للدكتور أمير بقطر
عميد كلية التربية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
لما كان علم النفس خاصًا بدراسة الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني في شتى أنواعه، فإنه يتغلغل في الحياة اليومية؛ الاجتماعية منها، والخلقية، والسياسية، والاقتصادية، والفردية منها والجماعية على السواء.
وليس هذا العلم حديثًا كما يظن عامة الناس، فقد كان فلاسفة الإغريق وعلماؤهم أول من أرسى قواعده. واسمه في اللغات الأوروبية مشتق من كلمة Psyche الإغريقية، ومعناها النفس.
وقد يعجب القارئ إذا علم أن الإغريق دونوا على أحد الحوائط في الوجه القبلي، بين ما خلفوه من الآثار في مصر، قصة الملك أوديب، المأساة الروائية الشهيرة، التي اقترن اسمها بنظرية فرويد الحديثة في علم النفس. وقد نقل هذا الأثر الخالد إلى دار الآثار المصرية في القاهرة.
بيد أن علم النفس، لم يبلغ هذا الشأن الذي جعله يتناول الحياة اليومية بأسرها، إلا خلال القرن العشرين، ولاسيما منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
ويرجع الفضل في هذا إلى عناية العلماء بإخراجه من نطاق الفلسفة إلى نطاق العلوم الطبيعية التجريبية، والتمهيد لدراسته بدراسة الأطفال منذ ولادتهم، والقبائل البدائية، والمصابين بالأمراض العقلية، والحيوانات، ولاسيما العليا منها.
وعلة ذلك أن الطبيعة في هؤلاء سافرة، بعيدة عن الزغل والتصنع والنفاق، والتزويق والتهذيب، وما شاكلها من عوامل التربية والحضارة.. فالطفل في سنواته المبكرة، والحيوان، والمجنون، والرجل الذي يعيش على الفطرة بعيدًا عن المدينة- كل هؤلاء يعيشون بغرائزهم الأصلية، والطبيعة الحيوانية التي ولدوا بها. وكل دراسة علمية تجرى عليهم، تلقي ضوءًا على الطبيعة البشرية، والدوافع الأصلية الكامنة التي تدير دفة الإنسان في سلوكه اليومي.
الشعور واللاشعور:
وقد كان العلماء إلى عهد قريب لا يعرفون من عقل الإنسان أو طبيعته إلا الجزء الواعي. ولما جاء كل من فرويد ويونج في أوائل هذا القرن، وأشارا إلى هذا الجزء الذي لا يكاد يذكر بجانب العقل الباطن أو اللاشعور، وأن أكثر من 90% من تصرفات الإنسان يديرها هذا الشطر الكبير من العقل- لما أثبت العلماء هذا وأميط اللثام عن حقيقة الإنسان وطبيعته، والدوافع التي تنطوي عليها مسالكه. وقد كان هذا الكشف بمثابة قنبلة شديدة الانفجار اهتزت لها جميع الأوساط.
الغرائز والدوافع:
وقد اتضح للعلماء أن الغرائز والدوافع الحيوانية الأصيلة، الكامن أكثرها في اللاشعور أو العقل الباطن، وثيقة الارتباط بحاجاته الإنسانية. وقد اختلفوا في تقسيم هذه الغرائز وتسميتها ولكنها لا تعدو أن تنطوي تحت أقسام رئيسية أهمها المحافظة على النفس (وأساس هذه الغريزة الخوف والغضب والنزعة للقتال). وتخليد النسل (وأساسها الحب والميل إلى الجنس الآخر)، وحب الاستطلاع، والأمومة، وحب السيطرة.
وقد اختلفوا في ترتيب هذه بحسب شدتها وأهميتها، فوصفها بعضهم بهذا التسلل: الأمومة، الجوع، العطش، الميل إلى الجنس الآخر. وقال الطبيب والعالم النمساوي فرويد أن الميل إلى الجنس الآخر هو أهم الدوافع التي تسير الإنسان في جميع تصرفاته. وخالفه ألفرد أدلر، زميله بقوله إنه مع اعترافه بأهمية هذه النزعات فإن حب السيطرة أو التعبير الذاتي، أو العزة والكرامة، في مقدمة كل شيء آخر. وخالفهما الزميل الثالث كارل يونج (والثلاثة من أساطين علماء النفس في القرن العشرين)، فذكر أن الوحي والخيال والمثل العليا تتقدم على ما سواها. وحاول سير لنجدن براون (وهو طبيب إنجليزي من هواة علم النفس)، أن يوفق بين هذه الآراء الثلاثة، فقال إن الإنسان في سن المراهقة والرجولة المبكرة، تدير دفة أقواله وأعماله وتفكيره الميولُ إلى الجنس الآخر؛ وفي رجولته الناضجة، تسيره كرامته وعزته وحب السيطرة، وفي شيخوخته يكون خاضعًا للوحي والخيال والمثل العليا…
المرأة والرغيف:
وجمع بعضهم بين سيجموند فرويد، الطبيب العالم النفساني، وبين الفلاسفة الماديين بقوله إن هناك قوتين هائلتين تديران دفة الإنسان؛ هما المرأة والرغيف، أي الرغبة والحالة الاقتصادية. وهذا في الواقع تعبير آخر للرأي السابق- المحافظة على النفس وتخليد النسل.
وليس بين هذه الآراء ما يفوق غيره من حيث المبدأ الأساسي. فالمهم في المسألة تفهم الطبيعة البشرية، والوقوف على الدافع الإنساني الذي يوجه صاحبه ويسيره، فيسلك في حالة معينة سلوكًا معينًا. والعلاقات الإنسانية في شتى أوضاعها، يتوقف نجاحها وفشلها على تفهم هذه وإدراك ذاك.
ولعل المآسي التي نراها في الأسرة بين الزوجين، وبينهما وبين بناتهما، وفي المدرسة بين المعلم وتلاميذه، وبين الإدارة وهيئة التدريس- كلها تعود في أغلب الأحايين إلى جهل الطبائع الإنسانية، والدوافع الكامنة في نفوس أصحابها.
وقد فطنت المؤسسات التجارية والصناعية، والهيئات الاجتماعية والثقافية إلى هذه الحقائق النفسية، فأخذت في تطبيقها، حتى يفوز المهيمنون عليها بأوفر نصيب من النجاح فيها.
فالصحافة مثلًا، اليومية منها والأسبوعية على الأخص، كانت في العهود الماضية أشد عناية بالأدب والثقافة والشعر منها بكل شيء آخر. وكانت أرباحها ضئيلة، وكانت انتشارها محدودًا في طبقة خاصة مختارة من طبقات الأمة التي تنشر فيها. ولكن ما إن أخذ رجال الصحافة بمبادئ علم النفس التطبيقي، حتى بلغت أرباحها أضعاف أضعاف ما كانت عليه، وتضاعفت أحجامها وعدد قرائها إلى الحد لم يسبق له في تاريخ الصحافة مثيل.
علم النفس في الصحافة:
لقد فطنت الصحافة إلى أن نجاحها، شأن كل هيئة أخرى، يتوقف على مقدار معرفتها بطبيعة القراء وحاجاتهم، فركزت همها في تغذية أهم الميول والدوافع الإنسانية وأقواها. ففيما يتعلق بالمحافظة على النفس، اتخذت لأخبار الحروب، وحوادث القتل، والحريق، والجرائم المخلة بالأمن العام، أبرز العناوين، وأضخم الحروف، وأزهى الألوان.
وفيما يتعلق بغريزة حب الاستطلاع، تبعث بعض الصحف عيونها، وتبعث عسسها في الأوساط الراقية، والأندية والمجتمعات والصالونات الأرستقراطية الفاخرة، لتلتقط الأخبار، وتصيد الحوادث التي تتصل عن قريب أو عن بعيد بالقيل والقال. فالناس بطبيعتهم ميالون إلى نقل الأقاويل والأسرار التي تتسرب من وراء الجدران السمكية والأستار الحريرية الكثيفة، وتحويرها، والإضافة إليها، حتى تصبح سائغة تلوكها الألسن، وتشربها الأسماع.
وكثيرًا ما يوجه نقد لاذع للصحف التي تعني بالموضوعات والأخبار المثيرة للوجدان، في حين أن الصحافة في الواقع معذورة، إذ لولا هذه الأخبار والموضوعات، لما بلغت ما بلغته اليوم من شأن وعظمة. كما أن أكثر الناس منافقون وإن كانوا في مقدمة الناقدين، لأنهم أول من تتجه أنظارهم إلى الأخبار والصور المثيرة، سواء كانت متصلة بالنوازع أم بما يهدد سلامة الأفراد والجماعات، أم بغير ذلك. استرعى نظر كاتب هذه السطور مرة صورة في كتاب أمريكي في علم الاجتماع، تمثل صبيًا من باعة الصحف وفي يده اليمنى صحيفة يومية، وفي اليسرى صحيفة أخرى، وأمامه سيدة (لعلها خادمة) اشتبكت يداها خلف ظهرها حول مكنسة، وأخذت تتفرس في الصحيفتين، فدار الحديث كالأتي:
– ماذا تفضلين يا سيدتي؟ في هذه الصحيفة حريق، وفي هذه قتل..
– أفضل الصحيفة الثانية!.
ويعلل علماء النفس نزوع الناس عامة إلى العناية بجرائم القتل، وحوادث الموت والحروب، وكل ما يهدد سلامة الأرواح إلى ما تسببه أخبارها في نفوسهم الواعية أو الباطنة من الارتياح، لأنهم لم يصابوا بأذى من جرائها أو من جراء أمثالها.
… وفي الدعاية:
وليس القارئ في حاجة إلى تذكرة بالإعلانات الأخاذة، والدعايات الطنانة التي اتخذت علم النفس دليلها. فتارة تستهوي الناس بصور تثير الكوامن، وتارة بالأضواء الكهربائية المتحركة، وتارة بالألوان الزاهية الصارخة، وتارة بالأقوال التي تأخذ بمجامع القلوب وتصيب مواقع الوجدان. ولو اتسع المقام لسقنا للقارئ نماذج لأعداد لها من هذه الأقوال.
فلا عجب إذا استعانت المؤسسات التجارية بكبار علماء النفس لاستشارتهم في الإعلان والدعاية والترويج لسلعهم. ولا عجب إذا أغري أساتذة هذا العلم بالأموال الطائلة فهجروا جامعاتهم للتوظف في تلك المؤسسات. ونذكر منهم على سبيل المثال زعيم السلوكيين في علم النفس (جون ب. وطسن).
إذا ما انتقلنا من المؤسسات التجارية إلى المنشآت الصناعية الكبرى، ألفينا عالمًا من علماء النفس يرسم الخطط للموظفين والعمال، التي تخفف من وطأة الخلافات بين أصحابها وعمالها، وتوفر كافة الوسائل المادية والنفسية، التي ترفع الروح المعنوية، وتضاعف الإنتاج، وتقلل النفقات.
التوجيه المهني:
وقد تحتاج شركة مالية كبيرة إلى بضع مئات من الكتبة مرة واحدة، فتلجأ إلى عالم نفساني لاختيار أصلح المتقدمين إليها.
وقد يضع لهذا الجيش من المتقدمين اختبار صلاحية، أو يقتصر على اختبار ذكاء. ونذكر حالة استبعد العالم النفساني فيها الـ 20% ممن نالوا أعلى الدرجات واستبعد الـ 40% الذين ناولوا أحط الدرجات، وقرر توظيف البقية! وسبب ذلك أن الذين نالوا أعلى الدرجات لا يصلحون أن يكونوا كتبة.
أما الذين حصلوا على أحط الدرجات، فليس لديهم من المادة الخام (الذكاء) ما يؤدي لنجاح العمل. وهناك اختبارات صلاحية أو استعداد لكافة المهن والحرف والصنائع. فتعطى لطلبة الطب، والهندسة، والتمريض، الميكانيكا، والجنود، والطيارين، ورجال البحرية وغيرهم.
وما ذكرناه عن اهتداء الصحافة بعلم النفس، ينطبق على الروايات والقصص، فيتوقف رواجها على عنايتها بتغذية النوازع، وهذا كتاب علمي ظهر منذ ثلاثة أعوام في أمريكا للعالم الشهير كنزي، فبيع منه في الأسبوع الأول مليون نسخة، رغم ثمة الباهظ (3 جنيهات مصرية).
هذا ولو أننا بدأنا نتحدث للقراء عن علاقة علم النفس ومساهمته في الطب البدني والعقلي، لما اتسعت المجلة على رحبها للنزر القليل منه، وحسبنا أن نعلم أنه من خلال الثلاثين سنة الماضية، قد اتضح للأطباء أن بين 50% و70% من الأمراض التي يظن أنها بدنية، أمراضًا تعزى في الواقع إلى أسباب نفسية، وأن علاجها في علم النفس لا في الفرمكوبيا الطبية، وأن نسبة كبيرة من العمليات الجراحية، يمكن الاستغناء عنها، لو أن الأطباء أدركوا أن أصل الداء فيها نفساني لا جسماني.
(عن مجلة (قافلة الزيت)
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق