التنشئة الأولى هي السبب
في إدارة البحوث الفنية بوزارة التربية والتعليم، التقت (حياتك) بالمدير المساعد، الدكتور، محمد خليفة بركات، ووجهت إليه السؤال.. فأجاب بما يلي:
– للدين وظيفة نفسية فائقة الأهمية.. فهو يعتبر القوة الكبيرة التي يلجأ إليها المرء ليستظل بها عندما تلم به الأزمات وعندما يشعر بالحاجة إلى الاطمئنان والاستقرار النفسي..
الانصراف عن الدين، أو الانحراف عن سبيله، ظاهرة عامة بين الشباب لا يمكن تجاهلها.. فالشباب هم عتاد المجتمع في يومه وغده، وإذا حاد المجتمع عن سبيل الدين تحلل وتفكك وتهاوى… فما السر في هذا الانحراف الديني الذي لم يشهد له مجتمعنا نظيرًا؟..
هل يقع الذنب على الشباب أنفسهم؟ أم على آبائهم ومربيهم؟.. أم على الدين نفسه ورجاله؟..
لقد رأت (حياتك) أن تستفتي في هذه الظاهرة الخطيرة الاختصاصيين في علم النفس، والاجتماع، والدين…
والطفل في بداية حياته يتخذ من أمه ملجأً لهذا الاستقرار وهذه الطمأنينة.. والوالد يعتبر في المنزل مصدر الشعور بالأمن لأبنائه وأفراد أسرته… وعندما يبلغ الطفل مرحلة الشباب، حيث تقل نزعته إلى الاعتماد على الوالدين ويبدأ في الاستقلال بنفسه، يمر بمرحلة حرجة بسبب ابتعاده عن مصادر الأمن والاطمئنان النفسي الممثلة في الوالدين.. وهنا يجد في الدين بديلًا منهما، فيبدأ في التفكير في الدين ليجد فيه ما يبعث على الاطمئنان والاستقرار النفسي.
ولا شك أن نشأة الطفل المنزلية ومعاملة والديه له ومدى أدائهما لمهمة الرعاية، وإشعاره بالأمن وبالانتماء لهما كقوة حافظة من الاضطراب، كل هذه تؤثر في درجة احترام الشخص لتعاليم الدين في المستقبل.
وعندما يفكر الشاب في الدين يمر بمرحلة من التردد بين الشك واليقين، لأنه يريد أن يخبر كل شيء بنفسه فيترك لخياله العنان للتفكير الديني ويحاول أن يفسر لنفسه كثيرًا من المعتقدات الدينية.. ونظرًا لنزعته إلى التحرر والاستقلال في هذه المرحلة من الحياة، فإنه عادة يعتمد على نفسه في البحث ولا يحاول الالتجاء إلى الغير من ذوي الرأي في مثل هذه المسائل لينير له السبيل.. وهنا يحدث أحد أمرين: إما أن يجد الشاب فيمن حوله من الآباء والمدرسين والزملاء والرؤساء وغيرهم من أفراد المجتمع المحيط، من يدركون تمامًا طبيعة تفكيره في النواحي الدينية في هذه المرحلة فيقدمون له من الآراء، والكتب، والمثل العليا ما يوجهه إلى التفكير الصحيح في الدين بحيث يصل إلى نوع من الاتزان النفسي الذي يتماشى مع تعاليم الدين الصحيحة وإما أن ينشأ في وسط غير مدرك لهذه العوامل فيتخبط في تفكيره وقد يصل إلى الحقائق الدينية وقد لا يصل.. وهنا يُكمن سر الانحراف الديني عند بعض الشباب..
على أن هذا العامل النفسي هو المتصل بنزعة المراهق إلى التحرر في التفكير والبحث في الحقائق الدينية بنفسه ليس هو العامل الوحيد في الانحراف، فهناك أيضًا عوامل تتصل بطبيعة تفكير الشخص نفسه. فبعض الأشخاص بطبيعتهم لهم قدرة ضعيفة على التفكير السليم، ولذا يسهل انزلاقهم إلى الانحراف الديني.. وثمة أشخاص بطبيعتهم لا يقبلون على الاطلاع في الكتب والمصادر الدينية الصميمة، ولذا يسهل عليهم الوقوع في المغالطات الدينية والابتعاد عن الطريق الديني الصحيح..
ولكن إذا ضمنا سلامة هذه النواحي كلها فهناك مجموعة أخرى من العوامل التي لا يصح تجاهلها إطلاقًا وهي عوامل البيئة المحيطة بالشاب منذ نشأته وفي مرحلة المراهقة على الخصوص.. فالبيئة السمحة التي تفهم الدين وتسير على هداه في اعتدال تساعد على السلوك الديني المعتدل عند الشباب.. والبيئة المتزمتة المغالية التي تسبب ضغوطًا نفسية شديدة على الأبناء تجعل لهم استعدادًا للانفجار والتفكك والانحراف لأوهى الأسباب عندما تقل الرقابة، أو يتغير الوسط.
– ولا نعني بالبيئة مجرد ظروف الحياة المنزلية وسلوك الأبوين في الأسرة وحسب، وإنما نعني أيضًا ما يحيط بالشاب من رفقاء وزملاء ونوع النشأة التي مروا بها، ودرجة التدين التي يتصفون بها، فالشباب في هذه المرحلة يميلون لحب التجمع ويتأثرون ببعضهم البعض بدرجة شديدة جدًا..
ونظرًا لهذه النزعة نجد أن القادة والمفكرين الذين يوجهون المجتمع يهتمون جدًا بأن ينخرط الشباب تحت لوائهم منذ هذه السن المبكرة حيث قوة الدافع الاجتماعي وحيث القابلية للتأثر، وحيث الولاء الشديد للجماعة والطاعة للقائد ودستور الجماعة.
– فإذا صادف الشباب جمعية ذات صبغة دينية فالتحق بها ففي الغالب سيجد فيها من يحسن توجيهه ويساعده على حل مشكلاته في التفكير الديني، أما إذا لم يجد الشاب في بيئته هذه الأنواع من الجمعيات الدينية والاجتماعية فإنه يكون أكثر عرضه للانحراف الديني…
وإذا كان المجتمع صالحًا فإن فرص الانحراف أمام الشاب تقل نسبيًا عما إذا كان المجتمع غير صالح.. أي أن انحراف الشباب الديني يتوقف كثيرًا على سلامة المجتمع الذي ينشأ فيه، وعلى المبادئ التي يسير على هداها.. وهناك عامل آخر يصعب التعرض له وهو عامل التربية الجنسية؛ فالناحية الجنسية عند الشباب بلا شك مصدر كثير من القلق النفسي خصوصًا في المجتمع المصري. وكلنا يعرف جيدًا قوة الدافع الجنسي الغريزي في مرحلة الشباب على الخصوص.. وكلنا يعرف أيضًا القيود الاجتماعية والدينية المسلطة على الشباب في هذا الدور، وهنا يحدث نوع من الصراع النفسي الذي ينتهي عادة بتغلب الدافع الطبيعي بأية صورة من الصور. وقد لا يوافق الكثيرون على هذا، ولكنهم في الغالب يغالطون أنفسهم! فهناك صور شتى للتعبير عن الدافع الجنسي، وبعض هذه الصور لا يعرفها إلا صاحبها.. وغالبًا ينظر الشباب إلى هذه الصور من التعبير الجنسي على أنها أنواع من الخطيئة وذنوب لا تغتفر فيظن أنه قد خالف الدين، وخالف العرف والتقاليد، مما يزيد في حيرته وارتباكه، ويعرضه لمراجعة نفسه في التفكير الديني.. وعندما لا يجد في تعاليم الدين، بحسب إدراكه البسيط لها، ما يحل هذه المشكلة، فإنه قد يكفر بالدين ويقل اعتقاده واحترامه لرجال الدين لأنهم يجسمون هذه الأخطاء، ويعرضونه للضغط النفسي الشديد، وقد يؤدي به هذا الشعور إلى نوع من الإلحاد..
وهكذا يمر الشاب في سلسلة من التفكير المتضارب بين الشك واليقين، وبين الاعتقاد في الدين والكفر به.. وبين الاعتقاد في رجال الدين واتهامهم بالقصور وعدم القدرة على حل المشكلات الجنسية العويصة التي يقاسي منها..
إذن يمكن أن تستخلص أهم عوامل الانحراف الديني عند الشباب في عوامل تتصل بالشخص نفسه من حيث استعداده العقلي وقدرته على التفكير وعوامل تتصل بالنشأة المنزلية وما يسود فيها من نظم وقواعد تربوية وتمسك أو تهاون في الدين.. وكذلك عوامل تتصل بالبيئة في المجتمع العام من رفقاء، ومؤسسات، وجمعيات والطابع الاجتماعي العام، وبجانب ذلك نجد أن عامل التربية الجنسية المرتبط بالعوامل السابقة كلها.. باعتباره من أقوى العوامل التي تحدث التغيير في شخصية الشاب في مرحلة المراهقة على الخصوص..
وطبيعي أن علاج الانحراف الديني يتناول جميع العوامل السابقة من شخصية واجتماعية.
المدرسة فاشلة في تعليم الدين
وقابلت (حياتك) الدكتور أحمد زكي صالح، أستاذ علم النفسي التعليمي المساعد بكلية التربية… فأجاب على سؤالنا بقوله:
– أولًا يجب أن نفرق بين الانحراف وبين القلق الديني الذي ينشأ عند الناشئة في دور المراهقة.. لأن هذا القلق نتيجة لصراع بين القيم الاجتماعية الخارجية وبين حاجيات المراهق الفردية، ويزول هذا القلق إذا وجه التوجيه الصالح من المشرفين على تربية الشباب، وإذا لم يجد هذا القلق التوجيه فإنه قد يصبح انحرافًا..
ومعنى الانحراف الديني هو حيد الفرد عن مجموع الاتجاهات والتقاليد التي يعتبرها المجتمع ممثلة لمجموع الأفكار والاتجاهات التي يعبر عنها بالدين.. والمسئول عن التنشئة الاجتماعية عمومًا في أطوار النمو المختلفة هي المدرسة، بغض النظر عن نوع المرحلة ونوع التعليم، لأن المدرسة هي المؤسسة الاجتماعية التي أنشأها المجتمع للإشراف على تطبيع الناشئين بالصفات التي تتفق وفلسفة هذا المجتمع الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية.. ولذلك فإن من أهم العوامل المسئولة عن هذا الحيد هي المدرسة.. وخاصة مناهج التعليم الديني بها.. لأنها في الواقع لا تسد حاجة إيجابية عند الناشئة. فإن تعليم الدين ما هو إلا طريقة يقصد بها إكساب الناشئين عادات دينية واجتماعية معينة، ولكن يلوح أن مناهج الدين لا تهدف إطلاقًا إلى تكوين هذه العادات، بل تكتفي بمجرد ترديد ألفاظ لا يكلف مدرس الدين نفسه الربط بينها وبين المشكلات الحية في المجتمع الحديث..
وقد أسيء فهم التربية الدينية نتيجة للعوامل السياسية والاقتصادية التي خضع لها المجتمع المصري فترة طويلة والتي جعلت من الدين مجموعة المبادئ القدرية والاستسلام للقدر، وعدم سعي الفرد لتحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. بينما الدارس في أسس الدين الإسلامي مثلًا يجد أنها مليئة بحرية الإرادة الإنسانية والحث على السعي لتحسين المستوى المادي والمعنوي..
وإذا أردنا أن نحول بين أطفالنا وبين هذا الحيد في الاتجاهات الدينية، فيجب أن نسد الثغرة بين التعاليم الدينية وبين مقتضيات المجتمع الصناعي.
ثلاثة عوامل اجتماعية
أما الدكتور علي عبد الواحد وافي أستاذ الاجتماع، ووكيل الآداب سابقًا فيلخص أهم أسباب الانحراف الديني في هذه العوامل الثلاثة التالية:
أولًا: ضعف التربية الدينية في المدارس. فالمدارس المصرية توجه معظم عنايتها إلى التعليم الديني وتغفل نواحي التربية الدينية التي تتمثل في الأمور العملية وأخذ الشباب بالشعائر الدينية..
ثانيًا: عدم محافظة الأسر في المدن على الأخص، على قواعد الدين في معاملاتها واتصال أفرادها بعضهم ببعض..
ثالثًا: انحدار بعض الصحف والمجلات في تيارات تغري الشباب بالخروج عن قواعد الدين. والتحرر من نظم الأخلاق الدينية.
وعلاج هذه العوامل كلها يكون بالقضاء على هذه الأسباب..
(فيلم) واحد يقضي في يوم على تعاليم سنة
وذهبت مجلة (حياتك) إلى الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي، المدرس بالأزهر ورائد جمعيات الشبان المسلمين الديني، وأمين الفتوى بالأزهر.. فأجاب عن السؤال بقوله:
أولًا: عدم وجود الأسرة المسلمة بمعناها الصحيح الكامل إذ أن الفتى ينشأ في الأسرة فلا يجد أمامه قدوة طيبة تطبعه من أول الطريق على الغريزة الدينية السمحة، والتطبع بتعاليم الدين الكريمة.. ونحن نعرف أن تأثير القدوة يفوق بمرحل تأثير العظة القولية أو النضج الشفوي.. وقد يعظ أحد الأفراد الكبار فردًا من الناشئين بعظة لها صبغة دينية وخلقية فيقارن الناشئ بين مفهوم هذه العظة وبين تصرفات أفراد الأسرة المنحرفة عن تعاليم الدين وأحكامه فيقع في حيرة تبلبل الخاطر ولا يستطيع التوفيق بين ما يسمع وما يرى!
ثانيًا: نلاحظ أن التربية الدينية في مختلف مراحل التعليم سواء كان التعليم دينيًا أم مدنيًا لا تستوي على الطريقة القويمة لأنها تعتمد أولًا وقبل كل شيء على تلقين المعلومات والنصوص والأحكام، وترديد كلمات الحل والحرمة دون أن تغمر هذه النصوص بروح قائلها، وشارحها، وموضحها.. والمربي الديني لا ينجح في مهمته إلا إذا كان صاحب روح في دعوته، وصاحب تفنن في توجيهه..
وكذلك لا نرى في هذه التربية الدينية عناية ملائمة بالتطبيق العملي لما يتلقاه الناشئ من نصوص دينية ومن قواعد روحية فيتلقى الطالب مثلًا أحكام الصلاة وقد تمر عليه بعض فرائض الصلاة أثناء التعليم فلا يجد أداة لهذه الفريضة. ومن المؤسف أن كثيرًا من المعاهد الدينية لا تؤدي فيها شعيرة الصلاة أثناء أوقات الدراسة بطريقة جماعية كما كنا نفعل أثناء طلبنا للعلم منذ قرابة عشرين عامًا.
ويلزم هنا أن يكون الاعتماد في التربية الدينية على مربين لهم إخلاص الدعاة أكثر من الاعتماد على معلمين لهم سعة المعرفة. والقدوة عند الأستاذ الموجه هي القطب المغناطيسي الذي يجذب تلاميذه وطلابه إلى ما يريد من صلاح ديني أو استقامة أخلاقية.
ثالثًا: وقد يزود الناشئ بجانب من الزاد الديني داخل المدرسة أو المعهد ثم يخرج إلى الشارع، أو يركب الترام أو السيارة، أو يدخل النادي، أو يشاهد أفلامًا سينمائية، فإذا بالمحطمات القوية لما تلقى من زاد ديني، وإذا هو يجد بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله المغريات المادية والحسية والجنسية، تحرضه بعنف وقسوة وشدة على الاستجابة لها والخنوع أمامها.. وما يبنيه مئات المدرسين في سنة قد يهدمه شريط سينمائي واحد من النوع المتحلل في يوم أو ساعات!
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق