(وإنما يقع غَلَطُ أكثر الناس أنه قد أحس بظاهرِ من لذَّات أهل الفجور وذاقها، ولم يذق لذات أهل البر ولم يخبرها).
ابن تيمية.
(1)
شابٌّ سلفي عادي، يبدو عليه جَليًا الالتزام بنمطِ الحياة الملتزمة التي يحرص عليها جمهور الشباب الإسلامي عمومًا، والسلفي خصوصًا، حتى في التفاصيل البسيطة مثل الأذكار، وتدليله لزوجه بقوله: عائش، واسم ابنته روضة، ومدرستها الإسلامية.
له اتصالٌ بأحد مشايخ السلفية، ظهر زيه في الفيلم مطابقًا للشكل العام لمحمد حسين يعقوب، بينما كان اسمه على نفس وزن اسم الحُويني.
تأتي الآخرة على رأس أولويات صاحبنا، والدنيا بالنسبة له هي كأيِّ شيءٍ آخر لا يمكن أن يُعطَى له وزنٌ أكثر من صفر إذا قسناه على الآخرة، وموضوعاتُ القبر والموت وثعابين العذاب هي على رأس قائمة اهتمامته.
تبدأ أزمته حين يؤدي سماعُه لخبرِ وفاة مايكل جاكسون إلى استرجاعٍ طويل ومُرهِق لماضي تعلّقه بالمطرب الأمريكي قبل التزامه، وتنتقل سريعًا حالةُ التذكر إلى درجةٍ من الحنين للماضي، يقوم هو سريعًا بتفسيرها على أنها نوعٌ من النفاق والانتكاس، ويؤدي به فَقدُ القدرة على الخشوع في الصلاة والبكاء فيها إلى حالةٍ من الهوس والهلاوس البصرية والكوابيس، يحتاج معها لزيارة طبيب نفسي.
تستمر الأحداث في خطَّين متوازيين؛
الأول: خطّ الحياة الحاضرة لصاحبنا هذا، ومحاولته الخروجَ من حالة المعاناة هذه، وما نشاهده من اضطرابٍ لحياته على كافة المستويات.
والثاني: خط الفلاش باك والذي يستعضّ طفولةَ ومراهقةَ صاحبنا، وما فيها من تشوهات في التربية، وما فيها أيضًا من رحلة التعلقِ بمايكل وتأثيره على مظهره وسلوكه.
يؤدي هذا إلى محاولته في الزمن الحاضر الوصولَ لسببِ حصول هذه الأزمة والمخرِج منها، سواءَ عن طريق مقابلةِ حبيبةِ المراهقة، أو عن طريق زيارة أبيه الذي هجره هو من خمسة عشر عامًا.
ويختتم عمرو سلامة -مُخرج والشريك في كتابة فيلم الشيخ جاكسون- فيلمَه بمشهدٍ لبطل فيلمه وهو بِزيِّه السلفي في غرفته الخالية، يرقص على أنغام أغنيةٍ لمايكل جاكسون.
(2)
في الواقع وفي مقابل أفلام أخرى تحاول تصويرَ الإسلاميين، لا يمكننا أن نتهمَ الفيلم بجرعة تشويهٍ عالية للصورة، هناك جرعة تشويه وجرعة اختزال، لكنها محدودةٌ قياسًا بأفلامٍ أخرى كثيرة، بل بالعكس ينقِل الفيلم في كثير من الأحيان صورة عادية لهذا الشخص تبدو مجتهدة في الأمانة؛ لأن الفيلم بالتحديد لا يريد تشويه الصورة، إنما هو يَعتبر الصورة حتى في أصدق تمثيلاتها= مشوهة لا تحتاج لتشويه أحد.
من خلال عدة رمزيات استعملها الفيلم= يمكننا القول إن رسالة صناع الفيلم تتمثل في أنه لا فرق كبيرٌ بين محاولات صاحبنا المراهق لتقليد مايكل جاكسون، وبين تلك الصورة التي هو عليها في شبابه= كلاهما مسخٌ مقلِّد، ونموذجٌ غير صالحٍ للعيش، وليس يعبر عن نفسه هو بقدر ما يعبر عن محاولة مأزومة للبحث عن هُوية مفقودة.
هل هذا يعني تصالحَ الفيلم مع نمط الحياة الإسلامي عمومًا، والسلفيّ خصوصًا لو كان اختيارًا حرًّا وليس مسخًا مقلدًا أنتجته طفولةٌ مأزومة؟
في الواقع: لا.
فرسالة الفيلم هي: أن نمطَ الحياة السلفي ليس نمطَ حياة، بل هو نمط موت للحياة، يعيشه أناس لا يحبون الحياة ولا يُحسِنون عيشها، وأن رحلةَ البحث عن نمط مستقل للحياة ينبغي أيضًا ألا تتضمن الفرار من كل نمط يُميت الحياة كما يرى الفيلم.
نعم قد يحتاج الإنسان لمرحلةٍ انتقالية حتى يصل إلى تخلُّصٍ تامٍّ من النماذج المستورَدة، ويَبنيَ نمطَ حياته الخاص، ولا مانع أن يشمل هذا النمطُ أجزاءً من تاريخه، فأنماطُه التاريخية ليست ميتة إلا بقدر حياته منزوية داخل نفسه.
1) مشهدُ شخصيات البطل القديمة في صورة زومبي.
2) بطلُ الفيلم الذي تخلى عن اسمه عمدًا، وصار الناس ينادونه في مراهقته باسم جاكسون.
3) حبيبةُ البطل في المراهقة، والتي تحكي قصة انتقالها بين آلة موسيقية وأخرى كنوع من التغيير حتى استقرت على شغفها الحقيقي.
(3)
كلها رمزيات استعملها الفيلم ببراعة لإيصال رسالته التي شرحتها بالأعلى.
الحقيقة أن هذا الفيلم وأمثاله في تعاملهم مع ظواهر التدين المعاصرة، لا بد أن يصيبوا شيئًا مما هو بالفعل أوجُه خَللِ التيارات الدينية، ونماذج من سوء التصور، وخلل الممارسة الذي يستحيل خلوُّ أي تجمع إنساني منها.
ولا شك أن تعامل التيارات الإسلامية مع قضايا السمت الظاهري، ومفاهيم مثل الالتزام والانتكاس ومعاييرهما، وقضية علاقة الدنيا بالآخرة= كل ذلك، لا يمكننا نفيُ وجود خللٍ بدرجات متفاوتة، كما أننا لو استعرضنا فهم أي تجمع إنساني حر لنفس القضايا سنجده لا يخلو من خلل أيضًا.
لكن الأزمة الحقيقية هي أن هذه الأفلام ومثيلاتها من طرق الطرح التي تتناول نفس الظواهر والقضايا= تعايِرُ هذه الظواهر والقضايا بمعاييرها المتوافقة مع مرجعياتها هي، وهذا سيؤدي إلى إنكارِ وذمِّ ما هو من الدِّين العام الذي أتى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وليس شيئًا خاصًا بالسلفيين أو الإسلاميين، فالنزاعُ هنا سيكون مع الدين الحقِّ نفسه، وليس مع فهم تيارٍ له.
ونحن وإن كنا نحب للمسلمين جميعًا أن يكونوا أدق في تصوراتهم عن هذا الدين الحق، ويستمروا في مراجعتها على الوحي= فإننا نؤكد على أن نقدَ وجود الخلل في جانبٍ هنا وجانب هناك، لا ينبغي أن يؤديَ إلى نقد ما هو دينٌ متفقٌ عليه ثابتٌ بالنصوص، إلا إذا أعلن الشخصُ أنه مُتحلِّلٌ من أصل هذا الدين، وحينها يكون النقاش معه من نوعٍ آخر.
الحقيقة أن هذا الفيلمَ ليس مُوجَّهًا نقدًا للإسلاميين بقدر ما هو مُوجَّهٌ للشرائح المجتمعية العامة، منفِّرًا لهم من الإسلاميين، لا كآراءٍ أو اتجاهاتٍ سياسية أو حتى اتجاهاتٍ عنيفة، وإنما هو هنا ينفرهم من الإسلاميين كنمطِ عيش، وهذا بالتحديد هو ما تعمل عليه جهاتٌ كثيرة في هذه الفترة، وهو إغراقُ الناس بأسئلةٍ وشُبُهاتٍ، الغرض من مجموعها أن يُشكِّك في نمطِ العيش هذا، لِيُمَهد بعد ذلك لاستلاب الإنسان من الإسلام كهُويةٍ وثقافة ومرجعية للعيش.
فبالتوازي مع مرحلة العلمنة كحذفٍ للإسلام من خيار المرجعية في المجال العام، يعمل آخرون هنا على حذف الإسلام كمرجعية ثقافية للهوية والمجال الخاص.
وإذا كنا نحن ننكر أن يختار الإسلاميُّ نمطَ حياةٍ معين يجعله دينًا= ما لم يكن هذا النمطُ هو الهَديُ العام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كنا نؤكد أن بعضهم يستورد من ثقافات أخرى وينسب للسنة ما ليس منها (اللباس الخليجي في مصر نموذجًا)= فإننا نؤكد أيضًا أن كثيرًا من أنماط عيشهم هو هَديُ محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أراده أن يكونَ نمطَ عيش للإنسان، وهو لم يُرد هذا ولعًا بالجزئيات والشكليات، وإنما شرعه الوحي لأن تكامل هذه الجزئيات داخل نظام عيش متكامل= هذا مما يحبه الله.
(4)
إن الإيمانَ بالله جل جلاله والتمسكَ بدينه والتزامَ وحيه=لا يمكن أن يحصُل للإنسان بالأماني، ولا يثبت في القلب ويجري على الجوارح بمجرد الدعوى؛ وإن أية دعوى لا توجد إجراءات عملية لدعمها= هي مجردُ شعارٍ فارغ.
لذلك فإن التأملَ فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يصل بك إلى حقيقةٍ ثابتة، وهي أن الإيمان لا يتم للمؤمن حتى يكون نمطَ حياة، وحتى يكون عادةً بالمعنى الإيجابي للعادة والذي يعني: الخِفَّةُ على النفس، ومع الخفة؛ التمتع، وبرد الطمأنينة، وراحة السكينة.
وأية نظرةٍ لبنية النظام الذي أتى به الوحي لا تُراعِي تكاملَه، ستؤدي إلى خللٍ عظيم يؤثر على فعاليةِ الجزء الذي عظمه هذا المختزِل للنظام؛ فإنّ ضَعفَ بعضِ أجزاءِ النظام وعدم تفعيلها لأسبابٍ خارجة عن إرادة الإنسان، ويعجز عن إزالتها= هو بعضُ الابتلاء والمحنة الكامنَين داخل بنية هذا النظام نفسه، ليبلوكم كَيفَ تَعمَلُونَ، أما الاختزال الاختياري لبعض بنية النظام، وتعطيلها عن التفعيل، أو تعظيم أجزاء منه تعظيمًا فوق أوزانها في الوحي= فإنه من الفتنة التي تُضِلُّ عن الحق، ولا يعذر اللهُ أصحابَها إلا ما شاء.
من هنا: ابدأ ثانية في إعادة النظر لهذا الكم من الجزئيات والشعائر، ودقيق الأمور وجليلها، ومقاصدها ومقدماتها= ستجد نفسك أمام نسقٍ متكاملٍ، الهدفُ منه هو أن يجعلَ الدنيا موصولةً بالآخرة، وأن يجعلَ الإيمانَ خطًّا مُتصلًا من القلب إلى الجوارح، ومتصلًا من الفرد إلى الجماعة، ومتصلًا من الجماعة إلى العالَم، ومتصلًا من العالم إلى مسار التاريخ كله، إلى أن يقبض اللهُ المؤمنين وهم شهداؤه على خلقه.
إنه مسارٌ متصل، ونمطُ حياةٍ ممتدٌ من ذكر الانتباه من النوم الذي عظَّم اللهُ أجره إلى أذكار النوم وما فيها من الالتجاء إلى الله والبراءة من الحول والقوة، مرورًا بالتَّطهُّر، والسِّواك، والقرآن، والصلوات المتتابعات، ومنظومةِ الحقوق الأخلاقية والتشريعية التي يجب عليك أن تلتزم بها تِجاه الدوائر القريبة والبعيدة، كل ذلك يجعل الوحي حيًّا بقدر حياة حَمَلَتِه والعاملين به.
حتى ذنوبُك، ومعاصيك، وسقطاتُك، وزلاتُك، وطباعُك السيئة، وشهواتُك التي لا تطيقُ الإقلاعَ عنها= كل ذلك هو نقصُك الذي يصنع كمالَك، كمالُك في توبتك منه، كمالُك في استغفارك منه، حتى مع عجزك عن تركه، كمالُك في هجرانك للكبائر، وتعظيمِ قدر الدم الحرام، والمال الحرام، والعِرض الحرام، كمالُك في طلب الحسنات اللائي يُذهِبن السيئات، كمالُكم في شفقتكم على الناس؛ لأنكم تُذنبون كما يذنبون وترجُون من الله ما يرجون.
إن عمود هذا الأمر يكمن في أن تصنع نمط حياتك، وأن تكون نسيجًا وحدك، وأن
تُحسن ما استطعت فيحسن الله إليك، وأن تتصالح مع نقائصك؛ لا تَصالُحَ الراضي بها، وإنما تصالُح من يرجو رحمة الله، ويكاثِر بالماء الخبثَ، ويسأل الله عفوه ورحمته.
وذروة سنام كل ذلك: أن تُبقيَ علاج الحبل متصلا من يقظتك إلى نومك؛ فإن الحبل إذا دام اتصاله واتصل علاجه= قَوِيَ فأصلح ما تفلَّت من خيوطه.
واللذةُ التي تجدها باتصال الحبل لا تعدُلها لذة أخرى من اللذات التي يَحسبُها بعضُ الخلق أنماطًا للعيش هي وحدها الحياةُ وغيرها موت؛ لأجل ذلك يقول شيخُ الإسلام: (وإنما يقع غلط أكثر الناس= أنه قد أحسَّ بظاهرٍ من لذَّات أهل الفجور وذاقها، ولم يذق لذاتِ أهل البر ولم يخبرها؛ ولكن أكثر الناس جُهَّال كما لا يسمعون ولا يعقلون، وهذا الجهل؛ لعدمِ شهودِ حقيقةِ الإيمان، ووجود حلاوته، وذوق طعمه).
لا تعليق