للأستاذ جيمي بشاي

مدرس علم النفس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

لو فرضنا أنه كان في إمكانك أن تختار (الجينات) أو الصفات الوراثية قبل أن تبدأ حياتك… أو لو أن علم الوراثة تقدم على النحو الذي تقدمه علم الفلك في الأيام الأخيرة فأصبح مقدوره أن يحدد مقدمًا نوع الجنين وصفاته، ترى أي الصفات كنت تطلب لنفسك؟

لعلك كنت تطلب صفات أنت محروم منها، كطول القامة، أو قوة الاحتمال، أو حدة الحواس، أو القوة والصحة… أو كنت تطلب صفات عقلية كسرعة الفهم، وقوة الذاكرة وغيرهما من مكونات الذكاء البشري.. ولكنك بعد أن تحصل على كل هذه الصفات لا تلبث أن تتساءل: وما جدوى هذه كلها إذا حرمت السعادة!

أنت تريد السعادة إذن، لا مجرد صفات بدنية وعقلية نادرة. ولكن السعادة لا تورث كما تورث (الجينات)؛ ولا تهطل من السماء عفوًا كماء المطر؛ إنما السعادة تكتسب اختيارًا، تتأتى عن دراسة وفهم حقيقيين: دراسة قدراتنا، وما حبتنا به الطبيعة من قابليات، وفهم أنفسنا وما انطوت عليه من أنماط، وعادات، وحيل.

وإذا بدأت بدراسة نفسك وفهمها فهمًا حقيقيًا، فسوف تجد أنك مسير في بعض تصرفاتك، ولكنك مخير في أكثرها، وبقدر دراستك ستزداد حريتك وقدرتك على إسعاد نفسك..

إننا نلبس ثوب العمر بدون أن نستشار، كما يقول عمر الخيام، فنولد وكل يحمل نصيبه من قدرات فطرية هي عتاده في معترك الحياة؛ ولك أن تقيم وزنًا لهذه القدرات فتعمل على تنميتها واستغلالها، ولك أيضًا أن تدفنها أو تغلق عليها حتى يوم القيامة!.. كما فعل العبد في أسطورة الوزنات!..

والأسطورة تقول أن سيدًا كان مسافرًا، فدعا عبيده الثلاثة ودفع إليهم ماله؛ فأعطى واحدًا خمس وزنات، وآخر وزنتين، وثالثًا وزنة واحدة، ثم سافر.. ومضى الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها وربح خمس وزنات أخرى، وكذلك فعل الذي أخذ الوزنتين وربح وزنتين آخريين.. وأما الذي أخذ الوزنة فإنه حفر في الأرض ودفن فضة سيده.. وهكذا نفعل نحن بما وهبنا من قدرات! بعضنا يرى في الحياة مغامرة متجددة فيختار آماله، ويحدد أهدافه ويستغل طاقته العقلية والجسمية في تحقيقها.. والبعض الآخر يرى في الحياة مسرحًا للميول التافهة والأوهام السخيفة فيخطئ في تقدير الأشياء فلا يحظى بشيء، ويختم حياته بالخذلان والعجز…

إن النجاح والفشل في الحياة يسيران جنبًا إلى جنب، والفرق بين الناجح والفاشل ينشأ من داخل نفسيهما، لأن الفرد هو الذي يصنع مصيره بيده عندما يختار طريقه في الحياة ويحدد لنفسه غايته وأهدافه..

ماذا تريد من الحياة: النجاح أم الفشل؟ إن النجاح يقترن عادة بالسعادة، والفشل يقترن بالألم والشقاء. والنفس السليمة تفتش عما يسعدها وتنفر من الفشل والألم؛ ولكن النفس المريضة تفعل العكس، فهي تستشعر اللذة في الألم والرضا في الفشل فتسعى إلى حتفها بيدها!..

ولكن كيف يحدث هذا الالتباس الغريب؟

إن علم النفس التجريبي يثبت أن الإنسان مخلوق عجيب، فهو يستطيع أن يربط بين شيئين لا صلة لواحد منهما بالآخر.. وهو دائمًا ينشئ علاقات ليس بينها ارتباط منطقي معقول. ولعلك تذكر التجربة العلمية الشهيرة التي أجراها العالم الروسي (بافلوف) وتوصل إلى مثيلها ثورنديك وواطسون وغيرهما من العلماء. استطاع بافلوف في تجربته هذه أن يعود كلبه على الاستجابة لرنين الجرس لأنه مقترن بتقديم الطعام، فكان يسيل لعابه كلما سمع صوت الجرس. ونحن نعلم أنه ما من علاقة منطقية تربط بين صوت الجرس وانفعال الجوع، ولكن ارتباط الرنين بتقديم الطعام هو الذي جعل الكلب يستشعر الجوع..

وأطلق بافلوف على هذه الظاهرة اسم (الاستجابة الشرطية).. وقد وجد عدد من الباحثين، ولا سيما (دولارد) و(ميللو) من جامعة (ييل)، في هذه الظاهرة أساسًا لشرح ظواهر نفسية أخرى كالتعلم، والدوافع والحوافز.. بل والعلاج النفسي أيضًا!..

إن أكثر ما نتعلمه في طفولتنا غير منطقي لأنه يخضع لعوامل البيئة والصدفة. فهناك أطفال ينشئون في مدن تقع على شواطئ البحار ونجد أنهم يشبون وهم مولعون بالبحر، ينظم أدباؤهم الشعر في تمجيده، ويدرس الممتازون منهم علومه، ويتطوع عدد منهم للذود عنه فيلتحقون بخدمة الأسطول البحري. وينشأ أطفال آخرون في مدن جبلية فتختلف عاداتهم كل الاختلاف عن عادات غيرهم من الأطفال.. ما الذي يدفع هذا إلى الالتحاق بالبحرية وذاك إلى تعلم مهارة تسلق الجبال؟! إنها البيئة التي شكلت الدوافع. كلنا نتساوى في الدوافع الفطرية كالجوع والعطش، ولكننا نكتسب في حياتنا- قصدًا أو عفوًا- دوافع ثانوية عديدة نتعلمها وتصبح عنصرًا مهمًا في تكييف ميولنا واتجاهاتنا في الحياة. والطريقة التي يتم بها هذا الاكتساب هي طريقة الاستجابة الشرطية التي كشف معالمها بافلوف.

ولهذه الاستجابة الشرطية خصائص مهمة؛ أهمها أنها غير منطقية، ولعل هذا يفسر لنا كيف نخطئ أحيانًا في ربط اللذة بالألم، والضعف بالعنف، والنقص بحب الظهور.

كذلك من خصائصها أنها تقوى وتدعم بطول المدة فيصعب التخلص منها متى تأصلت في النفس وأصبحت جزءًا مهمًا من كيانها. أعرف طالبة كانت تسكن على قيد خطوات من الجامعة، ولكنها ظلت طيلة الأربعة الأعوام التي أمضتها في الدراسة الجامعية تستخدم (التاكسي) في ذهابها وعودتها، ولم تتخلف مرة واحدة عن اتباع هذا النظام، وكانت تفضل أن تتغيب عن الجامعة إذا لم يتوفر لها المال.. وسألتها في ذلك فلم تبد سببًا معقولًا سوى أنها تعودت على ذلك!.

ومنذ أيام قلائل قابلتها في أحد الشوارع، وعرفت أنها التحقت بعمل في إحدى الشركات تتقاضى منه راتبًا محدودًا. وقبل أن أبدي عجبي لهذا التحول الجديد في حياتها فسرت لي موقفها بأنها كانت وهي طالبة تتقاضى مصروفًا كبيرًا من والدها، أما الآن فهي تكسب مالها بيدها.. وبذلك غيرت من سلوكها وأهدافها..

ومن خصائص الاستجابة الشرطية أيضًا أن أثرها يمكن أن يزول إذا حكم الفرد إرادته وصمم على التخلص منها. وفي التجربة التي أجراها بافلوف استطاع أن يفصم العلاقة التي تكونت بين الجرس- وهو المؤثر غير الشرطي- والاستجابة الشرطية- وهي سيل اللعاب- بأن راح يدق الجرس ولا يكافئ الكلب بالطعام- وهو المؤثر الشرطي أو الإيجابي- وبتكرار هذه العملية تبدد أثر العلاقة، وانتهى الارتباط بين المؤثر والاستجابة، وأصبح الكلب لا يعبأ برنين الجرس…

وكثير من العادات التي تأصلت فينا وحدت من حريتنا نستطيع أن نتخلص منها بهذه الطريقة عينها، فلا نسمح بظهور المؤثر الشرطي أو الإيجابي الذي يغذي العادة ويعمق جذورها في أنفسنا.. وقد سمعنا أخيرًا عن وسيلة ابتكرها أحد الأطباء للتخلص من عادة التدخين تقوم على هذا المبدأ.. فأنت إذا تناولت سيجارة ودخنتها بعد تناول حبة من دواء خاص فلن تتذوق رائحة الدخان لأن الحبة تكون قد أبطلت مفعول المؤثر الشرطي (نكهة الدخان) فتقلع عن العادة بمنتهى السهولة.

وهكذا يقدم لك علم النفس التجريبي الدليل على حريتك وقدرتك على تسيير دفة نفسك وتحقيق السعادة التي تنشدها.. يقول الفيلسوف الفرنسي (دي نوي) في كتابه (مستقبل البشرية) إن الإنسان في جهاده للتوفيق بين دوافعه إما سائر للأمام، أو مرتد إلى الخلف، وليس في مقدوره أن يقف لأن الوقوف ارتداد إلى الخلف في تيار الحياة الدافق.. فكن إيجابيًا ولا تترك أهدافك ورغباتك تشكلها الصدفة..

اسأل نفسك: ماذا تريد من الحياة؟ ولا يكفي أن تجيب على السؤال، بل اشرع فعلًا في التنفيذ..

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *