(وقد أحزنني وأنا في (سجن الطور) أن الإخوان عمومًا يرفضون أي اتهامٍ لسياستهم، وقد
قلت: إنه بعد هزيمة أُحد وقع اللوم على البعض من الصحابة، فلماذا لا نفتش في
مسالكنا الخاصة والعامة، فقد يكون بها ما يستدعي التغيير، وما يفرض تعديل الخطة،
لكن هذا التفكير لم يلقَ ترحيبًا).
محمد الغزالي
(1)
سؤال أين الخلل سؤالٌ مركزي، يجب أن يطرحه على نفسه كل شخص، وأن يتم طرحه من قبل أي تكوين اجتماعي بدءًا من علاقات الصداقة وانتهاءً بمجالس الأمم مرورًا بالتيارات والمنظمات والدول.
إنه سؤالُ المراجعة والنقد والإصلاح، وهو في الوقت نفسه السؤال المرفوض، أو على الأقل، الذي يتم الترحيب به على مضض كي لا يقول الناس: لا يقبلون النقد، ثم تتم محاصرته بعد ذلك حتى يولي هاربًا فلا يعقب.
ربما نشترك جميعًا في ثقل النقد والمراجعة على أنفسنا، لكنه ثقلٌ يجب أن نتجاوزه في عامة أحوالنا، وأن نستمع فنُحسن الاستماع، وأن نتَّبع أحسن ما نُنصح به فنُحسن الاتباع، لكن هذا الهوى المتمثل في ثقل النقد علينا قد يُتصور منا كأفراد، لكنه داءٌ دبَّ للتيارات والجماعات، إن كانت فيه هلكتها.
لو كنتَ إخوانيًّا: فسيتم الرد عليك بعباراتٍ مجملة، ومطاطة، حتى إذا استيأسوا ورأَوك صبرت على مواصلةِ قرع باب الإصلاح= ستتم إحالتك لأحد المسؤولين عن عمليات الامتصاص والتخدير، سيمسك بالورقة والقلم، ويكتب خلفك بعناية واهتمام، ثم بعد ذلك يعدُك بالنظر في الموضوع ومناقشته مع الإخوة بعد إظهاره الفرحَ بك، وقد يتم تكليفك ببعض الأشياء تعطيك شيئًا من الرضا عن نفسك، وتستهلك طاقة السؤال عندك.
لو كنت من الاتجاهات السلفية التنظيمية، سيتم التعامل مع انتقاداتك دائمًا على أنها شبهاتُ غرٍّ ساذج، تحتاج للرد من المشايخ، مع بَذلِك الجهد لاحتوائك أيضًا.
إن الاستعصاء على النقد، وادعاء العصمة بلسان الحال، أو صرف الأخطاء لتكون فحسب في التوافه= هي سُنة اتبعها كثيرٌ من الإسلاميين، وهو مرض يستشري في التيارات والجماعات بغض النظر عن أيدلوجيَّتها، لكننا هنا نرصد قبحه في تيارات تنتسب لنبيٍّ -ﷺ- قال: ((الدِّينُ النَّصيحةُ)).
نعم، فهذا هو نهج التيارات الإسلامية منذ زمن طويل، وأنا على يقينٍ تام مما قرره الأستاذ عمر عبيد حسنة: (إن التستر على الأخطاء باسم المصلحة العامة، وحفظ الكِيان، والتوهم بأن الحسبة في الدين تؤدي إلى البلية والتمزق = أمرٌ خطير، ومفسدة فظيعة تدفع الأمةُ ثمنها الدماء الغزيرة، وليس هذا فقط، بل قد يؤدي هذا إلى ذهاب الريح، وافتقاد الكيان أصلًا، فالأمة بدون هذه الحسبة، وهذا التناصح، تعيش لونًا من التوحد يشبه إلى حد بعيد الورم الممرِض).
وقلَّ أن يُقصِّر قوم في النصيحة، ويغشَوا ما بينهم مداهنة، ويضيعوا حق الله لِحقِّ الصحبة= إلا ابتلاهم الله بالفُرقة.
(2)
في دلالةِ لفظةِ النصيحة معنًى عظيمٌ جدًا؛ فهي طلب صلاح الشيء وتخليصه مما يَغْبِشه ويُفسده.
وكل نصيحة لا يَطلب صاحبُها صلاحَ المنصوح، ولا يبتغي بنصيحته نفعَه= فهي نصيحةٌ مدخولة كاذبة في دعوى أنها نصيحة.
وكل منصوح لا يستحضر – إذا عابَه الناصحُ- أن ذلك العيب إنما هو لطلب صلاحه وابتغاء نفعه= فهو قاطع لطريق النصيحة بين المسلمين، وهو كمن منع عن نفسه الغذاء والدواء؛ يوشك أن يهلك.
وأقل شيء في الناس اليوم النصيحة الصادقة، وأكثر الناس إما سكتوا غشًّا، أو نصحوا كذبًا، والسكوتُ غشًا أخطر من النطق كذبًا؛ إذ لا يَعدم المنصوح فائدة، ولو لم تكن النصيحة نزيهة.
وأكثرُ السكوت غشًا إنما هو رعايةٌ لرضا الناس وسخطهم، وخضوعٌ للتقاليد الاجتماعية الزائفة التي توشك أن تَنْفُضَ الأصحابَ من حول الناصح نفضًا؛ فإن الناس لا يصبرون عمن يكاشفهم، ويعشقون من يكذب عليهم ويجملهم في أعين الناس وأعين أنفسهم.
وإن كثيرًا من الفساد يرجع إلى تصور كثير من قادة التيارات والجماعات أنهم لا يحتاجون إلى نصح أحد، وأنهم مكتفون ذاتيًا يقومون بأمرهم، لا فضلَ لأحد يزيد به على ما عندهم.
عقيدة النقاوة والاكتفاء الفكري الذاتي يمكننا أن نرصدها بوضوح عند الإخوان المسلمين، فهي مسيطرة على البنَّا وهي التي حجزت الجماعة في طورها الأول عن الانتفاع التام بطرح المدرسة الإصلاحية أو غيرها من منابعه، وذلك اكتفاءً بالمنظومة الأيديولوجية التي صاغها البنا، وينتج عن هذا اعتقادُ البنا أن تياره هو الأشمل، وأنه جمع خير ما في التيارات والأفكار المعاصرة له، ولا زال هذا الاعتقاد باقيًا في الجماعة حتى الآن، بل هو في نظري من خصائص الحالة الحركية التنظيمية أينما وجدت، وهو نفس الخطأ الذي تقع في كثير من أطياف السلفية المعاصرة.
يقول البنا:
(وموقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر، ففرقت القلوب، وبلبلت الأفكار، أن نزنها بميزان دعوتنا، فما وافقها فمرحبًا به، وما خالفها فنحن براء منه. ونحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءًا صالحًا من أي دعوة إلا ألمَّت به وأشارت إليه)([1]).
ويقول البنا:
(فكرة الإخوان فكرة جامعة؛ لأنها تستمد من الإسلام الحنيف، نستغني بها عن غيرها، أخذت من كل شيء أحسنه وابتعدت عن مزالقه وأخطائه. أخذت من فكرة الأحزاب السياسية الغيرةَ الوطنية والحماسة الإصلاحية، وطرحت تنابذها وأحقادها، وأخذت من الصوفية روحانيتها وإخاءها وتركت فرديتها واعتزالها، كما أخذت من فكرة الجماعات والأندية بأنواعها دقةَ نظامها ونشاطها وطرحت غفلتها ولهوها).
يقول محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام سابقًا:
(في مدرسة الإخوان يتعلم الإنسان كيف يتجرد لفكرته النبيلة، فلا يجمع معها أفكارًا أخرى قد تناقض أو قد لا تتفق معها ولو في بعض الجزئيات، وكيف ذلك وفكرته فيها من الشمول والكمال ما يعوضه عن النظر إلى أية فكرة أخرى) ([2]).
أما التيارات السلفية المعاصرة فغنية عن بيان تأصُّل هذا الداء فيها، فَهُم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة في نظر أنفسهم، ويكاد ينحصر نقد السلفية لذاتها في الهامش المترامي الأطراف، نقطة سوداء ألقت بطرف ثوب أبيض سيتم نزعها منه، فهي حتى ليست واقعة عليه هو نفسه، مرض النقاوة في أعلى تجلياته ذو شخصية سلفية للأسف الشديد.
لماذا كان باب الفساد الواسع هو أن تعتقد أن جماعتك المعينة قائمة بالدين كله أكثر من غيرها من أمة محمد؟ |
الجواب: إن الدين علم وعمل، ولا يملُك واحد من الناس بما في أيدي الناس من أدوات علمية أن يحصي ما مع أفراد طائفته من العلم والعمل، ثم يزنه بما مع أفراد باقي طوائف الأمة كلها من العلم والعمل، ثم يخرج بحكمِ أفضلية طائفته، سواء كان هذا الحكم ظنيًا أو قطعيًا؛ كل ذلك باب مغلق، ولا حتى في طوائف بلد واحد، إذ لا يحيط به إلا الملكُ الحقُّ جل وعلا.
وغاية ما يستطيع الناس: هو نوعٌ من المفاضلات في صور من العلم والعمل، كأن يفضِّل قولًا على قول لصحة أدلته في نظره، أو عملًا على عمل لثبوت الأدلة بذلك، أو بابًا مخصوصًا تستطيع أن تثبت بالحُجة أنكم قمتم به أحسن من غيركم، أما تفضيلٌ عام: فلا يجوز إلا ببينة لا سبيل إليها؛ لذلك لا يملك الناس تفضيل طوائف إلا التفضيل العام الزمني الثابت للقرون المفضلة وهو بنص الخبر، ولولا نص الخبر ما استطعناه.
حتى تفضيل أهل السنة إنما هو لكونِ الصحابة فيهم، وإذا أخرجتَ السلف لا يبقى إلا تفضيل جملةٍ على جملة في باب معين من أبواب العلم، وهو ما أجمع عليه السلف، وإلا ففي المُعَيَّنين من خارج أهل السنة من هو في الحكم العام أحسن عملاً ودينًا من مُعَيَّنين كثر من أهل السنة.
وأكثر الناس إنما يطلقون هذه التفضيلات الحزبية مرسلة إرسالًا، لا يتكلفون معها حتى بَسطَ حُجة تستحق النقاش.
والعجيب أن هذه الحزبيات يسترسل فيها الناس، بعد أن كان أول أمرهم قولهم: إنما نحن جماعة من المسلمين، نقوم بفروض كفائية كما تقوم جماعات أخرى بفروض أخرى وفقط.
لكنه الشر حين يجعل مَسارِبَه على النفوس خطوات.
قل هو من عند أنفسكم، تلك الحقيقة القرآنية الناصعة= ضعيفة الحضور للأسف الشديد عند التيارات الإسلامية المعاصرة، كل فشل وسقوط هو تكالبٌ من الأعداء على قَوِي أمينٍ أدى ما عليه، وتلك النظرة للذات وللأخطاء هي أعظم أبواب الخلل.
([1]) «رسائل البنا» (ص/24).
([2]) مقال بعنوان: «في مدرسة الإخوان تربينا».
لا تعليق