هل تربية الطفل شيء لا يستمد إلا من بطون الكتب؟ وأمهاتنا -نحن أبناء الجيل الماضي- الأميات غالبًا، اللواتي كن يصرخن فينا إذا فعلنا ما يغضب، ويلاطفننا إذا فعلنا ما يرضي، ويضربننا إذا ارتكبنا خطأ، وينهرننا إذا تمادينا في (الشقاوة)… هل كنَّ دائمًا على خطأ مبين؟ هذا طبيب نفسي علامة هو الدكتور (ملتون سابر شتاين) يدافع عن الأمهات الدائمات الصراخ، اللواتي يعتمدن على صدق إحساسهن، وحكمهن، وغريزتهن في معاملة أطفالهن، بغير تكلف للصبر، أو الهدوء، أو الرجوع إلى (الكتاب) لينظرن ماذا يفعلن!
(لم أعد أستطيع أن أحتمل أكثر من هذا.. لعلى لا أصلح أمًا. فقد بذلت جهدي، وحاولت أن أصبر، ولكن لم أعد أحتمل فوق ما احتملت! يخيل إلى أنني سأجن إذا جرت الأمور على هذا المنوال.
(إنه لا يسمع لي كلامًا.. أقصد ابني (سميرًا).. إنني أكرر له الطلب عشرات المرات ولكنه لا يأبه بي.. وأعرف أنه ما زال طفلًا في الخامسة، ولكنه يجب أن يتعلم الطاعة!
(لقد جف ريقي هذا الصباح وأنا أكرر عليه الطلب بأن يلعب خارج المطبخ… فقد أوشك أن يقلب الوعاء فوق الموقد.. ثم أخذ يفتح باب الثلاجة الكهربائية ويقفله حتى كاد يصيبه بالتلف… ثم جعل حوض الغسيل كساحة قتال وهو يحاول أن يقلدني في غسل الآنية.. وقد كدت أسقط مرتين متعثرة فيه!
(إن له غرفة ملأى باللعب ولكنه ينصرف عنها. وقد طلبت إليه أن يخرج ليلعب مع أصدقائه ولكنه فضل أن يبقى بالبيت ليناكفني، حتى انفجرت! فعندما أراق زجاجة اللبن على أرض المطبخ لم أعد أستطيع أن أضبط أعصابي، فانفجرت صارخة فيه، وانهلت عليه ضربًا حتى أدميت أنفه.. إنني لم أكن أقصد أن أقسو عليه بالضرب.. فلما رأيته يتألم، انقبض صدري، وأحسست أنني ظلمته، فدعوته للخروج معي، واشتريت له كأسًا من (الجيلاتي) ورحت أؤكد له أنني احبه.. أحبه حتى حين أغضب منه.. لقد تركت عمل المنزل كله معلقًا لأخفف عنه، وأذهب عنه أثر قسوتي.
(إنني أريد أن يشب (سمير) ناضجًا متزنًا، ولكني أخاف أن تمضي الأمور على هذا المنوال فأصيب حياته بالاضطراب).
* * *
وحين يقلب المرء صفحات كتب تربية الطفل جميعًا لن يجد كلمة تحبيذ واحدة لأم مثل (أم سمير)! لقد خرقت كل (القواعد) التي قضى العلماء سنوات طوالًا يعدونها، ويستخدمونها لتسترشد بها الأمهات في تربية أطفالهن!
يقول العلماء: إن (أم سمير) لم تنضج هي نفسها، وأن كل طفل من أطفالها سيبدأ حياته بهذا النقص الذي ليست له يد فيه! ولا ريب أنها تحب أطفالها، ولكنها عاجزة عن أن تمنحهم الهدوء والاستقرار والتوجيه الذين ينشدونهم للوصول إلى مرحلة النضج الكامل.. أن أطفالها خلقاء بأن يفتقدوا الإحساس بالاستقرار والأمان.
ولكن العلماء يجابهون بلغز محير.. فأبناء مثل هذه الأم التي لا تكف عن الصراخ قد يشبون سويين، متزنين، ناضجين! وبطريقة أو بأخرى يفلحون في أن يغدوا رجالًا سعداء! وفي الوقت نفسه قد يرى العلماء أبناء انحدروا من أُسَر يعتدل فيها (بارومتر العواطف) ويثبت على اعتداله فالأبناء والأمهات فيها مثال للسيطرة على النفس، وضبط الأعصاب، وحسن الفهم والإدراك ومع ذلك فهم -أي الأبناء- أشقياء تعساء!
ذلك مستعدة لإبداء الرقة والعطف والأسف.
ولعل أهم مزية للأم الصارخة هي تلقائيتها، فهي لا تلقي حديثًا مدبرًا، أو تظهر انفعالًا متكلفًا، وإنما هي تقول ما تمليه عليها.
والأم الصارخة التي تعنيني في هذا المقال، أم طبيعية الدوافع والأحاسيس، ولكن مشكلتها أنها لا تحسن ضبط سلوكها. فهي تستجيب على الفور لكل توتر، وحين تكون استجابتها هي الغضب تندفع إلى الصراخ، ولكنها مع عاطفتها، ولغة العاطفة لغة لا يخطئ الأطفال فهمها.. ووضوح عاطفة الأم لطفلها مزية كبرى. فليس هنالك عندئذ مجال للحيرة، ولا لسوء التفسير من جانب الطفل.
ولما كانت الأم السريعة الاستجابة تعبر عن إحساسها الصادق، بدلًا من تعبيرها عما ترى أنه (ينبغي لها) أن تحسه فإن تأثيرها في الطفل يكون تأثيرًا متكاملًا غير متناقض.. فالطفل خليق في طفولته الباكرة أن يدرك ماذا يسعد أمه وماذا يحزنها، وماذا يستثير غضبها، وتلك أيضًا مزية كبرى، ومعوان كبير للنمو الطبيعي.
وعلاقة الأم بالطفل في مراحلها الأولى علاقة (عاطفية) بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، وليست قط علاقة قائمة على المنطق، ولهذا كان خليقًا بالأم التي تتبع المنطق في علاقتها بطفلها أن تخطئ. فهي تدع للمنطق أن يحتل مكان الغريزة، وللعقل أن يأخذ مكان العاطفة، ومن ثم ينقطع الاتصال بينهما انقطاعًا محزنًا.
أما الأم الصارخة فتتفاعل مع طفلها بصفة مستمرة، وهو تفاعل لا بد منه للنمو. فهذه الاستجابة المتبادلة تجعله يحس أنه شخص حي، يتحرك، ويصرخ الناس.. أما قناع الهدوء الذي قد ترتديه الأم المسيطرة على عواطفها فقد يوقع الطفل الذي يبني فرديته في حيرة!
وثمة خدمة أخرى تسديها الأم الصارخة لطفلها، تلك هي أن استجاباتها تيسر له فرصة تأملها ودراستها وتقليدها. فالطفل يتعلم بالملاحظة، وبالاستجابة لما يلاحظه.
ولعله من حسن الحظ أن أكثر الأمهات لسن (صالحات) بالقدر الذي ينشدنه، أي لسن على حظ موفور من ضبط النفس، والهدوء. ولهذا السبب تفلح الغالبية العظمى من الأطفال في اكتساب أوليات التعبير العاطفي.
وفي مسألة الطاعة نرى للأم الصارخة ميزات أيضًا.. فهي لا تدع مجالًا لأطفالها للشك فيما تريدهم أو لا تريدهم أن يفعلوه. إنها لا تستشير أحدًا فيما يجب أن تفعل بل هي تستجيب للموقف على الفور، وقد تستجيب بقوة وعنف، ولكن هذا العنف تهون منه تلقائية الاستجابة وسرعتها.
وحين يأتي العقاب فور ارتكاب الخطأ، يكون الطفل فكرة واضحة عن السلوك الخاطئ، ويحاول أن يتجنبه مستقبلًا.
إن من الصعب جدًّا أخذ الطفل بالعقل والمنطق، كما تنشد بعض الأمهات؛ ذلك أنهن عندئذ يخاطبن في الطفل موهبة لم تتكون بعد، فالقيم والمعايير كما يعرفها الناضجون مجهولة تمامًا من الطفل..
ولن يدرك الطفل شيئًا إذا حاولت أمه أن تفهمه بالعقل والمنطق أخطار الطريق، أو اللعب بعيدان الثقاب. إن الخطر الوحيد الذي يدركه الطفل هو خطر افتقاده الحب.. والضغط (الاجتماعي) الوحيد الذي يفهمه هو تحبيذ والديه أو عدم تحبيذهم لما يفعله!
والأم التي لا تسلم بأنها تغضب أحيانًا من أطفالها وتخفي عنهم كل نزعة عدائية وراء قناع من الصبر المتكلف لا تسدي إليهم خدمة.. فعداؤها المكظوم قد يتحول نحو زوجها أو نحو شخص آخر في محيط الأسرة، فيظلل الجو بالمرارة، وأخطر من ذلك أنه قد يتحول إلى نفسها ويؤثر في شخصيتها!
وقد أسلفنا أن الطفل يجب أن يتعلم إدراك عواطفه والتعبير عنها، وهو كذلك ينبغي أن يدرك ويعبر عن نزعاته العدائية. فتلك النزعات لا ينبغي أن تقمع، بل ينبغي أن تهذب.. والأم الصارخة تدفع طفلها إلى إظهار غضبه لا قمعه.. وفي الغضب الذي تظهره هي مبرر كافٍ لكي يظهر الطفل بدوره غضبه، دون أن يدع مجالًا كبيرًا للندم على إظهاره غضبه.. وعثور الطفل على مبرر كافٍ لغضبه -وهو في هذه الحالة غضب الأم الواضح الصريح- على جانب كبير من الأهمية لتهدئة نفسه، وقمع كل أثر لهذا الغضب من الترسب.
***
ولعل القارئ يلحظ أنني صببت حديثي على (مزايا) الأم الصارخة ولم أشر إلى مساوئها.. على أنني لا أريد أن أهون من شأن المساوئ، فهي ظاهرة جلية، ولكني أريد أن أبين أن لها فضائل ومزايا كثيرًا ما يخفق الناس في ملاحظتها.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أريد أن أستدرج الأمهات شيئًا إلى التلقائية، والانطلاق على السجية في معاملة أطفالهن، بعد أن غلبت على أمهات هذا الجيل النزعة إلى مراعاة (حرفية) ما يكتب عن تربية الطفل، مضحيات بذلك بمزية كبرى، تلك هي التجاوب العاطفي بينهن وبين أطفالهن!
إن تنشئة أسرة ينبغي أن يكون (مغامرة) لا مسرحية معدة من قبل، يؤدي كل فرد فيها دورًا مرسومًا محدودًا.. والواقع أن مرد فشل أكثر الآباء في تربية أبنائهم (المجهود) العنيف الذي يبذلونه في سبيل هذه التربية، كأنما هم يبتغون خلق (الطفل الكامل)! وهم ينظرون أخيرًا فإذا أبناؤهم ليسوا أفضل ولا أسوأ -بل قد يكونون أسوأ أحيانًا- من أبناء أولئك الذين لم يبذلوا معشار ما بذلوا هم من مجهود!
عن كتاب (ألغاز الحياة اليومية)
لا تعليق