دكتور مختار حمزة

مدرس علم النفس بجامعة عين شمس 

مرآة الابن لا تظهر فيها الصور على حقيقتها تمامًا، وإنما تبدو كما يتخيلها الطفل، أو كما يتوقعها، أو كما يتمناها.

ولا ينتظم غالبًا توزيع الضوء على هذه الصور، بل يتركز على جانب منها أكثر من تركزه على باقي الجوانب، ثم يعمد الطفل إلى تفسير مختلف الصور التي يسجلها للوالد في سكناته وحركاته بالكيفية التي تلائم مداركه، وتتفق مع ميوله وأهوائه أو تتمشى مع مخاوفه وشكوكه.

وبعض هذه الصور ناطق، وبعضها الآخر صامت، وليست الصور الصامتة بأقل قيمة من الناطقة، فالأب قد يعمل في سكون والابن يقلده في كل ما يعمل، ويتبع الأسلوب نفسه الذي يتبعه الأب في سلوكه اليومي فإن كان الأب منظمًا فسيكون الابن أيضًا منظمًا، ذلك لأن الأب وهو الإنسان الذي تعهده بالحنو والرعاية منذ ولادته، الإنسان الكبير القادر على ما لا يقدر عليه الطفل، هو المثل الأعلى للطفل.. وكل ما يعمله يقلده الطفل فيه.. يقلده في طريقة المأكل، والمشرب والملبس، والنوم، والقراءة، والكتابة، والتحدث، والضحك، والتفاهم، والتزاور، واللعب، وغيرها من ألوان السلوك.

وفي كل ناحية من تلك النواحي عشرات الحركات (الدقيقة) التي لا يلتفت إليها الآباء لأنها أصبحت عادات تؤدى آليًّا، ولكن الابن يركز الضوء على حركة منها ويقلدها إلى أن تصبح عادة عنده بدوره… ومن أمثلة العادات التي تنتقل عن طريق المحاكاة: غسل اليدين قبل الأكل، واستخدام (الشوكة) والسكين والإكثار من شرب الماء أثناء الطعام، والشرب بصوت مرتفع، وحمد الله بعد انتهاء الأكل وقبل مغادرة المائدة، والنوم المبكر، وتهوية حجرة النوم، والعناية بالغطاء أثناء النوم، والقراءة قبيل النوم، ثم طريقة القراءة سواء بصوت مرتفع أو في سكون، وطريقة الكتابة، وكيفية الجلسة أثناءها، وطرق تصفح الجرائد والمجلات، والاستماع إلى الإذاعة، وفتح المذياع، ومراعاة شعور الغير، والروح المسالمة أو الروح العدائية وطريقة اللعب، وطريقة إظهار الحماسة وما إلى ذلك مما لا سبيل إلى إحصائه.

والمرأة التي ينظر فيها الطفل إلى والديه أشبه بشريط يسجل بصفة مستمرة منها بآلة تصوير عادية… وكلما اقترب الوالد من الطفل كان التسجيل واضحًا قويًّا.

ومعنى ذلك أن الأب قد يعلم ابنه عن غير قصد عادة الكذب أو الغش، وقد يعلمه النفاق أو الخداع، أو التعالي أو التذمر، أو التسلط، أو التدخين أو المقامرة… أو قد يعلمه الأمانة، والاعتدال، والصبر، والروية، والمثابرة، وحسن القيادة، والرضا عن النفس، وتقدير الذات، وتقدير الغير، وما إلى ذلك من الصفات الحميدة.

فسلوك الأب يوحي إلى الطفل بأن هذا هو السلوك السليم الصحيح، وعلى ذلك يحاكيه الابن.

وللسلوك العملي أثر أقوى من الألفاظ، فلا قيمة لأن ينصح الأب ابنه بألّا يخاف الكلاب، إن كان هو نفسه ترتعد فرائصه كلما أقبل نحوه كلب! ولا قيمة لأن تنصح الأم طفلها بألّا يخاف من الظلام إن كانت هي نفسها تصاب بالذعر الشديد في الظلام! ولا قيمة التعليمات الوالد للطفل بأن يضبط نفسه ويتحكم في أعصابه إذا كان هو يثور لأقل استفزاز أو إن كان هو نفسه يفقد السيطرة على نفسه إزاء أتفه الأمور… فصورة الأب تنعكس على الابن، لا من ناحية المظهر الخارجي فحسب بل من ناحية المشاعر والإحساسات أيضًا.

والابن يشارك أباه في مشاعره، فإن كان الأب سعيدًا فالابن يشاركه سعادته، فحالات السرور، أو الألم، أو الخوف، أو الغضب، أو غيرها تنعكس كلها في نفوس الصغار.

والطفل يعدل سلوكه بناء على تفسيراته لتلك المشاعر فإن كان الابن يؤدي عملًا، ورآه الأب وابتسم له فمعنى ذلك عند الابن أن الأب راضٍ عن سلوكه، فيسر الطفل لذلك ويتشجع على الاستمرار في أدائه… وإن أظهر الأب امتعاضًا، فإن ذلك يسبب للابن الشعور بالألم، فكيف عما يعمل…

وإن كان الأب يبتسم أحيانًا وفي المواقف المناسبة، ويمتعض أحيانًا وفي المواقف المناسبة أيضًا، فهذا هو الشيء الطبيعي الذي يؤدي بالطفل إلى السلوك السوي، إذ إن تلك هي الطريقة التي تمكن الطفل من التمييز بين الصواب والخطأ، وتعلمه أصول معاملة الغير، فيعرف حقوقه وواجباته.

أما إذا كان الأب راضيًا دائمًا عن ابنه: عن أي إنتاج له مهما يكن مستواه، وعن أي سلوك له حتى ولو كان فيه اعتداء على حقوق زملائه… أو إذا كان الأب دائمًا ساخطًا متذمرًا على كل ما يعمله الطفل أو ينتجه، فماذا نتوقع في الحالين؟

لا داعي لأن نتسرع في الإجابة فالبيانات المعطاة غير كافية…

فهل الأب ساخط على ابن واحد بالذات أم على جميع أبنائه؟ أم إنه ساخط على الإناث فقط دون الذكور؟ وهل هو ساخط على الأم أيضًا وعلى كل من يتصل بهم؟ أم إن اتصالاته الخارجية تتصف بالمرح والانشراح إلى أن يدخل المنزل فتنقلب الآية؟

لا بد من أن نعرف هذه البيانات كلها قبل الإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو بسيطًا في مظهره، ولكن الإجابة عنه تختلف باختلاف الموقف الكلي…

والواقع أن كل طفل له (ألبوم) كامل من الصور التي يتدخل فيها والده مع آخرين، سواء كانوا من أفراد الأسرة أو من خارجها، ولكل صورة معنى خاص ومغزى معين. وتتزايد صور هذا الألبوم يومًا بعد يوم، وتدخل تعديلات كثيرة عليها، وبالرغم من ذلك فإن للصور الأولى مكانة خاصة.. تلك الصور التي تبدأ منذ اللحظة الأولى في حياة الطفل. وأن العدسة التي تلتقط هذه الصور أو الأفضل أن نقول (الشريط السينمائي)، حساس للغاية، بأخف الابتسامات، وبحركات العيون، وعضلات الفم، وملامح الوجه البشوش أو الوجه العبوس… يحس بكل حركة على بساطتها وسرعتها… ثم تمر تلك التسجيلات إلى مرحلة التحميض، والطبع، والتفسير فتختمر في نفسه، وتخرج آثارها واضحة في سلوكه.

وقد يبدو هذا السلوك للكبار غير مطابق للواقع، ولكنه على أي حال يطابق لمنطق الطفل السريع التعميم.

***

ولنوضح ذلك بالأمثلة..

فحين يدق جرس الباب، أو جرس التليفون، ويطلب والد من طفله أن يقول للقادم (بابا غير موجود)، يفسر الطفل ذلك على أن الأب (كذاب)!

ولو وعد الأب طفله باصطحابه معه في نزهة، ثم خلف وعده فهو أيضًا (كذاب)!

وإذا كان الأب قاسيًا في معاملة الطفل يضربه لأتفه الأسباب فهو ظالم، وتبدأ صورة الأب في مخيلة الطفل تصطبغ بالقسوة، ويتخيله مفتول العضلات، قوي الحنجرة، بل قد يتصوره (وحشًا مفترسًا) ويراه في أحلامه على أنه سبع يفتح فمه ويزأر باعلا صوته!

وتحدث في صور الآباء تعديلات كثيرة من وحي العقل الباطن للطفل، فقد يضع للأب شاربًا طويلًا، أو قد يجرده من الشارب بل قد يضع الطفل في صورة أمه شاربًا إذا كانت هي المسيطرة في المنزل!

ونحن وإن كنا نتحدث طول الوقت عن الوالد، فإن كل ما ذكرناه ينطبق على الأم أيضًا، وإن كانت هناك نواحٍ أخرى خاصة بالأمهات… ومن أمثلة ذلك الأم التي تحرم من زوجها بالوفاة فتحافظ على ابنها محافظة شديدة وتتعهده بكل رعاية وعناية حتى يشب رجلًا ليحل محل زوجها. مثل هذه الأم لا تفطم ابنها عنها، وأعني بذلك (الفطام السيكولوجي)، بل إنها تشده إليها وتبقيه معتمدًا عليها في جميع أموره كبيرها وصغيرها. مثل هذه الأم يكون لها صورة في ذهن الطفل تختلف عن صور معظم الأمهات…

والصور التي يكونها الطفل لوالديه قابلة دائمًا للتعديل إذا بذل الوالد بعض الجهد لتعديلها وأما لو ثبتت لفترة طويلة، فإنها قد تؤدي إلى حدوث آثار نفسية عميقة، وفي ظروف خاصة قد تؤدي إلى مختلف ألوان الانحرافات.

فقد تؤدي المعاملة الخاطئة وخاصة في سن الطفولة المبكرة إلى تكوين عقدة نفسية، يكون من نتائجها انحرافات جنسية خطيرة في الكبر… أو إذا كانت جميع طلبات الطفل تجاب بمنتهى السرعة، وبمنتهى الحرص على إرضائه، فقد ينشأ رجلًا مدللًا لا يستطيع الوقوف على قدميه بمفرده… ولو ظهرت من الأبوين بعض دلالات الرفض، أو الكراهية، أو عدم الرغبة في الطفل، فإنه قد ينشأ منطويًا على نفسه، منسحبًا من الميدان، شاعرًا بالذلة والهوان، وقد يحدث أن ينتقم لنفسه ويتصف بالسلوك العدائي.

وهكذا نستطيع أن نقول إن الصورة التي يكون عليها المرء متوقفة على الصور التي سجلها لوالديه كل على حدة، ولهما أحدهما مع الآخر، ولهما مع باقي أفراد الأسرة، ولكل منهما مع المجتمع الخارجي…

ونظرة إلى (ألبوم) صور الأسرة -(الألبوم) الحقيقي- ونظرة أخرى إلى (الألبوم) المعدل -في رأي الطفل- كفيلتان بتفسير الحالة النفسية للطفل إلى درجة كبيرة من الدقة.

وإن أثمن ما يقدمه الوالد لولده صورة حميدة الصفات، قويمة السلوك، متزنة الانفعالات، لينقشها الطفل في (ألبومه) الخاص.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *