منذ نحو ثلاثمائة سنة، كان يعيش في أمستردام بهولندا صانع عدسات مغمور، يقطن حجرة حقيرة، مجردًا من الأهل، والأصدقاء، والثروة.. وكان شخصًا غريب الأطوار، حتى ظنه جيرانه مجنونًا.. والواقع أنه كلما كان الشخص عظيمًا بحيث لا يستطيع جيرانه أن يفهموه، اتهم بالجنون! 

وفي صباح يوم من أيام الآحاد، مات هذا العامل الكهل ضحية داء السل. وكانت وفاته أثناء غياب الأسرة التي تسكن البيت لحضور قداس الأحد في الكنيسة…

وكأكثر العظماء الحقيقيين، كانت عادات هذا الراحل بسيطة وعلى حد تعبير مؤرخي حياته (كان قد استطاع قهر آخر أدواء العقول الجبارة: داء حب الشهرة)!

ولما نقب بعض العلماء في حانوت الفقيد بعد موته عثروا على حزمة من المخطوطات في درج أسفل منضدة عمله…

واكتشفوا على الفور أن هذا الصانع المتواضع (باروخ سبينوزا) كتب فلسفة من أعظم فلسفات الحياة، والعقل، والدين، والقدر التي عرفها تاريخ البشر!..

ولا أريد أن أثقل عليكم بتفاصيل مذهب سبينوزا، وأكتفي بأن أذكر عبارة واحدة يعتبرها العالم النفساني الكبير (وليم جميس) قاعدة ذهبية؛ وهذه هي:

(إن استطعت أن تمتنع عن فعل شيء لأنه سيء أو شر، ففي استطاعتك كذلك أن تمتنع عن فعله لأن شيئًا غيره هو الخير).

وفي هذه الكلمة يتلخص كل الفرق بين الحياة الإيجابية والحياة السلبية: بين حياة الخوف والكبت والتردد والشك، وبين حياة الإقدام والمحبة والأمل والتقدير والطموح. أو الفرق بين حياة الجحود، وحياة الإيمان…

مبدأ سبينوزا في الحياة اليومية

وما دامت هذه هي الخطوط العريضة لمبدأ الحياة عند (سبينوزا)، فلننظر الآن كيف ينطبق هذا الشعار الأخلاقي على حياتنا اليومية… فإنك إذا درست نفسك وأصدقاءك ومعارفك ستجد أن هذا المبدأ يقسم الناس إلى فريقين كبيرين: فريق الإيجابيين، وفريق السلبيين، ويسميهما علماء النفس (العدوانيين الإيجابيين)، و(العدوانيين السلبيين)، لأن النشاط السلبي يمكن أيضًا أن يكون عدوانيًا.

وقد اتضح نتيجة عشر سنوات من الأبحاث التعاونية بين ثمانية من علماء النفس والاجتماع بجامعة (هارفارد) مبدأ من أهم المكتشفات النفسية الحديثة، وهو المبدأ القائل أن أي شقاء يؤدي لسلوك عدواني.

وتبدأ مشكلة تربية الطبع برمتها من هذه النقطة… نقطة كيفية استجابتك للاستثارات والمضايقات وعقبات الحياة بكل أنواعها… فإنك إذا استجبت على نحو معين أصبحت (عدوانيًا سلبيًا)، هدامًا، وإذا استجبت على النحو الآخر أصبحت (عدوانيًا إيجابيًا) خلاقًا.

ونضرب مثلاً برجل دق بالمطرقة إبهام يده خطأ، فراح يسب ويلعن، وينفس عن غضبه بتحطيم الأداة التي يعمل في صنعها… في حين أن رجلاً آخر، هو صديق لي من أعظم علماء الحياة، له ولع بالأعمال اليدوية، قطع بالمنشار طرف سبابته الأيسر عفوًا، فصعد بهدوء إلى زوجته ومد يده المجروحة إليها قائلاً بمرح:

(لقد نشرت أصبعي السبابة… ويجب أن أدرب أصبعي الوسطى على سد مكانها!)

الإيجابية المزيفة!

وهذه الأبحاث التي أسلفت الإشارة إليها تبين لنا الفروق الواضحة بين الإيجابية والسلبية ولكنك ستحتاج إلى ذكاء كبير، ودراية بالنفس حين تحلل نفسك أو أصدقاءك، كي تميز الإيجابي الحقيقي من الإيجابي المزيف.

وهناك نوع واحد من الإيجابيين الحقيقيين، ولكن هناك ثلاثة أنواع من الإيجابيين المزيفين.

الإيجابي الأناني

وأول نوع من الإيجابيين المزيفين هو الإيجابي الأناني المولع بنفسه.

أن كل نشاط فيه إيجابية بوجه من الوجوه، ولكن الفرق كله في اتجاه النشاط: هل هو بنائي أو هدمي… والأناني يبدو في ظاهره إيجابيًا، أما في الباطن فهو يكافح باستمرار مخاوفه السلبية من الفشل! فهو يعاني دائمًا من عقدة النقص، ولكنه يجتهد في أن يبدو إيجابيًا واثقًا بنفسه.. ولكي يحصل على شعور إيجابي بالثقة في نفسه ويؤثر في سواه بأهميته المزعومة يعمد إلى وسيلة حمقاء هي التشدق بكفايته ومزاياه!.

ويقول عالم النفس (هنري فوستر آدمز): (أن أوضح صفة للشخص المغالي في قدر نفسه هي صفة الغباء!… فهو يحاول أن يخدع نفسه ويخدع سواه بأنه قوي، وإيجابي، وذو كفاية ممتازة مع أنه في كل شيء أقل من المستوى العادي سواء في الذكاء، أو الفطنة، أو فهم الناس، أو النكتة. وهو أيضًا منقوص الشجاعة، يتخاذل عند أول صدمة)!

فمن المهم جدًا حين تقرر هل أنت إيجابي حقيقي أو إيجابي مزيف أن تحدد أولاً هل أنت ذو شخصية متزنة فعلاً، أم أنك (تمثل) فقط كي تخفي نقص الشجاعة والإرادة عندك في مواجهة صدود الحياة، ما كبر منها وما صغر…

الإيجابي المسيطر

والنوع الثاني من الإيجابي المزيف هو (الإيجابي المسيطر). وهو قريب الشبه بالأناني، ولكن بينهما فروقًا مهمة.

إن المسيطر يحس بالنقص أيضًا. ولكنه لا يتشدق بالحديث عن نفسه بل يحاول أن يؤكد الشعور بأهميته بإرغام كل إنسان على تنفيذ إرادته الخاصة. وهذا هو الفرق بين الزعيم الحقيقي الذي يجتهد في إخضاع العقبات وقهرها لإرادته، وبين المسيطر الذي يولع بإخضاع الناس لإرادته.. وهكذا يهتم الزعيم بإخضاع الأشياء، ويهتم المسيطر بإخضاع الناس. فالأول إيجابي بناء، والآخر إيجابي هدام!

وجميع رؤساء العصابات، والرؤساء المستبدين في ميدان العمل، والآباء المسيطرين في البيوت، والحموات المسيطرات، نماذج إيجابية مزيفة من النوع المسيطر. وإذا كنا نضحك سافرين من الأناني المولع بذاته، فإننا نكره ونخاف المولع بالسيطرة، لأنه يفسد حياتنا ويسممها!

الإيجابي الهستيري

والنوع الثالث من الإيجابي المزيف هو (الإيجابي الهستيري) وبغير استعمال للألفاظ الفنية، نقول أن الهستيري شخص لديه تصميم إيجابي للسيطرة على سواه بادعاء الضعف أو المرض!..

وقد يتطرف الشخص في ادعائه إلى أن يصبح المرض المزعوم مرضًا حقيقيًا! وهي حيلة شائعة بين الأطفال..

وقد يكون الآباء هم سبب ذلك السلوك بولعهم بالسيطرة على أطفالهم، فيلجأ الأطفال لرفض الطعام، ويشعرون بصداع حقيقي، وفي الحالات القصوى يعمدون لانتحار… ويصبح من أحب اللهو لديهم -كما اكتشف علماء النفس- أن يبولوا في فراشهم وهم نيام، كوسيلة إيجابية لمحاربة آبائهم!

ولدى البالغين قد تصل الهستيريا إلى درجة شلل الذراع أو الساق، بل العمى أحيانًا، ولكنه نوع من العمى غير الوظيفي وإنما هو رفض مراكز البصر في قشرة المخ أن تبصر الصور التي تنعكس على الشبكية!

نوع واحد من الإيجابيين

والآن نعود إلى النوع الإيجابي الحقيقي. وأخالك تريد مني الآن أن أخبرك كيف تغدو من أفراد هذا النوع. وهذا أمر يحتاج إلى إعادة التربية.. وقد تعينك على هذا القواعد التالية:

• اقرأ الكتب الجيدة في الإيجابية النفسية

ولو أني قرأت منها كتابًا أو كتابين وأنا بين الخامسة عشرة والثلاثين من عمري لما جنبتني الكثير من الآلام الذهنية والانفعالية فحسب، بل لأفادتني كثيرًا في تحقيق النجاح في الحياة. وهناك كتب كثيرة في يومنا هذا أنزلت علم النفس من السماء إلى الأرض، وأخرجه من عزلة المعامل، بحيث يستطيع الرجل العادي أن يفهمه ويفيد منه في تحسين شخصيته.

والقاعدة الثانية للتحول من السلبية إلى الإيجابية هي:

• حدد الآن من أنت، ومن الذي تريد أن تكونه...

ولا أقول (ماذا) تريد أن تكون، لأن ذلك سينصرف إلى المهنة التي تفضلها، وأنا أعني (الشخصية) التي تريد أن تكونها… ومن المؤكد أنك لن تصبح إيجابيًا ما لم تختر (ذاتًا) متماسكة تتشبث بها في جميع الظروف، في السراء والضراء. وعليك أن تختارها من البداية، لا أن ترتجل مواقفك تباعًا بدون مبدأ ثابت.

وكثيرون جدًا لا يقررون من البداية مبدأ لهم أو وجهة، بل يتركون مصادفات الحياة تجرفهم تارة هنا وتارة هناك، سواء كانت المصادفات حالة الطقس، أو حالة الهضم، أو كلمة من الزوج (أو الزوجة) أو رئيس العمل، والنتيجة أن ثلاثة أرباع طاقتهم العصبية يتبدد هباء بدلًا من استخدامها في إنجاز أعمالهم وتحقيق أهدافهم.

وفريق من هؤلاء الارتجاليين أشبه بالفئران التي وصل بها العالم النفساني إلى درجة الجنون بتجربة قاسية بارعة، فكان على الفأر أن يقفز من مرتفع إلى مرتفع فيصل إلى طرف أحد صندوقين هناك، في صندوق منهما الطعام؛ وقد طلى صندوق باللون الأسود وفيه حلقة باللون الأبيض، والآخر أبيض وبه حلقة باللون الأسود… وتعلم الفأر بالتجربة أي الصندوقين به الطعام، لأن الصندوق الفارغ مصنوع بحيث إذا أخطأ الفأر وقفز إليه، سقط على رأسه من ارتفاع بضع أقدام!

وبعد ذلك أخذ العالم النفساني يغير موضع الطعام من الصندوق الأبيض إلى الأسود وبالعكس، فنشأت لدى الفأر مشكلة، زادت حدتها بتعرضه لصدمة كهربائية إذا توانى عن القفز فورًا… مما أدى بالفأر إلى أطوار غريبة تقابل في الآدميين الجنون!..

وهذه التجربة تدلنا بوضوح على ما يصيب الشخص السلبي إذا تكالبت عليه مشكلات الحياة… إنه ينهار. أما الشخص الإيجابي فيتماسك، حتى ولو لم يجد لمشكلاته حلاً!

والقاعدة الثالثة هي:

• استفد ماليًا من نزعاتك الإيجابية

  1. فأيًا كانت نظرياتك عن الألم واعتلال الصحة، وما إلى ذلك، فمن الممكن تحويل سلبيتك إلى إيجابية، لا تجدي عليك تحسن صحتك فحسب، بل تجدي عليك أيضًا رصيدًا في البنك، وقد تمكن كثيرون من تكوين ثروة ضخمة بهذه الطريقة!

وهذا يذكرنا بقاعدة رابعة هي:

• إذا قرأت، فاقرأ شيئًا قيمًا…

وأذكر بهذه المناسبة حادثة وقعت لي عام 1899 حين كنت مندوبًا صحفيًا إقليميًا براتب لا يزيد على اثني عشر جنيهًا في الشهر. فقد تعرفت وقتئذ على أسرة المرحوم (ت. ب. ووكر)، الذي كان من أعظم رجال المال ورجال البر في ولاية (مينا بوليس).

وفيما كنت جالسًا ذات مساء في متحفه الفني الخاص، بين ما قيمته ثلاثة ملايين دولار من اللوحات، روت لي (مسز ووكر) قصة عن شباب زوجها لا أظن أنها أذيعت من قبل. فعندما كان زوجها في الثالثة عشرة من عمره في مدينة (أوهايو) مسقط رأسه، كان جالسًا ذات عصر أمام فندق صغير، وقد مال بظهر مقعده فوق عمود التليفون يقرأ رواية من الروايات (الصفراء) وإذا بمسافر يخرج من باب الفندق، فلما رأى الغلام يقرأ ذلك الشيء الحقير بانهماك صاح به: (يا بني. ما دمت عازمًا على تجشم عناء القراءة فلماذا لا تقرأ شيئًا قيمًا؟).

فانطبعت هذه الملاحظة في ذهن (الغلام)، ولا شك أنه كان ذهنًا غير عادي، وكل ما كان بحاجة إليه هو اللفتة إلى الوجهة الصالحة… إلى الوجهة الإيجابية…

وفي اليوم التالي ذهب إلى المكتبة العامة، وأرشده أمينها إلى تاريخ مبسط للعالم، ومن ذلك اليوم والفتى يعيش في دنيا جديدة… استكمل ثقافته وتعليمه، وصار شخصية من أعظم الشخصيات المثقفة، المنتجة. والقاعدة الأخيرة هي:

• تعود أن تنفذ الأشياء بدلًا من أن تحلم في يقظتك أنك نفذتها!..

ولعلك سألت نفسك يومًا عن سر قيام كبار الرجال بكبار الأعمال، ولعلك ظننت ذلك السر هو تمتعهم بمواهب خارقة للعادة أما نحن فنقول لك: لا، ليس ذلك هو السر. فالعلامة (كاثرين كوكس مايلز) التي أحصت خمسة عشر ألف مجلد في تاريخ طفولة وشباب المشاهير الثلاثمائة الذين عاشوا في القرون الأربعة الأخيرة، تولت الإجابة عن هذه المسألة فقالت:

(لا شك أن هؤلاء المشاهير الثلاثمائة كانوا كلهم من ذوي المواهب العالية. ولكن من المرجح أنه كان في زمنهم ألوف لهم مواهب تضاهي مواهبهم، فلماذا لم يقوموا بأعمال كبيرة مثلهم؟ لا شك أن بعضهم كان عاثر الحظ وبعضهم الآخر لم تسنح له الفرصة؛ ولكن هناك عاملًا مهمًا جدًا، أهم من الحظ، ومن الفرصة، وهو تعودهم منذ صغرهم على النهوض بالأعباء من تلقاء أنفسهم وعلى مسئوليتهم فلما كبروا، كان الاضطلاع بالمسئوليات قد أصبح عادة متأصلة فيهم).

وهكذا نصل إلى تمام القاعدة الأخلاقية التي أوصانا به سبينوزا وهي:

• اجعل إيجابيتك لعمل الخير هي قوتك الدافعة، وعادتك المتأصلة في حياتك اليومية.

وسواء كان عملك ذا شأن كبير أو ضئيل، فسيجدي هذا الطبع عليك نجاحًا باعتبارك إنسانًا، لأنك بذلك تكون قد اتخذت قانون الحياة نفسها رائدًا لأفعالك، وقانونًا لسلوكك وأفكارك…

ألبرت إدوارد ويجام – عن مجلة (يودلايف)

(إذ استطعت أن تمتنع عن فعل شيء لأنه سوء أو شر، ففي استطاعتك أيضًا أن تمتنع عن فعله لأن شيئًا آخر هو الخير)

سبينوزا

 

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *