للدكتور جيمس ميرسل
الأستاذ بكلية المعلمين بجامعة كولومبيا
كنت وصديقي سميث وزوجته نحمل السيارة بالمتاع والطعام بقصد التوجه إلى الريف لقضاء يوم هناك، عندما جاء أحد السعاة وسلم صديقي مظروفًا، ورأيت سميث يرفع حاجبيه دهشة حين وقع نظره على المظروف الذي يحمل اسم متجر كبير، وفض سميث المظروف، وإذا وجهه يكفهر ثم يحمر ويحتقن، وأعطى المظروف لزوجته فقرأت محتوياته ثم تبادلا نظرة طويلة صامتة، وأخيرًا صاحت مسز سميث:
– يا لها من فظاعة مثيرة!
فقال زوجها بغيظ طافح:
– إنه توم بطبيعة الحال!
وكانا في حالة ثورة تامة بحيث فُتِح الأمر كله أمام شخص غريب عنهما هو أنا… فهذا ولدهما توم، فتى في العشرين فتح حسابًا في ذلك المتجر وسحب بضائع قيمتها ثلاثمائة دولار، وحولها على اسم أبيه، من غير إذن سابق، بل وبغير كلمة إنذار واحدة! وأدركت أن هذا الموقف ليس إلا الحلقة الأخيرة لسلسلة من المصاعب التي لقياها من الفتى، وفهمت مدى سخطهما ومرارتهما، فلعنت توم في سري لأنه أفسد عليَّ فرصة رحلة طيبة…
ولكن خاب ظني! فما هي إلا بضع كلمات قاسية عن توم تبادلها الوالدان، وبضعة مقترحات لإجراءات أقسى وأعنف، ثم تبادلا نظرة لم أستطع تفسيرها، هدأت العاصفة على أثرها وساد صمت تام وهدوء، ورجعنا إلى عملية تحميل السيارة بالمتاع والطعام وكأن شيئًا لم يحدث!
واستمر سلوكهما بقية ذلك النهار على ذلك النحو، فقضينا وقتًا رائعًا ممتعًا، لا تشوبه شائبة توتر، أو نكد، أو استياء…
أتريد الوصول إلى الرأي الصائب والفكرة الملائمة؟ إذن عليك أن تنشد طلبتك من حيث تنبع الأفكار، أي من عقلك الباطن. فمهمة العقل الواعي أن يتناول الأفكار التي يمدك بها العقل الباطن فينفذها، ومهمة العقل الباطن أن يمدك بالأفكار والحلول المناسبة لمشاكلك. فتعلم كيف تستخدم هذا النبع الفياض للإلهام…
بيد أن فضولي كان قد استثير بذلك السلوك الذي خلته تمثيلًا بالغًا حد الإعجاز. ولهذا انتهزت فرصة تالية، بعد بضعة أيام -وكان توم قد وصل إلى تفاهم طيب مع أبويه على جميع أموره- وفتحت الموضوع لصديقي سميث، وذكرته بما حدث أمامي وأبديت إعجابي الشديد بقدرتهما الفائقة على ضبط النفس… والواقع أني كنت أتصيد تفسيرًا وإيضاحًا لسلوكهما، وظفرت بما أردت فعلًا!
إن الذي حدث منهما أمامي كان نموذجًا لأسلوب معين اتفقا على استخدامه لتسخير عقلهما الباطن في حل مشكلاتهما، وسأبين في هذه السطور ذلك الأسلوب، ولكني أريد أولًا أن أذكر كلمة عن الفكرة العامة وراء هذه الطريقة.
لنفرض أن أمامك مشكلة، من أي نوع كانت، كأن تكون الترقية التي كنت تنتظرها من زمن قد أخطأتك إلى سواك، فماذا تفعل، وماذا تقول؟ أو طلب منك كتابة مذكرة في مشروع جديد، فما هي خطتك التي تتخذها في مذكرتك؟
أيا كانت المشكلة فهي سؤال تلقيه عليك الحياة.. وأنت لا تدري ما هو الجواب الصحيح فورًا. فما عليك إلا أن تحول السؤال على عقلك الباطني، فهذا هو ميدانه واختصاصه، وإذا أحسنت استخدامه زودك بالرأي الصحيح، والفكرة الموفقة التي تنشدها، ولو أنك عولت في ذلك على عقلك الواعي فقط، لكنت قمينًا أن تجانب الصواب مهما تجتهد!
إن منطق الخطوط المستقيمة الذي هو وسيلة العقل الواعي، منطق صافٍ كالبلور، ولكنه في كثير من الأحيان يكون مضللًا، لأن الخط المستقيم لا يمثل دائمًا جميع خطوط الواقع! والتحليل المنطقي الواعي لأي مشكلة قد يبعدك عن الحل، لأنه يحصرك في حدود ضيقة.
وما أنت بحاجة إليه ليس هو التفكير في جواب المسألة، بل هو أن (تحلم) بذلك الجواب!
أتظن هذا خرافة ووهمًا؟ إنه ليس كذلك مطلقًا، فالفكرة التي تبرز إليك من عالم الأحلام، أي من عقلك الباطن أو عالم اللاشعور، هي أجدى الأفكار عليك، وأما كيفية (تشغيل) العقل الباطن في هذه المهمة، فإنها كيفية واضحة هينة، وهي التي يتبعها آل سميث بنجاح!
وعندما تحدثت في الموضوع مع سميث، ثم عندما راجعته بيني وبين نفسي، وجدت تلك الطريقة تتكون من ثلاث خطوات:
الخطوة الأولى: عندما تبرز المشكلة، خضها لأول وهلة بقوتك كلها، وفكر فيها بأقصى ما في وسعك من العمق، والشدة، والانفعال، وتحدث فيها مع شخص آخر إن استطعت. ولكن لا تنتقل من ذلك التفكير، ومن الحلول التي حدثت نفسك أو غيرك عنها، إلى تنفيذ شيء منها فورً ا.. فكل ما فعلته ليس القصد منه إلا دفع عقلك الباطن إلى تناول المسألة والاشتغال بها. فلا تمنع نفسك من السخط، ومن الثورة، ومن السباب والتوعد. واكتب ما شئت من المسودات، وخطط ما يعن لك من الاحتجاجات أو غير ذلك، ولكن مزق ذلك كله، لأن (الشحنة) كلها لا غرض منها إلا تحريك (الموتور) الذي هو عقلك الباطن!
والخطوة الثانية: أن تنسى المسألة كلها بعد تمام الخطوة الأولى! فقد أوصلتها إلى جهة الاختصاص! فدعها الآن هناك ونم عنها برهة من الزمن، وقد لا يكون هذا أمرًا سهلًا فيما يبدو لك. ولكنه أسهل مما تظن. فقد نفست عن نفسك بالثورة، وأما أن تشغل ذهنك الواعي بالمسألة بعد ذلك، فمعناه أن يتدخل في عمل العقل الباطن ويعرقله.. والمسالة تحتاج إلى التغافل عنها إلى إرادة قوية، وعقل متوازن مستنير. ويجب أن تكون مقتنعًا تمامًا بوجاهة هذه الطريقة كي تأخذ عقلك بها في حزم وصرامة ودقة، وليس معنى التغافل عن المسألة أنها لم تعد تعنيك، بل كل ما هناك أنك تنتظر نتيجتها أو جوابها في حينه. فمثلك مثل الجائع الذي وضع الطعام في القدر على النار المشتعلة، فلا يجديه أن يخرج الطعام من القدر في كل لحظة؛ لأن ذلك يعرقل نضجه، بل يجب أن يتركه هناك ويتشاغل عنه انتظارًا لنضجه بفعل النار، لا بفعل العبث فيه من غير طائل! وهذا الامتناع هو الذي يساعدك على الصبر والانتظار وضبط النفس؛ لأنك واثق من الحصول على مطلوبك في وقته… ونجاحك في عملية واحدة سيكون كفيلًا بحملك على تحويل مشاغلك كافة على (مطبخ) عقلك الباطن، كي ينضجها لك، ويقدم لك حلها السائغ.
والخطوة الثالثة: أن تكرر المحاولة، أي تكرر الخطوتين السابقتين إذا لم تحصل على الحل في وقت معقول.. لأن معنى ذلك أن العقل الباطن لم يهتم بالموضوع في المرة الأولى كما ينبغي. فأعد الاهتمام بعقلك الواعي، والثورة الصخب، ثم اترك للعقل الباطن فرصة ثانية وثالثة!
وقد أخبرني سميث أنه كرر المحاولة هو وزوجته أربع مرات في موضوع الفاتورة في مدى أسبوع قبل أن يصلا إلى الحل الموفق السعيد الذي برز لهما أخيرًا، فإذا به حكيم من جميع نواحيه، لأنه لم يحل مشكلة الفاتورة وحدها، بل أعاد جميع الصلات داخل العائلة إلى نصابها!
***
ويجب لاتباع هذه الطريقة أن تبكر باتباعها، وأن يكون من الممكن تأجيل الحل إلى أن يهتدي إليه عقلك الباطن. وهذا ما يجعلني أحث طلابي على اختيار موضوعات أبحاثهم في أول الموسم الدراسي، كي تتسع أمام عقولهم الباطنة فرصة الاشتغال بها قبل تقديمها في نهاية الموسم. وأدعوهم لاتباع طريقة آل سميث ومعاودة الكرة بين حين وحين، إلى أن يمدهم عقلهم الباطن بالخطة المثلى للبحث.
***
ولكن ما الدليل على أن عقلك الباطن أمدك بالحل الصائب؟ الدليل هو إحساسك الخاص.. وربما وجدت الحل واضحًا، منطقيًّا، ومع هذا لا تشعر بالارتياح إليه.. فحذار! هذا دليل لا يخطئ على أن هناك خطرًا وخطأ في الحل أنت غير ملتفت إليه بعقلك الواعي، ولكن عقلك الباطن فطن إليه! أما إذا قال لك شعورك الخاص (هذا هو الرأي الصائب) فتقدم ولا تتردد، لأنه صوت الهام عقلك الباطن. ونفذ ما يوحى به إليك. وستكون عندئذ قد (ألهمت) الصواب إلهامًا، وما على عقلك الواعي سوى التنفيذ، (والتلميع)، (والتشطيب) لما أبدعه عقلك الباطن في عالم الأحلام.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق