للدكتور مختار حمزة

مدرس علم النفس بجامعة عين شمس

من سجل الخالدين

بين الذين سجلوا أسماءهم في سجل الخلود رجال ونساء كانت بهم أسقام أو عاهات خليقة بأن تسود الدنيا في نواظرهم وتبث في نفوسهم اليأس وثبوط العزيمة… فاذكرهم كلما رأيت اليأس أو ثبوط العزيمة يتسربان إلى نفسك.

• لورد نلسون، قاهر أسطول نابليون كان ذا عين واحدة.

• توماس اديسون، مخترع الكهرباء كان أصم منذ صباه.

• جون ملتون، الشاعر الإنجليزي كان أعمى.

• الجنرال جرانت، القائد الذي كسب الحرب الأهلية الأمريكية كان مصابًا بسرطان الحلق.

• ديموستين، خطيب أثينا المفوه كان عييًا متلعثمًا.

• سارة برنار، أعظم ممثلات فرنسا بترت ساقها.

طبيعي أن تهتم مجلة (حياتك) بتوفير حياة سعيدة لكل مواطن… ولكي يتم ذلك ينبغي أن يشعر كل فرد في المجتمع بالأمن والطمأنينة، فتلك حاجة نفسية أساسية، كما ينبغي أن تعطى لكل شخص الفرصة لكي يعمل، ولكي ينجح، ولكي يجد من المجتمع تقديرًا واستحسانًا لأعماله طالما كانت تستحق ذلك…

والفرد الذي يعمل في المجتمع كعضو ناجح في أي مهنة، ثم تعرض لإصابة أثناء عمله، أو تعرض لحادث من حوادث المواصلات التي تتزايد يومًا بعد يوم. بالرغم من حذره الشديد واتخاذه جميع الاحتياطات… مثل هذا الشخص كانت المجتمعات تلفظه وتعتبره عضوًا عاجزًا، فكان لهذا الاتجاه أسوأ الأثر في نفسيته، كما كان له أسوأ الأثر على المجتمع بأكمله.

أما أثره السيء على الفرد فواضح، وأما أثره السيئ على المجتمع فهذا ما يحتاج إلى بعض التوضيح.. والذي نود أن ننبه إليه الأذهان هو أن الإصابة، أيًا كانت قد تسبب عدم قدرة الشخص على أداء عمل ما، ولكن هناك عشرات الأعمال الأخرى التي يستطيع الشخص أداءها دون أن تعوقه الإصابة…

فإصابة البصر لا تؤثر على السمع، ولا تؤثر على غيره من الحواس ولا تؤثر على القدرة على التفكير، وإصابة الساقين لا تؤثر على وظيفة الذراعين، ولا تؤثر على القدرة على تركيز الانتباه، أو على القدرة على التركيز أو التصور، أو غير ذلك من العمليات العقلية…

فمدير الحسابات الذي يتعرض لحادث ترام يؤدي إلى بتر الساق ثم يستخدم عكازًا، أو الكاتب على الآلة الكاتبة الذي يفقد ساقيه ثم يستخدم عجلة خاصة، لا يتأثر عمل الواحد منهما بسبب العاهة ومع ذلك، كان أصحاب الأعمال، وكانت المصالح الحكومية تفصل أمثالهم فتهدم حياتهم، وحياة عائلاتهم، وتحرم من خدماتهم.

واستمرت الحال على ذلك المنوال سنوات عدة، إلى أن استيقظت الضمائر في كثير من البلدان، وانتشر الوعي الاجتماعي فسمح لأصحاب العاهات بالاستمرار في أعمالهم، طالما كانت الإصابات لا دخل لها بالعمل. وهنا استغل هذا الفريق من ذوي العاهات تلك الفرصة التي أتيحت لهم، وإن كانوا حرموا منه أعوامًا فبذلوا جهدهم ليثبتوا أنهم جديرون بأداء الأعمال الموكولة إليهم!

وتنبهت الأذهان إلى ضرورة استغلال باقي المصابين، أي هؤلاء الذين أصيبوا بإصابات منعتهم من الاستمرار في مهنهم السابقة، فبدأت المحاولات لتدريبهم على مهن جديدة، يستطيعون أداءها بما تبقى لديهم من قدرات.

وكان لتلك الحركة فضل كبير فإلى جانب هذا الارتقاء الاجتماعي حدثت حركة ارتقاء علمي عظيمة الأهمية، فبذلت الجهود العلمية للكشف عن قدرات هؤلاء الأفراد، وهنا انكشفت حقيقة لها أهميتها القصوى، تلك أنه تبين أن لدى كل فرد من هؤلاء، قدرات كامنة ومن مستويات عالية، ومع ذلك لم تكتشف ولم تستغل من قبل وقد أطلق على تلك الحركة فيما بعد اسم (التأهيل المهني)، وأصبحت تختصر بعد ذلك إلى كلمة (التأهيل) فقط.

والغرض من التأهيل هو توجيه كل فرد أصيب بإصابة تمنعه من متابعة مهنته الأصلية إلى مهنة أخرى تتناسب وما تبقى لديه من إمكانيات جسمية وقدرات عقلية.

ونشطت الأوساط العلمية في مختلف بقاع العالم المتمدين لتأهيل كل ذي عاهة إلى أفضل اتجاه ممكن، أي حيث يستطيع أن ينتج أحسن إنتاج مستطاع.

وبذلك استرد المصاب عزته وكرامته، وبدأ يشعر بالأمن والطمأنينة، تغيرت نظرة المجتمع إلى هذه الفئة، وأعيدت إلى أفرادها كافة الحقوق التي حرموا منها عدة سنوات، فاندمجوا بعد العزلة، وصاروا يرتادون الحفلات والمجتمعات والنوادي العامة وما إليها.

ولقد اتضحت ظاهرة غاية في الأهمية، وهي أن إنتاج صاحب العاهة أصبح يفوق إنتاج زميله السليم! وأمكن تفسير هذه الظاهرة بنظريات مختلفة أهمها نظرية (التعويض)، أي أن المصاب يعوض عن شعوره بالقصور، أو يعوض عن ناحية النقص عنده ببذل جهد أكبر ليغطي نقصه. على أن هذه النظرية في الواقع قاصرة عن إعطاء التفسير الصحيح. فالحقيقة المهمة التي ينبغي تذكرها هي أن الشخص السليم عادة ما يبدأ العمل في مهنة معينة على غير أساس من التوجيه العلمي أما صاحب العاهة فإنه قبل تأهيله يجتاز مجموعة من الاختبارات السيكولوجية، وتدرس جميع إمكانياته دراسة دقيقة، وبذلك يبنى التوجيه على أساس متين..

أصبح العلم متاحًا ميسورًا للعميان، وأوسع المجتمع بين ظهرانيه أمكنة كريمة للذين حرموا نعمة البصر

وهكذا ثبت للجميع أن كل ذي عاهة يستطيع أن ينتج، ولا يمكن أن يعتبر (عاجزًا).

وينبغي هنا أن نذكر أن من أهم العوامل التي ساعدت كثيرًا على الاهتمام بهذه الفئة، الحروب التي توالت في نصف القرن الأخير، وتركت وراءها آلاف الحالات المتباينة الإصابات، ووراء كل محارب أسرة يعولها، ومن ثم ساهمت هذه الآلاف بل الملايين من مشوهي الحرب في إنارة الوعي والاهتمام حتى وصلوا إلى هذه النتيجة الطيبة في معظم جهات العالم.

ونحن هنا في مصر، قد بدأنا في السنوات الأخيرة تسير في هذا الاتجاه السليم، إلى أن جاءت الثورة المباركة، فمحت كلمة (العجز) من قاموسها، وصدرت تشريعات حديثة جدًا تحتم على أصحاب المؤسسات المختلفة استخدام نسبة مئوية معينة من المصابين..

ولكنا نأمل ألا يقتصر أصحاب الأعمال على تلك النسبة، بل أن يزيدوها من تلقاء أنفسهم وسوف يجدون أن هذه الفئة تعتبر قوة هائلة للإنتاج.

لم تعد الرياضة وقفًا على أصحاء الأبدان وحدهم، بل في وسع الذين فقدوا أطرافهم أن يستمتعوا بها أيضًا.

 

في أمريكا يستمتع ذوو العاهات بكافة مباهج الحياة المتاحة لأصحاء الأبدان مهما تكن تحتاج إلى دقة ومهارة… كلعبة الكرات الخشبية التي تحتاج إلى دقة في إصابة الهدف…

 

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *