لدي مشكلة مع الأحكام العامة، والقواعد المطلقة، والتعميمات الارتجالية أو حتى القائمة على دراسات الإحصاء ما لم تضع في حسبانها احترام الاختلاف، نحن بشر، فقد «خلق الله آدم على صورته، على صورة الله خلقه» ذلك يعني أننا أخذنا من خالقنا صفات ليست لغيرنا من الكائنات، فنحن فريدون، كل واحدٍ منا هو منحوتة إبداعية ليس لها مثال، كل منحوتة تحمل جمال الله الذي صنعها مخبوءًا داخلها أو ظاهرًا عليها، لا يوجد فردان يتطابقان في كل شيء حتى التوائم المتماثلة.
الحاجة للإطلاقات ووضع النمط هو كون الدماغ عضوًا اقتصاديًا، حيث يهدف لتوفير طاقته من خلال وضع أنماط وبسط التعميمات، فهو يسعى لتوفير الوقت والجهد المبذول لدراسة كل حالة على حدة ويقوم بعملية فرز وتجميع للمتشابهات لتسويغ إطلاق حكم واحد على مجموعة بأكملها، وأحيانًا تكون له وظيفة حيوية تهدف لحماية النوع، فكل شيء أسطواني متمدد ويتحرك على الأرض هو ثعبان حتى يثبت العكس. جميل جدًا لقد قدم لنا ذلك التعميم فرصة للنجاة، لكن أليس غريبًا أن نغفل نداءات خرطوم مياه ملقى على الأرض بأنه ليس شيئًا ذا خطر؟!
إذا رأيت امرأة تضع بقعة حمراء على جبهتها، فلن تستغرق الكثير من الوقت لتستحضر الكثير من المعلومات والتي قد تكون مفيدة لاحترام ثقافتها كألا تقدم لها وجبة من لحم البقر مثلًا، هنا يمكن استعمال استنتاج الوهلة الأولى، لكن بمجرد أن تبدآن في الحديث والتواصل عليك أن تراجع هذه الصورة، فهي ذات قيمة في الوهلة الأولى وفي الوهلة الأولى فقط.
هذا ما يسمى بالأنماط الذهنية، فأنت تحتفظ بنمط معين وتستدعيه على كل ما يشتبه مع عناصر النمط بدماغك، وقد يكون ذلك بالغ الأذى فحين ترى شخصًا ذا لحية وجلباب وافترضنا أن تعاملاتك السابقة مع هذا النمط لم تكن بالشكل المطلوب، فإنك في الوهلة الأولى ستسقط عليه انطباعك المخزّن داخلك، وربما يحمل معه شيئًا قابلًا للانفجار.! حسنًا هذا يكفي للوهلة الأولى والوهلة الأولى فقط، قم باختبار هذه الفرضية سريعًا لأن كل عدو صنعته كان يحمل فرصة لصديق جيد.
انتشرت في الفترة السابقة على مواقع التواصل الاجتماعي نصائح التعامل مع الرجل والمرأة، وهي تحمل نفس الخلل، محاولة صبغ ليس فقط ثقافة ولا مجتمعًا، بل نوعًا بشريًا كاملًا بصورة نمطية لدى الكاتب أو يصدرها الإعلام، وهي نظرة بالغة الخطورة لأنها تتعامل مع البشر كقطيع خراف يُتوَقع أن يتصرّف كلٌّ منها بشكل نمطي، وهي تلغي فردانية الجنس البشري، وتطرح ما يمكن أن يسمى بالمثال. وما تطرحه المدرسة التحليلية هو تصور آخر، ترى فيه كل فرد يحمل داخله قوة أنثوية وقوة ذكورية، وهو يتردد بين هذا وتلك بحسب الموقف والملابسات والتنشئة، والمرأة المتلامسة مع ذكورتها النفسيّة ليست أقل من المرأة المتلامسة مع أنوثتها النفسية وكذلك بالنسبة للرجل، فمن نسب تلامسه مع كلا القوتين تتكون الوصفة المميزة لمذاقه الخاص المتفرد.
عندما نتوقع من أبنائنا أن يسلكوا بشكل محدد ونمط معين، لأن ذلك ما ينبغي أن يكون عليه الولد أو البنت، «أنا لست رجلًا بما فيه الكفاية»، «أنا لا أشعر أنني أنتمي للفتيات، أنا لست مثلهن» هذه الشكاوى هي اقتباسات من شكاوى حقيقية قابلتها، ويكون سؤالي هنا: حدثني إذًا عن الرجل/المرأة المثال؟ الصورة التي كان ينبغي أن تمتثل لها وفشلت؟ وأخبرني أيضًا من الذي وضع ذلك كمثال؟! ما المانع أن تهتم الفتاة بالكرة ومسابقات الصيد وما المانع أن يهتم الرجل بالفن والرسم والموسيقى، لماذا نضع أنفسنا والعالم تحت أسر لعنة التنميط؟
كان عميلي هذا مسيحيًا، قال لي: «لا أشعر أنني رجل، أنا لا أحب العنف ولا القتال، وأحب الفن والموسيقى» قلت له: «هل ترى المسيح أقرب لك كمثال أم للصورة التي تنقصك؟» قال: «حتى المسيح لا ينطبق عليه المثال المطلوب.!» فقلت له: ولماذا لا تضع أنت مثالًا يخصك للرجل الذي ينبغي أن تكونه؟! لماذا عليك الاستسلام للصورة النمطية عن الرجل، ضع قاعدتك وحققها. صحيح أن هناك معاني ثابتة للرجولة لكن هذا الاشتراك على مستوى المعنى وليس السلوك، فالكثير من السلوكيات قد تحمل تجسيدًا لذات المعنى.
حزم صديقي حقائبه، وودع أباه على باب الشقة بكلمة واحدة: «آسف لأنني لم الأكن الابن الذي ترجوه». أخبرني بذلك منذ سنين، لكن كلماته لا تغادر أذني. ما قدر التوقعات التي تفوق استطاعته والتي حمله بها أبواه على كتفيه، حتى عاش شبابه يطارد توقعات أهله ليصيدها لهم، حتى انشغل عن توقعاته هو لنفسه وتحقيق أمانيه؟ لعنة أخرى هي لعنة التوقعات، والافتراضات، فبين المفروض واللازم تضيع احتياجات وتختنق مشاعر، وتمر السنون.
أظنك تعرف كلمة السر، فقد كررتها كثيرًا، وسأظل أكررها حتى تختلط بلحمنا وعظمنا، القبول غيرالمشروط، أن نكون حقيقيين، وأن نقبل أنفسنا والآخرين كما نحن وكما هم، بلا أحكام ولا تنميط ولا توقعات، يقول جان باول: «إن أخشى ما أخشاه أن أكشف لك حقيقتي فلا تقبلني، وهذا كل ما أملك».
– نُشر أولًا بموقع صحتك.
لا تعليق