عادي ليس مستغربًا من شخص مثله له هذه الموهبة وذاك الاستعداد.

وصارحته بما يعلمه كثير من المدرسين ولكنهم لا يبوحون به.. ذلك أنه لا يتسنى لأحد منهم أن يتنبه تنبهًا كاملًا لكل من في الفصل في وقت واحد!

إن تشتت الفكر وتوزعه شيء عادي جدًّا، خصوصًا عندما تكون نسبة الذكاء مرتفعة.. وتحول الاهتمام من شيء إلى آخر، هو وليد حب الاستطلاع، والرغبة في إيجاد مخرج للقدرات المتعددة.. قلت هذا لصديقي الشاب، وزدت عليه أنه سيستقر في طريق واضح ثابت عندما يجد هذا الطريق، أو يجده هذا الطريق، وقد صح ما تنبأت به!

ولعلك تعجب أيها القارئ حين أصف خيال السيدة والشاب اللذين أسلفت قصتيهما بأنه عادي طبيعي! والواقع أنه كذلك. وكثيرون هم الذين ظنوا ما راودهم في طفولتهم من خواطر وأحلام، شيئًا شاذًا غير مألوف.

وخذ نفسك مثلًا.. ففي طفولتك كنت تقرع قضبان كل نافذة تمر بها. ولعلك تذكر كيف كنت تقف أمام المرآة وتقوم ببعض الحركات (الدرامية) ثم تشعر بسخف ما فعلت! ولا شك أنك كنت تشعر بالحرج تجاه هذه العادات والسخافات، وكنت تزعم أنه لا بد هناك نزعة بلهاء في نفسك تدفعك إليها، ونتيجة لذلك احتفظت بخواطرك لنفسك ولم تخبر بها أحدًا.. والواقع أن ما أحسست به، أو ما صنعته في طفولتك إنما هو شيء عادي وحتى في مراهقتك ونضجك قد تميل إلى الشعور بأن لديك من الخواطر أكثر مما لدى سائر الناس. فلعلك دخلت أحد المصارف فوجدت نفسك تفكر في تفاصيل الجريمة الكاملة!.. وفي مجتمع عام تجد نفسك تأتي بحركة غريبة أو حيلة طريفة.. وحياتك الزوجية راضية مرضية ومع ذلك فذهنك مسرح لأفكار الخيانة الزوجية!

وقد يسيء إليك شخص أو يصيبك في كبريائك، فتجد نفسك قد ذهبت تدبر انتقامًا مروعًا تود لو تنفذه ضد هذا الشخص.. بل إنك قد تتمادى في تركيز عقلك في هذه الفكرة حتى ترتكب الجريمة (نفسيًّا) أي تتوهم أنك ارتكبتها، وتتلقى جزاءك عنها على شكل قلق، أو إحساس بالذنب! ومثل هذه المشاعر والخواطر، والأحاسيس عادية جدًّا.. فهي تمثل مخرجًا سليمًا للتعبير العاطفي.. إنها صمامات أمان لأخطار القيود التي قيد بها الإنسان نزعاته.

ودوافعنا الداخلية، وأحلام يقظتنا، وهذه الحيل التي نخجل عن التحدث عنها، وهي دعائم المسرح و(السينما).. وقارن بينها وبين أي (كوميديا) تمثل الآن على المسرح أو على شاشة (السينما) لا تجد فارقًا يذكر! وستجد الناس يقبلون بلهفة على (الكوميديا)، لماذا؟ لأن معظم حوادثها تروي خواطر ومشاعر مطوية في نفوسنا لا نجرؤ على البوح بها. فهذه التمثيليات الفكاهية التي تصور نزعات الإنسان، وحركاته، ومشاعره بصورة فكاهية، تتيح لنا الفرصة كي نرى (المناطق الطائشة) في الشخصية -كما يسمونها- ممثلة في غيرنا، فتهدأ نفوسنا، وندرك أننا لسنا وحدنا فيما يجول بخاطرنا!

وسلوكك الذي تظنه شاذًا، وآراؤك وأفكارك التي تحسبها خارجة على المألوف ما هي إلا (كوميديا) أو (دراما) نفسية أنت بطلها! وكل من تلقاه من الناس بطل لمسرحية مماثلة!

فالشاب الذي كان يحسب نفسه مختلفًا عن الناس وهو طالب في الكلية، كان يقوم بعشرات الأدوار على مسرح مليء بالشخصيات ليرضي عاطفيته الملتهبة وعقله النشط.. والسيدة التي يجمح خيالها، كانت تجد في جموح خيالها مخرجًا من الحيز الضيق الذي وضعتها فيه الحياة الزوجية الرتيبة، وما شعر به كلاهما، إنما هو رد فعل طبيعي لا غرابة فيه ولا شذوذ!

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *