((نعرف أنا والجمهور ما يتعلمه تلاميذ المدارس كلهم: من يتعرض للشرِّ يقوم بالشرِّ في المقابل)).
و.ه. أودن
(1)
نظير خان طالبُ مدرسة ثانوية من أصول باكستانية، مولودٌ في الولايات المتحدة الأمريكية، ويحمل جنسيتها، يعيش مع أبيه سائق التاكسي وأمه التي تعمل في المبيعات وأخيه الطالب أيضًا.
يجاهد نظير/ناز، مجاهدةً حقيقية ليكون أمريكيًّا، لا شيءَ تقريبًا نراه أمامنا يربط نظير بكونه مسلمًا أكثر من كونِها ديانته المعلَنة، وكونه يسكن حيًّا أغلبيته من المسلمين، ما سوى ذلك، فنظير بالفعل طالبُ ثانويةٍ أمريكية يكافح في دراسته، ويسعى خلف أية فرصة لتكرار التجربة الجنسية الوحيدة في حياته، ولا مانعَ من بيع قليلٍ من مخدِّرات التركيز والاستذكار لزملائه قُبيل الاختبارات بأضعاف ثمن الوصفة الطبية.
يدعوه صديق دراسة أمريكي لحفلة شبابية، كمكافأة على مساعدة دراسية، يتلهف نظير للذهاب قائلًا لزميله الذي تخلَّف عنه: أتدري أيَّ نوعٍ من البنات سيكون هناك؟!
يأخذ سيارة أبيه خِفية، ليصطدم حظُّه العاثر بفتاةٍ ظنَّته مجرد تاكسي، الفتاة مدمنة أخذته لمنزلها، تعاطوا المخدرات، ناما سويًا ليصحُوَا فيجدها مُضرَجةً في دمائها قد اخترقتها عشرون طعنة سكين، وهو المتهم المرشَّح بامتياز لهذه الجريمة التي لا يدري متى حدثت، ويساعد على ثبوت التهمة محاولةُ هروب لم تدم طويلًا، يُقاد نظير خان للسجن صارخًا ببرائته، وتدور عجلة المحاكمة، فتطحن تداعياتها رأسَ عائلته الموصومة من الجميع، ولا يبدو المحامي المهتز وزميلته قليلة الخبرة بقادرين على فعل شيء، خاصة مع تعنُّت المدعي العام ورفضه الإفراج بكفالة، وإقرار القاضي لهذه النتيجة.
(2)
هذا هو الخط الدرامي للمسلسل الأمريكي القصير (Night off)، وهو الخط الذي يتحول سريعًا وبعد مُضيّ حلقتين إلى استعراض بطيء وأخَّاذ، لما يفعله ويُحسنه نظام العدالة الأمريكي ولا يكفُّ عن ممارسته بانتظام وبراعةٍ وإتقان: صناعة المجرمين.
طالبُ الثانوية ذو الشعر المموج الفاحم، الذي كما قلنا يُجاهد كي يكون مواطنًا أمريكيًا صالحًا، يتم قذفه في سجن اتحادي قاسٍ وعنيف، مع جهد يدعو للرثاء للتحقيق في القضية، شهادةٌ عمياء، أدلةٌ ظرفية، حادثتا اعتداء على زملاء له ارتكبها نظير استجابة لما تعرّض له من ضغوط في أحداث سبتمبر، جيد، إنهما دليلٌ واضح على طبيعته العدوانية، لَم يرفض ركوب الفتاة معه في التاكسي: لماذا يفعل ذلك لو كان شريفًا؟ مخدِّرات الاستذكار بسعر باهظ: يالك من مجرم صغير.
إنها فقط قرينة صامتة حركت الجميع: إنه مثالي ليكون مجرمًا.
بالفعل يتحول الوجه الهادئ والشعر الفاحم إلى رأس أصلع، وجسد مملوء بالوشوم، وعمل منتظم لتهريب المخدرات لداخل السجن، وشراكة فعَالة مع المجرم الذي تعهد بحمايته من القتل والاغتصاب داخل السجن.
نظير يتغير للأبد، ليس هذا هو الشاب المرتبك الذي ظهر في طرقات المدرسة في بداية الأحداث،
كما قال المحامي لهيئة المحلفين: لقد ألقيتم بهذا الشاب إلى محرقة السجن الاتحادي ثم قلتم له: هيا تفضل بالنجاة.
ليست تبرئة نظير من عدمها هنا إلا مجرد حبكة تضمن تصاعد الأحداث، لكن ما يعرضه صناع المسلسل حقًّا على الشاشة هو: لقد كان نظير مستعدًّا للذوبان، فلماذا يموت إذن؟
(3)
هذا عمل ناقد -بلا شك- لسياسات وظواهر التعامل مع الأقليات عمومًا والمسلمين خصوصًا في المجتمعات الغربية خاصة الساخنة منها (أمريكا- إنجلترا- فرنسا- ألمانيا- أسبانيا).
وبلا شك لا بد أن نسجل أولًا احترامنا لوجود الروح النقدية مهما كان تفسيرنا لها، ومهما رأيناها جزئية أو هامشية، خاصة وأننا لو ابتعدنا عن السينما، فسنجد روحًا نقدية حقيقية لا تحاصرها الحسابات والمصالح التي تحاصر النقد السينمائي، وهذه الروح النقدية خارج السينما سنجد أنها في صُلب إشكاليات النظام الأمريكي، وهي تقابلنا في الكتابات والمحاضرات التي يكتبها ويلقيها نقادُ النظام الأمريكي، وهذه الروح النقدية سواء إعلاميًّا في صورتها الجزئية، أو عند الكتاب والمحاضرين بصورة أوسع= هي من الجوانب الإيجابية التي يجب مد جسور التواصل معها، خاصة وأنه ليس لها نظير مقارب في العالم العربي، هذا وحده يستحق الإشادة ويستحق التفكير في إيجاد سبل للانتفاع بهذا الجانب النقدي في الحضارة الغربية حتى ولو كان هذا النقد يتركز على منطلقات قِيَمية مختلفة، وحتى لو كنا لا نتقاطع معه كليًّا.
ومن وسط هذا العمل النقدي الذي استعرضناه هنا يمكننا أن ننتزع الخيط الذي نريد مَدَّه هنا؛ لِنَدلَّ به على فكرتنا التي نقصد إلى بيانها.
إن المجتمعاتِ الغربية لا تملك خيارات كثيرة تعرضها على الأقليات عمومًا وعلى المسلمين خصوصًا، الخياراتُ واضحة وإن لم تكن بالضرورة سهلة: إما الاندماج (على حد تعبيرهم) في هذه المجتمعات، وإما أنتم معرضون بقوة لأن يدهسكم قطار النظام، فلا رفاهية هنا، لا مكان للأعواد الصلبة هنا، بوتقة الصهر تنتظر الجميع.
لا أحد يدعوكم للتخلي عن الأجزاء الفولكولورية من ثقافتكم، الأسيويون، واللاتينيون، والعرب والمسلمون= هيا يمكنكم الاستمتاع بخصوصيتكم الثقافية، ولكن فقط في حدودها التي لا تضر النظام، والأهم: لا تعوق الاندماج، وقد يحالفكم الحظ وتجد ثقافتُكم منخفضةِ التكاليف والتبعات هذه، طريقَها لتكون جزءًا من الثقافة الغربية العامة كإخوانكم الزنوج من قبل، في الحقيقة أنتم مدعوون للذوبان، بما لا يغير لوننا، اجتهدوا للتماهي، فهذه أقل مكافأة يستحقها من استقبلكم، وحماكم من وطأة استبداد حكوماتكم.
(4)
من ربع قرن أو يزيد راهن الخِطابُ الوعظي والفكري الشعبي الإسلامي على الأجيال المسلمة الغربية، وأنها تشكل قوة كامنة خلف خطوط العدوِّ، ولم تكن السياسات الغربية نائمة عن هذا، فالأمم القوية التي تُحسن إدارةَ مواردها وتوظيفَ قوَّتها= لا تغفل عن هذا، وتُجارِبها في سياسة الأقليات عريقة في القدم، سواء فيها الإرث اليوناني الروماني، أو الإرث الأوربي الاستعماري.
حسنًا، هؤلاء خلف خطوطي، لا بأس، ضريبةٌ لا بد من تحملها، بل وتوظيفها والاستفادة منها أيضًا.
من منكم أيها السادة يقبل أن يكون ترسًا في آلتنا العظيمة؟
من منكم أيها السادة يريد أن يكون مواطنًا صالحًا؟
دينُكم أمام ديننا، وثقافتكم أمام ثقافتنا، وهويتكم أمام هويتنا، وممانعتكم أمام إغراءاتنا، والحرب تطول، والأيام دُوَل، ولن تأخذ مني أكثر مما سآخذ منك، ولن تضرني إلا بما يمكنني استيعابه، وسأبذل قصارى جهدي لأن يكون أبناؤكم أبنائي.
نظير خان أنت مسلم صالح كنت مستعدًا بقوة للذوبان، كنت أمريكيًّا صالحًا، لذلك نبكي هنا على دهس عجلة النظام لك في انحرافٍ متكرر من انحرافاتها. |
إن الحقائق هاهنا واضحة لا تحاول أن تتخفَّي: إن هذا العالم الحديث له قوانين يسير بها، وإن الدرس الأهم للإرث التاريخي هو أن نظام عيشنا يجب الحفاظ عليه وعدم السماح بتهديده.
وعليه فدولتُهم الحديثة لها مركز، وهذا المركز: هو الجماعة المهيمنة على الجهاز المؤسَّسِي الـُمسمَّى بالدولة، والتي تقوم بصياغة هُويةٍ وثقافةٍ لذلك المجموع، الذي سيُطلَقُ عليه اسم: الأمة.
الأمة التي تمت صناعة هُويتها باستخدام الجهاز التعليمي، والجهاز الإعلامي بالدرجة الأولى، هي ما يكمل ثنائية الدولة-الأمة، أو الدولة الحديثة.
يبقى من الناس الموجودين داخل حدود إقليم الدولة الحديثة جماعاتٌ لها ثقافاتٌ فرعية، وتأبى الاندماج في الأمة مصنوعة الهوية هذه، وتُصرُّ على الحفاظ على هويتها الخاصَّة، أو على الأقل: يبقى هناك أناسٌ لهم رؤًى مستقلة في القضايا الكبرى، ولا يرَون تعارضًا بين استقلالهم في الرأي، وبين انتمائهم للدولة الأمة، وتبدأ هذه المجموعات، سواء الرافضة للانتماء للهُوية المصنوعة، أو القابلة بالانتماء مع إرادة الاحتفاظ بالاستقلال بالرأي وحرية نشره والدعوة إليه، تبدأ هذه المجموعات في استعمال آليات مُعيَّنة لمقاومة محاولات الإدماج التي يفرضها المركز عليها.
والدولةُ تُكثِّف من استعمال أدواتها من أجل هذا الإدماج، وتُوظِّف مُؤسَّساتها، بدءًا من مؤسسات التعليم، وانتهاءً بوسائل الإعلام؛ لتحافظَ على هذا التجانس، وللوصولِ لدرجات عُليا من الإدماج، أو على الأقل: لتحاول تهميش هذه الثقافات الفرعية عندما تفشل في إدماجها.
إنَّ الدولةَ تقول لهؤلاء المقاومين: عندما قبلتَ بمنطق الدولة الحديثة، أو حتى عندما استطعنا فرضه عليك= فقد صرتَ مجرد بقعةٍ على لوحِ الألوان المتعدد.
والجماعةُ المهيمنة على المركز ستنتزع منك بِفُرشَاتها المقدارَ اليسير الذي ترى أنها تحتاجه لرسم اللوحة، وتراه ضروري/مقبولَ الوجود في المجال العام، أما أكثر من ذلك فليس له نصيبٌ سوى التهميش.
أنت بالنسبة لراسمي اللوحة مجرد ثقافة فرعية، يجب محاصرتها وعدم السماح لها بالتطور والإمساك بلوح الألوان.
إن خياراتِكم محدودةٌ حقًّا، أن تستسلموا وتذوبوا، وتدعوا الله مع ذلك بالنجاة من انحرافات عجلة النظام، أو أن تُحاصَروا حتى الموت.
ليس ثمة خياراتٌ أخرى هنا.
لا تعليق