((إننا نجد الحاضر غير كافٍ؛ لأن الحياة كلها غير كافية)).
Woody Allen
(1)
(جيل) كاتب سيناريو هوليوودي يبدو أنه ناجح إلى حدٍّ كبير، فلا يمكننا القول إنه يعاني من عقدة فشل أو بحث عن مخرج. لكننا في الوقت نفسه ومن خلال تتبعنا لرحلته الباريسية نبصر بلا مجهودٍ كبير توتر علاقته بخطيبته وأسرتها، وعلى الرَّغم من أنهما على وشك الزواج، وأن الخطيبة وأمها يقومون بالفعل باستغلال زيارة الجميع لباريس من أجل اقتناء حاجات بيت الزوجية= فظلال الروتين والرتابة تحيط بكل شيء.
لا يكف جيل عن إخبار جميع المحيطين به كم هو مفتونٌ بباريس، كم يود أن يواصل السير في طرقاتها على غير هدًى؛ فقط ليستنشق عبير أيامها الخوالي حين كانت حاضرة الثقافة والفن والأدب.
بطريقةٍ لم يُبذَل أي مجهودٍ لشرحها: انفتحت فجوة زمانية أثناء سيرِ جيل وحيدًا في أحد شوارع باريس؛ ليجد جيل نفسه مباشرةً في وسط حُلمه الأثير، إنه في باريس عشرينيات القرن العشرين، يُجالس الكاتب الأمريكي العظيم “إرنست هيمينغواي” شابًّا، والرسام “بيكاسو”، والأمريكي الآخر “سكوت فيتزجيرالد وزوجته زيلدا، وهدية أسبانيا الحديثة للفنان “سلفادور دالي، ولا مانع من لقاء عابر بين جيل والناقد العظيم إليوت، ولقاء آخر بين جيل ولويس بونويل الذي يوحي له جيل بفكرة فيلمه الكلاسيكي “السحر الخفي للبرجوازية”.
يعتاد جيل عند دقات منتصف الليل أن يركب السيارة التي تمر به في نفس بقعة تلك الفجوة الزمنية؛ ليعاود لقاء هذه المجموعة الفذة الغريبة، فإذا تنفس الصبح عاد لحياته الرتيبة مع خطيبته الأمريكية البراقة الباردة.
يبدو جيل منتشيًا بهذه الفرصة التي لم يحسب يومًا أنها قد تكون، يعرض روايته على “جيرترود شتاين” في صالونها الأدبي، وفي هذا الصالون نفسه يلتقي بالفتاة الجميلة أدريانا والتي يتنافس على حبها كثيرٌ ممن مرت معنا أسماؤهم، بينما تسيطر عليها سآمة لا تخطئها عين.
تنفتح فجوة زمنية أخرى لجيل وأدريانا ليجدا نفسيهما في باريس نهاية القرن التاسع عشر، حيث تنطلق فرحة أدريانا لتغمر كل شيء؛ فهي ترى أن هذا الماضي كان أجمل بكثير، وأن حاضرها ممل جدًا، ويحاول جيل إقناعها بأن هذا غير صحيح، وأن لهذا الماضي عيوبه الكثيرة، وأن حاضرها الذي هو بالمناسبة ماضي جيل كان أجمل بكثير، لكنها لا تكف عن امتداح الحِقبة التي وجدوا أنفسهم فيها، مصرِّحة بأنها لن تعود قط لباريس القرن العشرين المملة التافهة، يقول لها هو: أنه فر من حاضره الممل ليأتي إلى عصرها الذهبي فكيف تريد أن تفر منه أو تصفه بأنه ممل؟!
ويستمر جيل في مجادلتها فيقول لها: إن ناس القرن التاسع عشر هؤلاء الذين تفرح بهم هم أيضًا سَئِموا أيامهم، ويظنون أن العصر الذهبي هو أيام النهضة، حتى ينطق بعبارته التي أظن أن وودي ألن كتب هذا الفيلم كله لأجلها: ((إذا بقيتِ هنا ستظنين بعد فترة أن حِقبةً سابقة كانت أجمل، وكانت هي العصر الذهبي، إننا نجد الحاضرَ غير كافٍ؛ لأن الحياة كلها غير كافية)).
(2)
عن جبير بن نفير قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجل، فقال: طوبى لهاتين العينين اللَّتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنَّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب، فجعلت أعجب؛ ما قال إلا خيرا، ثم أقبل إليه، فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى مُحضرًا غيَّبه اللهُ عنه، لا يدري لو شَهِده كيف كان يكون فيه؟ والله، لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ كبَّهم اللهُ على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مُصدقين لما جاء به نبيكم، قد كُفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حالٍ بُعث عليها نبيٌّ قط، في فترة وجاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار “، وأنها للتي قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا هَب لَنا مِن أَزواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعيُنٍ﴾ [الفرقان: ٧٤].
للحنين إلى الماضي سَطوةٌ كاسحة على كثيرٍ من بني آدم، وإذا كانت هذه السطوة قد غلبت على نفس هذا الرجل وهو بمحضر من صحابةِ رسول الله، وفي زمن بلغت فيه قوة دينه وأمته مداها، فكيف بِنا بهذه السطوةِ إذا حلَّت في قلوب قومٍ مهزومين لا يجدون في واقعهم أية بارقة أمل، ولا يعرفون حلاوة النصر إلا ترجيعًا للصدى واجترارًا للذكريات؟!
إن كثيرًا من معالم ثقافة الإسلاميين في زماننا يمكن فهمها على ضوء سيطرة النوستالجيا على نفوسهم، الكتابة التاريخية الشعبية التي تفتقد لقدرٍ من الأمانة وقدر أكبر من الدقة، بكائيات الأندلس السنوية، سرديات تمجيد العثمانيين الساذجة، عودة أسماء الصحابة للواجهة، التعريف بالكنية، الزي العربي القديم، لغة عربية لا تخلو من تقعر يَعلم دارسو تاريخ العربية أنه لم يكن طريقةَ العرب القدماء في التحدث، التعلق بالرواية التاريخية من أنواع السرد، حتى التيارات المسلحة تصوغ نفورها المتطرف من الأوضاع الإقليمية الحديثة في صورة تعريف للأقاليم بلفظ الولاية وتعطيها أسماءها التاريخية؛ لتصير أفغانستان ولاية خراسان.
عندما كتب كونديرا روايته: (الجهل) وكانت عن متلازمة الحنين هذه، وأراد بها الحديث عن حنين المهاجرين التشيك للعودة إلى بلادهم بعد انهيار القبضة السوفيتية= لَم يفهم الكثيرون لِمَ سمى روايته بهذا الاسم: الجهل.
فليس لهذا اللفظ صدًى داخل أحداث الرواية فيما يظهر للوهلة الأولى، ولأنهم يعلمون أن كونديرا يُلقي بحملٍ كبير على أسماء رواياته فقد أثار هذا عجبهم.
ومنذ القراءة الأولى أدركت -فيما أظن- ما يرمي إليه كونديرا: إن النوستالجيا لا تكتسب معظم سطوتها الكاسحة إلا من الجهل بالماضي، إن العمود الذي تنتصب عليه النوستالجيا هو الاختزال الساذج للماضي، ورؤيته على غير ما هو عليه، ونسيان تضاريسه الوعرة وحوافِّه المدببة ووهاده عَسِرة العبور.
ربما لأجل هذا أراد جيل أن يلفتَ نظر أدريانا بفكاهة وودي ألان المعروفة، إلى أن باريس القرن التاسع عشر لا يوجد بها مضادات حيوية.
وتصوُّر الماضي بتعقيده وتشابكه هو الذي أراد المقداد بن الأسود أن يلفت نظر ذلك الرجل إليه: ما أدراك أن ماضيك سيكون ماضٍ من صحبٍ وناصر وليس ماضٍ من كفر وقاتل؟
وللسبب نفسه قلت يومًا لأحد مهووسي العثمانيين: إن ليلةً واحدة في مخفر الدرك العثماني هي وحدها ستشفي هذا الهوس.
ربما من هذا الجهل وُلدت الرغبة العارمة في إصلاح الحاضر عن طريق تغيير الماضي، إنه نفس الوهم السائد أن الماضي يملك مفاتيح كل شيء.
في تحفة ستيفن كينج (11.22.63) يسيطر على عجوزٍ أمريكي رغبةٌ عارمة في أن إصلاح كل شيء يبدأ في العودة إلى أيام كينيدي وإنقاذه من الاغتيال.
ينجح في غرس الرغبة في نفس شاب يستطيع تجاوز فجوة زمنية نحو الماضي، وينقذ كينيدي بالفعل من الاغتيال ثم يعود لحاضره مرة أخرى فيجد عالمًا مدمرًا، ولا يجد في كتب التاريخ أي شيء ملفت صنعه كينيدي بعد نجاته من الاغتيال.
إن كثيرًا من تصوراتنا عن الماضي يملؤها الجهلُ والعجزُ عن إداراك تشابك الصورة وتعقيدها، وإن كثيرًا مما نتفق أنا وأنت على أنه كان عصرًا زاهيًا= كان فيه من أمثلة الوهن ووقائع البلاء وعظم المصائب ما لا يحتمله قلبك لو عدت لهذا الزمن فرحًا بما تظن غافلًا عما تجهل.
حتى بعض ما تظنه عدوانًا على بَيضةِ الدين وحرمات المسلمين هو في الواقع ليس من خصائص حِقبة الضعف التي نحن فيها، بل كثير منه كان يقع -وأفظع منه- في الأزمنة التي تظن أن قوتها تعني شمول أمانها.
(3)
لستُ هنا أجحد القيمة التي يحملها الماضي، ولستُ أختار أن أُعرِّيَ أحدًا من تاريخه، وما يحمله له من زادٍ سواء على مستوى المرجعية، أو مستوى العبرة والعظة، أو حتى مستوى الذخيرة المعنوية التي تنجِّي من احتقار الذات وذوبان الهوية.
هناك استعارة جميلة استعملها وائل حلاق من قبل، وهي أنه لا يمكنك السير بسيارتك للأمام دون الاهتداء بالمرايا التي تظهر لك ما وراءك.
لكن السؤال المهم هنا: هل يمكن لأحد أن يسير للأمام إن كان نظره لا يبرح المرايا الخلفية؟
إن الماضي بقطع النظر عن خطئك ووهمك في تصور طبيعته؛ لا ينبغي أن يتعدى حدود العبرة والانتفاع، ثوابتُه مرجعية إن فقدتَها فَقَدتَ ميزان معاييرك، وأحداثه مستودع عظتك وعبرتك، انتصاراته زادُ روحي ونفسي، وانكساراته درسٌ لك ولقومك.
نعم. لا ينبغي أن يخرج الماضي عن كونه أداة من أدوات الفهم والاعتبار، أما أن يتحول الماضي إلى زمانٍ للعيش، وأن يتحول الحنينُ إليه إلى شهوةٍ مُلهِية وشجنٍ مُقعد= فذلك فساد كله.
إن أي مُلازم تدريب في أي جيشٍ في العالم لن يبدأ تدريبه معك إلا بعبارة واحدة: عيناك للأمام.
لا جريمةَ أعظمُ هاهنا من أن يُضيع الإنسانُ الحاضرَ الذي بين يديه، الحاضرُ الذي هو زمن الامتحان، الحاضر الذي هو موضع السؤال، الحاضر الذي هو القيمة الحقيقية القابلة للاستثمار.
لا جريمة أعظم من إهدار زمنك وأيامك من أجل نشوة مجدٍ غابر يُسكرك؛ فإن إثم ذلك أكبر من نفعه.
هناك طبيعةٌ أخاذة لطبيعةِ ابتلاء الله لنا بخلقنا وتكليفنا: وهي أن الله يبلوكم كيف تعملون، هناك إجلالٌ عظيم للعمل الآني، هناك تعظيم كبير للنفع المباشر، هناك تقديس بالغ لأن يعيش الإنسان يومه كأنما هو آخر أيامه في الدنيا، فهو يحرص فيه على ما ينفعه ويُثقل ميزانه.
إياك أن تهدر أيامك في استحلاب نشوة ماضٍ لم تصنعه يداك ولن يُثقل ميزانك، إياك أن تفعل ذلك فتأتي يوم القيامة لا تملك إلا صرخات مشجعٍ بائس راح الفائزون بغنيمة فوزهم وعاد هو صفرُ اليدين قد فَرغت أيامه من صالحةٍ تنفعه.
لا تعليق