للأستاذ زكي المهندس

عميد كلية دار العلوم سابقًا، وعضو مجمع اللغة العربية

أيها الشباب

خضتم بالأمس القريب معركة الحرية، فأبليتم فيها البلاء الحسن، واستطعتم بقوة عزائمكم وقوة إيمانكم أن تردوا عدوكم على عقبيه مذمومًا مدحوراً، وأنتم اليوم تخوضون معركة من طراز آخر لعلها أشق وأعسر.. هي معركة الحياة..

كنتم بالأمس تكافحون شياطين الإنس، وما تدبره حولكم من مؤامرات ودسائس، ولكنكم اليوم تكافحون النفس، وما توحى به من خمول، ودعة، وتواكل…

كنتم بالأمس تكافحون لتحرير وطنكم من ذل الاستعمار والاستعباد، وأنتم اليوم تكافحون للاحتفاظ بحرية الوطن، ومن أجل عزته وازدهاره، ولعل الاحتفاظ بالحرية أشق من الظفر بها.

كانت عدتكم في معركة الحرية الحديد والنار، ولكن سلاحكم في معركة الحياة العلم، والعمل، والمثابرة، والاعتماد على النفس.

حقًا أيها الفتيان إن ما نطمع فيه من عزة ومجد وكرامة لا يمكن أن يأتينا عفوًا أو يهبط علينا من السماء، ولكن له ثمنًا يجب أن نؤديه من جهودنا وعزائمنا..

ولقد أدركنا أن حريتنا فينا ومنا، وأننا إذا أردنا أن نبوِّئ مصر بين الأمم منزلة خليقة بمركزها، وتاريخها المجيد، وأمنيتها الخالدة، وجب أن نواجه في إخلاص وشجاعة وعزم ما يتطلبه ذلك من تبعات وتكاليف..

لقد شهدت حياتكم في بضع السنوات الأخيرة من التطور والانقلاب ما لم تشهده مصر في تاريخها الطويل العريق. لقد تغيرت الحياة وأساليبها. تغيرت المبادئ والمثل والأفكار. تغيرت العادات الفردية والاجتماعية.. لقد زادت الحريات وتنوعت، فشعر كل إنسان باعتداده بنفسه والميل إلى الاستقلال بشئونه.

لقد انبعث فينا روح جديد للعمل والإصلاح، وشعور جديد بالقوة والكرامة، فأخذنا ندبر شئوننا وننظم حياتنا على أسس متينة كي نهيئ لمصر حياة كريمة ونوفر لأبنائها عيشًا رغدًا، مستعينين على ذلك بأحدث ما وصل إليه العلم من حقائق، وآخر ما أنتجه العقل البشري من نظم.

لقد نهضت مصر تطلب حقها في الوجود كأمة لها كرامة، وشخصية وتاريخ. لقد أشعرتنا الأحداث التي مرت بنا في الشهور الأخيرة بذاتيتنا وقوتنا، وجردتنا من (مركب النقص) الذي خلفته العهود المظلمة البائدة في نفوسنا، فنهضنا معتمدين على أنفسنا غير حافلين بما يقوم في طريقنا من صعاب، وما يعترضنا من عقبات.

حقًا –أيها الشباب- كان التطور في حياتنا تطورًا سريعًا شاملًا تناول جميع مرافع الحياة حتى صرنا إلى عهد جديد له طابع جديد، وخصائص جديدة لا يكاد يمت إلى الماضي بسبب.. لقد مضى الزمن الذي كان المرء يستطيع فيه أن يشق طريقه إلى الرزق بل الثروة في يسر ودعة.. مضى الزمن الذي كان الفراغ والبطالة والكسل تعد فيه زينة للرجل الشريف وموضعًا لفخره! مضى زمن الأحساب والأنساب إلى غير رجعة. كم من أسرة في مصر والشرق كانت تعيش خاملة معتزة بجاهها وأحسابها وتاريخها فإذا الحياة الجديدة تطويها وتلقى بها في ظلمات الخفاء والنسيان، وكم من أسرة نبتت وازدهرت بين أشواك العدم والفاقة فأصبح نجمها يتألق في سماء مصر والشرق..

مضى ذلك الزمن وأصبح في ذمة التاريخ، ثم أصبحتم فإذا التزاحم من حولكم، والتنافس يقوى بينكم، وإذا الحاجة الملحة تدفع كل فرد منكم إلى العمل والكفاح بسلاح جديد، وعلى أسلوب جديد، وفي سبيل هذا الكفاح فنيت طوائف واندثرت أعمال، واختفت مهن كانت إلى عهد قريب تدر الخير على أربابها ولكن هذا التطور السريع الشامل قد بهظها وأعجزها عن مسايرة الحياة ما محت من سجل التاريخ..

أيها الأبناء

صدقوني حين أقول لكم أن أمضى سلاح تتدرعون به في معركة الحياة الجديدة هو العلم، والعمل والخلق..

فبالعلم تتجلى مواهبكم، وتنمو قدراتكم، وتتهذب نفوسكم وتسلم أذواقكم. ليس إلا العلم وحده هو الذي يجعل منكم جنودًا مستنيرين يعرفون كيف يستعملون أسلحتهم، وأين يسددون عزائمهم.

ولكن يجب أن تعلموا –أيها الأبناء- أن مجرد الإحاطة بالعلوم والمعارف لا يغنى في معركة الحياة شيئًا..

إن العلم الصحيح هو الذي يكون له أثره في صقل طبائعكم، وتقويم نفوسكم، ورقي ميولكم وعواطفكم. أما تلك المعلومات المضطربة المشتتة التي لا تقصدون منها سوى اجتياز الامتحانات، والظفر بالشهادات، فهي في آثارها ونتائجها شر من الجهل.

حقًا –إن مقياس العلم هو مبلغ ما يتركه من أثر في نفوسكم. إنه عملية تقويم، وتحسين، وتسوية في الطبيعة الإنسانية، وإلا كان عبثًا عقليًا لا يجدى في الحياة شيئًا..

على أنكم تكونون واهمين إذا اعتقدتم أن العلم وحده يكفل لكم حسن المستقبل، ويدنيكم من تحقيق أمانيكم.. يجب أن تعلموا –أيها الفتيان- أن العلم ليس إلا منارة تضيء لكم الطريق إلى العمل، وتقيكم شر العثار والزلل فيه.. إن مواهبكم –أيا كانت- تصبح قوة راكدة خاملة إذا لم تقترن بالعمل، والجد، والمثابرة.

إن العمل وحده هو الذي يكسب مواهبكم النشاط والحيوية والازدهار..

إن العمل ينمي المواهب إن وجدت، ويعوض عنها إن فقدت أنصتوا إلى (أديسون) يقول: لقد حصلت على جميع المواهب التي كنت أطمع فيها بالعمل المستمر والجهد المتصل، وكل إنسان يعمل كما عملت يستطيع أن ينجح كما نجحت. ولقد سئل تاجر عظيم: (ما سر النجاح في التجارة)؟ فأجاب: (ليس في التجارة سر يجهله أي إنسان، فما عليك إلا أن تعنى بعملك وتثابر عليه).

أيها الشباب..

إن عظماء التاريخ لم يكونوا رجال حظ ومصادفة، ولهو وترف، ولا كانوا ملائكة أو شياطين تدفعهم قوى خفية إلى الإتيان بالعجائب، ولكنهم كانوا رجالًا أمثالكم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ولكنهم بجدهم ونشاطهم وكفاحهم استطاعوا أن يخدموا الإنسانية، ويسطروا التاريخ، ويحولوا حياة العالم إلى عظمة، ومجد، وخلود..

نحن لا نطمع في أن نرى فيكم ملائكة مطهرين، أو أنبياء معصومين، أو عباقرة موهوبين، إننا نعرف أن للشباب خصائصه وطباعه، وأن له عيوبه وحسناته ولكنا نطمع بحق في أن نرى فيكم ما نرى في أمثالكم من شباب الأمم الأخرى:

نطمع في أن نرى فيكم شبابًا قوي الثقة بنفسه، شديد الاعتزاز بكرامته وكرامة أمته ووطنه، شبابًا صادق العزيمة، صبوراً على الكفاح، جلدا على المقاومة ومغالبة الشدائد والصعاب، شبابًا يؤمن بأن النجاح وليد العناء والكدح، شبابًا يضع كفايته وحياته وجهوده في خدمة المجتمع الذي يعيش فيه.

لقد شاءت العناية الإلهية أن يقترن شبابكم بنهضة مصرية عظيمة جاوزت في مداها أحلام المفكرين من رجال العهد الماضي.. لقد ألقى هذا العهد الجديد على كواهلكم أعباء لا بد من عملها في جلد، وفرض عليكم تبعات لا مفر من الاضطلاع بها في صبر وإخلاص وأمانة. بهذا –وبهذا وحده- نستطيع أن نطمئن إلى أن نهضة مصر تجري قدمًا إلى غاياتها، وتدرك مقاصدها..

إن مصر ما زالت بحمد الله بكرًا وما زال المجال فيها فسيحًا للعمل والاستثمار، لا يعوزها لاستخراج ثرواتها الدفينة في جوف الأرض واستغلال مواردها الهائلة سوى شباب سليم، طموح، قوى العزيمة والإيمان.. إن فيكم القوة، وبين أيديكم الفرص، فجربوا قوتكم وعزائمكم، ولا تخافوا بذل الجهد، واحتمال التبعات. إن مناصب الحكومة لم تعد –كما كانت- فاتنة مغرية، وإنما أصبحت مقبرة للمواهب والقدرات..

كم من موهبة مقبورة بين مكاتب الموظفين، ولو قدر لها أن تستغل في الميادين الواسعة الحرة لدفعت بصاحبها إلى مرتبة الشهرة، والبطولة، والثروة.. خذوا دروسكم –أيها الأبناء- عن هؤلاء الأجانب الذين يساكنونكم وادي النيل ويشاطرونكم خيراته وثمراته.. انظروا إلى هذا الفتى الإيطالي أو اليوناني ما يكاد يهجر مدرسته حتى يلقى بنفسه في غمار الحياة الحرة لا يخشى منافسة، ولا يرهب كفاحًا، يبدأ بالعمل الصغير المتواضع، ولكنه بالجد والصبر، والمثابرة والإيمان بالحياة وبالمستقبل، لا يلبث أن يشب وينمو، كما يشب الرضيع وينمو حتى يقف على قدميه، فإذا هو في بضع سنين من أرباب المتاجر الكبيرة، أو من ذوي الأعمال الواسعة..

أيها الشباب

إن حياتكم الجديدة حياة جد ونشاط وعمل، لا تعرف الضعف والخور، وفتور الهمة.. إنها لا تكتفي منكم أن تطرقوا الحديد وهو منصهر، بل تلح عليكم أن تطرقوه حتى ينصهر.. هذا هو نداء الساعة.. وفقكم الله وسدد خطاكم.

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *