للدكتور محمد مظهر سعيد

عميد الفلسفة وعلم النفس بوزارة التربية والتعليم سابقًا

يولد الطفل حيوانًا ضعيفًا ناقص التكوين، لم تنضج قواه البدنية، ولم تتفتح استعداداته العقلية، ولم يستكمل كيانه النفسي بعد… ولكنه مع هذا ليس جمادًا ولا آلة صماء، وإنما هو إنسان، له حياته العقلية والوجدانية المناسبة له، ولديه قابلية قوية للتأثر بالبيئة المحيطة به، طيبة أو سيئة على حد سواء. والآثار الأولى لهذه البيئة، رغم بساطتها وضعفها في نظر الكبار الراشدين، تكيف سلوكه، وتوجه تطوره، وتمدد معالم شخصيته التي ستتبلور فيما بعد.

(ما دام بناء الشخصية كله يقوم على أساس العنصر الوجداني.. وحنو الأم هو الوجدان الطبيعي الأول والأقوى الذي يشعر به الطفل، فإن العلاقة الوجدانية بين الأم وطفلها عامل حاسم في بناء شخصيته).

وهو ليس كالحيوانات الدنيا، يستطيع أن يدبر شئونه ويقوم بأوده، ويحيا حياة مستقلة عن ذويه منذ ولادته، وإنما هو طفل قاصر، وسيظل قاصرًا مدة طويلة، في كنف أمه التي أنجبته من جسدها، وغذته بلبنها، وأحاطته برعايتها، وأغدقت عليه من حنوها..

وما دامت الأم هي أول وأهم شخص تتفتح عليه حواسه، ويتجه إليه عقله، وهي التي تقف رهن إشارته، تلبي نداءه، وتقضي حاجته، وتحميه وتدرأ عنه الخطر، وتصبحه وتمسية بابتسامة وقبلة وضمة، وتداعبه إذا استيقظ، وتهدهده بأغنيتها لينام، فهي تصبح بالضرورة مركز اهتمامه وتفكيره، وعاطفته وحبه..

وفي هذا الجو من الحنان الساطع، لا يشعر الطفل بالأمان والاستقرار فحسب، وإنما هو يشعر كذلك بأنه موضع سرور أمه وفخارها، وأنها هي الأخرى تبادله الشعور نفسه باعتبار أن شخصيته امتداد لشخصيتها. وهكذا يندمج كل منهما في الآخر، ويصبحان كلًا واحدًا. وأساس هذه العلاقة الوجدانية هو الحنو، ولذلك تكون حاجته للحنو- كغذاء لنفسه- أشد من حاجته للبن أمه، كغذاء لجسمه!

وهذه الصلة الوثيقة بين الطفل وأمه، أو من يقوم مقامها، والرابطة الوجدانية المشبعة بالسرور وشعور الأمان والاستقرار، خير ضمان لسلامة الجسم والعقل، واستمرار النضج العضوي، والنمو العقلي والوجداني، في هدوء وتؤدة، حتى يبلغ حد الكمال فيما بعد.

وما دام بناء الشخصية كله يقوم على أساس العنصر الوجداني وحنو الأم هو الوجدان الطبيعي الأول والأقوى، الذي يشعر به الطفل، فإن العلاقة الوجدانية بين الأم وطفلها هي العامل الحاسم في بناء شخصيته.

والطفل لا يحس بالأمان والاستقرار في بيئته الصغرى، ثم في المجتمع الكبير فيما بعد، إلا إذا أحس بحنو أمه نحوه، وشبع وارتوى منه في طفولته الأولى. ومن الثابت علميًا أن أبناء الأسر السعيدة المنسجمة يغلب أن يكونوا أزواجًا سعداء

ولكن لكل شيء في الطبيعة حدًا وسطًا، إذا ما خرج عنه، بالتفريط أو الإفراط، انقلب إلى ضده وساء سبيلًا… فإفراط الأم في حنوها على أطفالها إلى حد التدليل، وإجابة مطالبه المقبولة وغير المقبولة، وتلبية جميع رغباته، وأداء الأعمال التي يستطيع الطفل أن يؤديها بنفسه لنفسه، واستمرار هذا التدليل والتفاني في الإرضاء إلى ما بعد الرابعة أو الخامسة، كل هذا يقفل دائرة النمو الوجداني عليها وحدها، فلا تتسع لغيرها، فينشأ الطفل في كنف أمه لائذًا بها حتى إذا بلغ مبلغ الرجال لم يشعر بالأمان والاستقرار إلا مع زوجة تماثلها خلقة وخلقًا حتى ولو كانت أكبر منه بسنين. وهو من الناحية الاجتماعية ينشأ إمعة، هيابًا، يتهرب من المسئولية، ويتحايل على قضاء حاجته وحل مشاكله بالتماس العطف واستدرار الشفقة، ويتهرب ويصطنع المرض، ويلتمس العذر الكاذب، ليجنب نفسه مشقة السعي وجهد التصرف. وإذا واجهته الحياة بمشاكلها، تصدع من أول صدمة ووجد المخرج في الهستريا، والأمراض العصبية الادعائية..

والحنو المعقول يتطلب الثواب عند الإحسان، والعقاب عند الإساءة، بمجرد أن يصل الطفل إلى سن الثالثة..

وبعبارة أخرى، تأديب الطفل وإعداده السوي للحياة، يتطلب حزمًا ملطفًا بالحنو. وعدم التزام دستور واحد للثواب والعقاب يبلبل فكر الطفل، فتختل موازينه وأحكامه على القيم الأخلاقية.

والإغراق في ثواب الطفل عند الإحسان، وتهوين العقاب عند الإساءة، يعوِّدان الطفل النفاق، والكذب، واصطناع المواقف المسرحية التي تزيد في ثوابه، والكذب والتحايل في إخفاء أخطائه، وإلقاء اللوم فيها على الغير.

والتساهل في عقاب الطفل أو التماس العذر له وإخفاء الحقائق عن الوالد- الذي يتولى عادة مهمة التأديب في الطفولة المتأخرة- يجعله مستهترًا بالقيم الأخلاقية، أو على الأقل يحسب أن كل عمل جديد لم يدخل في قاعدة النواهي، حلال مباح- ولو كان بعقله يدرك ضرره- إلى جانب ما يبثه في نفسه من روح الكراهة لوالده، إلى حد تمني موته، ليزول من طريقه!.

فالإفراط في الحنو يعطل نمو الشخصية السوية، ويمهد الطريق لسوء الخلق والرذيلة، وإن كان لا يدفع حتمًا للجريمة أما التفريط في الحنو فمفتاح الجنوح، والانحراف، والجريمة.

والتفريط إلى حد الحرمان هو الطامة الكبرى… فالطفل الذي ينشأ بين أم باردة جامدة الحس، وأب قاس وظروف سيئة تحرمه غذاء النفس الطبيعي، وتحول دون نموه الوجداني وتكوين الصلات والعواطف الطبيعية بينه وبين الآخرين- وخاصة مع أمه، أو من يقوم مقامها- يستحيل عليه أن يكون شخصية سليمة، أو يكيف نفسه لدستور السلوك السوي والخلق القويم، أو يكافح في الحياة كفاح المواطن الصالح.

ثم هو يحاول أن يعوض ما فقده بالتماس الحنان المصطنع من زملائه الكبار ومدرسيه- وهو صغير- أو رفقة السوء من الجنسين وهو كبير، أو يثور للظلم وقسوة الدهر، فيصب جام غضبه على المجتمع، ويصبح شريرًا متغطرسًا مشاكسًا، ثم خارجًا على القانون، أو يهجر البيئة كلها إلى حيث لا يدري، فيصير أفّاقًا مشردًا، والتشرد هو الخطوة الأولى للجريمة!

والطفل المحروم من الحنان، أو المهجور المهمل، نهب للقلق العصبي الذي يهدم الشعور بالأمان والاستقرار، وما دام لم يجد هذا الأمان والاستقرار في جو الأسرة، فهو يحاول أن يجدهما لنفسه في المجتمع، ولكن من طريق العدوان الذي يجعله قوي الشخصية مرهوب الجانب!

ويتدرج هذا العدوان من الجنح البسيطة إلى الجرائم الكبرى، ومن العمل الفردي إلى تكوين العصابات لارتكاب الجرائم الجماعية. وهذا السلوك المنحرف يزيد بالضرورة القلق العصبي، ويقتل الشعور بالأمان والاستقرار وهكذا يدور الرجل الذي حرم الحنو وهو طفل، في حلقة مفرغة- قلق، وجريمة فقلق وجريمة!.. وقد يتطور الشعور بالاضطهاد، كما يؤدي الانحراف إلى الشذوذ الجنسي (السادي) الذي يشبع الرغبة الجنسية عن طريق التلذذ بتعذيب الغير… وقد يتملكه الشعور بالجرم والندم وتأنيب الضمير، في لحظة تتنبه فيها النفس المثالية فينطوي على نفسه، أو يحاول تعذيبها… وقد يتطور هذا الشعور إلى النورستانيا، أو الانحراف الجنسي (الماسوكي) الذي يشبع فيه الرغبة الجنسية عن طريق تعذيب النفس والجسد.

وعلى الرغم من أن الأم الحديثة المثقفة تدرك بطبيعتها أن رضاعة الطفل الطبيعية من ثديها، والسرور الذي يشع من وجهه ويبدو على ملامحه عند التصاقه بها، واطمئنانه إلى صدرها، واللذة التي تتملكه من قبلتها وعناقها، وشعوره بالحنو المتبادل هو الأساس السليم لبنيانه الوجداني، كما تدرك أن حرمان الطفل من صدرها أشد أثرًا في تعطيل نموه وانحراف سلوكه عن حرمانه من حاجاته البدنية، فإن اهتمامها بذاتها ومظهرها وشئونها الخاصة، أصبح يؤدي إلى هذا الحرمان، من حيث لا تشعر!

فهي عند الحمل يتملكها القلق على نفسها وعلى الجنين، والخوف من الولادة وصعوبتها ونتائجها، ثم الضيق بمطالب الطفل وهو وليد، وخاصة رضاعته من ثديها والتبرم من حرمانها من متعتها الخاصة ورياضتها المفضلة، وهوايتها ووقت فراغها لتفرغها له، والتغيرات التي تطرأ على مظهرها ورونقها، وزينتها وأناقتها، وشعورها بكبر السن الذي يقترن بالأمومة، والعبء المالي الثقيل الذي وقع على عاتق الأسرة، وقد يحرمها- أو على الأقل ينقص- مما اعتادته من إنفاق على نفسها… وقد يعطل مولد الطفل فرصة السفر والاصطياف، أو يضيع فرصة مرجوة للطلاق أو الانفصال، وقد يكون الطفل ولدًا وهي تريده بنتًا، أو العكس، وقد لا يكون جميلًا رشيقًا جذابًا تفخر به أمام الأقارب والجيران، وغير ذلك من العوامل التي تصرفها عن طفلها، وتحرمه من حنانها، وتشعره بأنه غير مرغوب فيه!

وهناك عوامل أقوى لا تمس الحنان في الصميم، ولكنها متصلة به كالعلاقة بين الأبوين، والمظهر الذي يظهران به أمامه. فجو النفور والمشاكسة والعناد يترك بالضرورة أثره السيئ في نفس الطفل.. ثم انصراف الأم عنه للمولود الجديد، وتنازع الأخوة فيما بينهم، ومنهم العطوف الذي يدلـله، ومنهم الشديد في معاملته والناقم عليه!

فمن الضروري أن تلازم الأم طفلها في السنوات الثلاث الأولى من عمره على الأقل، فإن انصرافها عنه وقتًا طويلًا، وابتعادها عن محيطه، بحيث لا يراها ولا يسمع صوتها من بعيد، يجعله يشعر بأنه فقد المنزلة التي كانت له في قلبها، وأنها انصرفت عنه وهجرته، فيشعر بالقلق والانقباض…

ولقصوره عن مجابهة هذه الانفعالات العنيفة، والتصرف المعقول على نحو يناسبها، فإنه يبدأ في العناد ومقابلتها بالمثل، وإشعارها بانصرافه عنها، وهكذا يتحول إلى طفل عصبي ثم عصابي فيتعثر نموه الوجداني والاجتماعي أو يتعطل ولا تتكامل شخصيته.

والصلة بين الطفل وأمه، حتى من مبدأ الطفولة المبكرة، إن لم توثق على أساس الحنو المتبادل، تؤدي حتمًا إلى انحراف سلوكه، بل لا نعدو جانب الحقيقة العلمية إن قلنا أن تعطيل النمو الوجداني السليم في الطفل منذ نشأته أقوى سبيل لانحراف الشخصية فيما بعد.

ولا سبيل لدرء هذا الخطر الاجتماعي وحماية الطفولة منه إلا بالوسائل الآتية:

أ- جعل دراسة علم النفس المتصل بالطفولة والزواج والوالدين إجباريًا في جميع المعاهد والمدارس ابتداءً من المرحلة الثانوية.

ب- إعداد مناهج ثقافية شعبية خاصة بهذه الموضوعات لمن فاتتهم فرصة التعليم المدرسي تنظمها الجامعات ومعاهد التربية والجامعة الشعبية لجميع المواطنين.

ج- إعداد سلسلة من المطبوعات العلمية توزع بالمجان أو بثمن زهيد يغطي نفقات الطبع والتأليف.

د- تشجيع المجلات العلمية النفسية ودور النشر المعنية بهذا النوع من المطبوعات، أدبيًا وماديًا.

هـ- تعميم مراكز الاستشارات السيكولوجية، وإرشاد الآباء والأمهات وطلاب الزواج، وغير ذلك من الوسائل العلمية وهي كثيرة، وقد عرضتها في تقريري عن هذا الموضوع للجنة الخبراء العرب، وتقاريري عن طباع الأطفال وجرائم الأحداث التي طبعتها جامعة الدول العربية.

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *