للأستاذ زكي المهندس
عميد كلية دار العلوم سابقًا وعضو مجمع اللغة العربية

في هذا المكان من كل عدد، يجلس إليكم- أيها الشباب- المربي الكبير كاتب المقال، ليحدثكم حديث الوالد العطوف الواعي عن حياتكم، ويدلكم على أمثل السبل لأن تجعلوا منها حياة ناضجة
أيها الشباب:
نحن شعب لا يعوزه الذكاء ولا المواهب، ولا ينقصه النشاط والحيوية. إننا سلالة أولئك الذين أقاموا الأهرام، وكافحوا الصحراء، وغيروا مجرى النيل، وكانوا أول من رفع لواء المدنية وسطر التاريخ.. إننا سلالة أولئك الذين استطاعوا بنشاطهم وحيويتهم أن يبنوا دولة إسلامية عظمى ملأت الأرض بأسًا وقوة، وعدالة وحكمة، وكان لها على أوروبا فضل عظيم…
حقًا إن شعب مصر معدود من أذكى شعوب الأرض، ولكن شيئًا واحدًا يعوزه، وهذا الشيء الواحد هو سر كل نجاح، وعماد كل تقدم: ذلك هو القدرة على مواصلة العمل؛ هو الجلد، هو المثابرة…
إننا نبدأ العمل في غيرة تلهب قلوبنا، وفي حماسة تملأ صدورنا، ثم ما نكاد نمضي فيه حتى يعترينا السأم والضجر فننصرف عنه إلى عمل آخر لا يكون حظنا منه إلا كحظنا من سابقه، وهكذا يتبدد انتباهنا، ويتآكل نشاطنا، وتتشتت جهودنا، ثم ننظر فإذا العمر قد ولىَّ، والحياة قد أدبرت وليس إلى مردها من سبيل، فلا يبقى لنا منها غير الذكريات.
حقًا- أيها الأبناء- إننا مصابون بداء الضجر!.. إننا نتعجل النتائج، ويغيب عنا أن للأعمال- كما للنبات والحيوان- عمرًا لا بد أن تستوفيه قبل أن تنضج وتؤتى ثمرها شهيًا طيبًا. إن تاجرنا يتوقع الربح في اليوم التالي لفتح متجره، وصانعنا ينتظر زيادة الأجر بعد الشهر الأول من بدء عمله؛ وموظفينا يطمعون في الترقية قبل أن تعرف في المصالح أسماؤهم.. لقد ألِفنا العيشَ السهل في هذا البلد السهل فأصبحنا نطمح إلى النجاح السهل الذي لا يكلفنا كبير مشقة.. وهذا هو الفشل بعينه!..
فتشوا- أيها الأبناء- في مكاتبكم، وبين كتبكم وأوراقكم، ثم خبروني: كم من مقال بدأتم كتابته ولم تتموه! وقصيدة عالجتموها ولم تستطيعوا على إكمالها صبرًا؟ وكتاب نافع شرعتم في قراءته ثم سئمتموه؟!..
لقد أصبحتم تملون الحديث الطويل، وتضجرون من المحاضرة المسهبة، وتسأمون كل عمل يجري على نمط واحد… لقد أصبحتم تقنعون في دراساتكم ببضع مذكرات موجزة، أو كتب سهلة مختصرة تعينكم على اجتياز الامتحانات… إن قليلًا منكم هم الذين يَغْشَون دُورَ الكتب، وأقل من هؤلاء الذين يعتمدون في تحقيق مسائل العلم على المطولات من أمهات الكتب. لقد أصبح كثير من طلبتنا يقنعون في معاهدهم بتحصيل أنصاف أفكار لا تشفى غلة الباحث، ولا ترضي عقل المفكر. إنه ليحزنني أن أقول أن داء التشتت والضجر هو آفة الجيل الحاضر! لقد أصبحت السرعة ومحبة التغيير من أظهر خصائص هذا الجيل. ما أشد حاجة الشباب إلى نصيحة كونفيوشيوس حكيم الصين حين يقول: (لو أنني أبني جبلًا ثم هجرت عملي قبل أن أضع الحجر الأخير في قمته لعددت نفسي فاشلًا).. لقد سئل (شيشرون) عن أهم عوامل النجاح، فأجاب: (إن أول دواعي النجاح المثابرة، وثانيها المثابرة، وثالثها المثابرة)!.. وقبل لأديسون المخترع المعروف: (هل كانت مبتكراتك كلها وحيًا وإلهامًا هبطت عليك وأنت راقد تحلم في فراشك؟) فأجاب: (إني لم أعمل عملًا له قيمة بالمصادفة، ولكني حين أفكر وأرى أن غاية معينة تستحق أن تدرك لفائدة البشرية أسدد إليها عزيمتي، وأثابر على التجارب حتى أصل إلى غايتي.. وما زاولت عملًا قط وهجرته قبل أن يتم)..
إن تاريخ المدنية تاريخ عجيب يصور لكم- أيها الفتيان- ما استطاعت قوة الجلد والمثابرة أن تدركه من نتائج. إن ذلك التراث العظيم الذي نستمتع به اليوم من علم وفن وفلسفة ليس إلا وليد الجد، والمثابرة، والجهد المتصل.. إن قوة المثابرة هي التي أقامت الأهرام، والمسلات، والمقابر والمعابد، وأخرجت لنا تلك الصورة الكاملة العجيبة لحياة قدماء المصريين.. إن قوة المثابرة هي التي أخرجت لنا تلك المجلدات الضخمة التي تعمر بها خزائننا.. إن قوة المثابرة هي التي أمدتنا بتلك المخترعات والمستكشفات التي حولت العالم من تفاهة وظلمة إلى سمو وتقدم ونشاط.
حقًا إن مدنية العصر الذي نعيش فيه ليست إلا ثمرة تلك الجهود المتصلة، والدأب المستمر.. لقد قضى (جيبون) عشرين سنة في وضع مؤلفه (سقوط الدولة الرومانية).. وسلخ (وبستر) من عمره ستًا وثلاثين سنة في جمع الكلمات وتعريفها والبحث في أصولها حتى أخرج للعالم معجمه المشهور.. وظل (نيوتن) عشرين سنة يعالج خطأ بسيطًا في قانون الجاذبية حتى أصلحه. وعمل (تيتيان) الفنان المشهور سبع سنين متوالية في رسم صورة واحدة أسماها (العشاء الأخير)…
وفي الشرق- كما في الغرب- أمثلة رائعة لقوة الجلد والمثابرة. فهذا (أبو الفرج الأصبهاني) يقضي خمسين سنة في جمع كتاب (الأغاني) أعظم سجل للأدب العربي… وهذا (عبداللطيف البغدادي) يقضي حياته كلها في الكتابة والتأليف حتى أخرج للناس أكثر من مائة وستين كتابًا من عيون الكتب.. وهذا (ابن منظور) يخرج لنا بجهده الفردي الرائع (لسان العرب) في عشرين مجلدًا… وهذا (ابن رشد) فيلسوف العالم يقف حياته كلها على البحث والدرس والتأليف، لم ينقطع عن ذلك إلا في ليلتين: ليلة عرسه، وليلة وفاه أبيه… وبين أيديكم تفسير الطبري وتاريخه وهو عمل ضخم تنوء به جماعة!…
سلوا- أيها الأبناء- تلك المجلدات الضخمة التي ترونها في الخزائن ودور الكتب، كم من الجهود بذلت في تأليفها أو جمعها؛ وكم من الصعاب والمشقات عناها أربابها وصبروا لها حتى أتموها! ولم يكن لهؤلاء العظماء من وسائل التيسير ما لنا اليوم.. لم يعرفوا الترف واللهو كما نعرف، ولم يجلسوا إلى مكاتب مريحة ولا على مقاعد وثيرة كما نجلس؛ ولم يستضيئوا بمصابيح كهربية، ولا استعانوا بآلات كاتبة، ولم يتلمسوا الشهرة والمجد الذاتي، بل عاش كثير منهم في شظف من العيش، ثم مات في خفاء وظلمة، ولكنهم خلفوا للعالم تراثًا يبقى على الزمن، ولم يكن نجاحهم سرًا من الأسرار، وإنما هي العزيمة، والجلد، والمثابرة، ومحبة العالم للعلم، وللعلم وحده…
أيها الشباب:
نحن لا نطمع في أن يكون لكم صبر هؤلاء العظماء وجلدهم؛ ولكنا نطمع في أن تروضوا أنفسكم على الصبر والعزم لإتمام ما تبدءون به من أعمالكم العادية، ليكن عملك ما يكون: كتابة مقال، أو تأليف رواية، أو نظم قصيدة، أو قراءة كتاب، أو تحقيق مسألة علمية في المطولات من الكتب، أو مشروعًا تجاريًا أو صناعيًا، أو ما شابه ذلك من أعمال؛ فليس المهم أن تبدأ ولكن المهم أن تمضي في عملك إلى النهاية، وأن تذلل كل ما يعترضك من صعاب…
ولعله من الخير أن أختتم حديث اليوم بعرض بعض توجيهات قد تجدون فيها عونًا على الدأب والمُضي فيما تأخذون به أنفسكم من أعمال:
• ليكن لك من عملك غاية واضحة محددة تؤمن بها، وتحرص على إدراكها. إن أسوأ ما يبتلى به المرء في حياته أن يصبح نهبًا للغايات المختلفة والأعمال المتنوعة ثم تقعد به همته عن أن ينجز شيئًا منها. إن السهم إذا خرج من قوسه لا يتردد بين مختلف الأهداف حتى يعثر بالهدف الذي وجه إليه.. إن الإبرة المغناطيسية لا تتسكع في كل جهة باحثة عن الجهة التي يجب أن تشير إليها.. إن النملة على صغرها وضعفها تستطيع أن تنجز كثيرًا لأنها محدودة الغاية، ولكن الفراشة لا تزال هائمة حائمة حول المصباح حتى يتآكل نشاطها وتحترق وتصير رمادًا.. فخذ درسك- أيها الفتى- مما حولك من ظواهر الطبيعة.
• إذا ما وضعت الغاية نصب عينيك، وملأت بها نفسك، فابدأ العمل وامض فيه لا يصرفنَّك عنه ما يجدّ في سبيلك من عقبات، وما يقوم حولك من مغريات. وكثيرًا ما يحدث أن تستشعر في أثناء العمل صعابًا تغريك باليأس، وتوحي إليك بالانصراف عن العمل إلى غيره، فاحذر هذه اللحظات. إنك إن تخاذلت وألقيت بسلاحك واستسلمت تضاعفت أمامك الصعاب، وفقدت كل أمل؛ ولكنك إذا قاومت وثابرت فقد يدهشك أن ترى جميع الصعاب والعقبات تهون وانهارت بين يديك كما ينهار الجليد في حر الشمس. واجه كل شدة في عملك بعزيمة أشد منها…
• وإذا مضيت في عملك في جد وإخلاص وعزم، ثم شاءت الظروف أن تخفق في إدراك الغاية التي كنت ترجوها فلا تفقد الأمل، ولا تستسلم لليأس، وكن واثقًا أنك قد أفدت من هذا العمل كثيرًا، فإن من شأن هذه التجربة أن تولد فيك روح الغلبة، وأن تعودك المقاومة فيما يجد من أعمال أخرى، وأن تُعدك لمواجهة صعاب أشد، ومزاولة أعمال أعسر وأشق..
إن حياتكم الجديدة حياة معقدة كثيرة المغريات ودواعي القلق. إن نجاحكم في هذه الحياة يتطلب منكم عصبًا قويًا لا يضعف، وعيونًا يقظة لا تطرف، وانتباهًا مركزًا ثابتًا لا يتشتت ولا يتوزع، وعزمًا ماضيًا لا يهين ولا يلين. فإذا بدأتم عملًا فأحبوه، وامضوا فيه إلى النهاية فذلك سر النجاح…

– نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *