للأستاذ عبد الفتاح الزيادي

                         مراقب منطقة دمنهور التعليمية سابقًا

في صيف 1951 شددت الرحال إلى بعض عواصم أوربا، وانتهى بي المطاف إلى (فينا) عروس العواصم. فهي تحتل الصميم من قلب أوربا، وتتجلى في كل مناحيها أبهة الفن، وعزة المجد، ويحتشد فيها نحو نصف سكان النمسا.

وفي إحدى ضواحي فينا، زرت مصحًا عامًا من مصحاتها، يعتبر مثلًا فذًّا في العناية بمرضى الأعصاب، وتوفير وسائل الراحة لهم. وقد تكرم مدير المصح الشاب فطاف بي ببعض حجرات المرضى، شارحًا طريقة (العلاج) الطبيعي الذي تدين به دوائر الطب في النمسا وألمانيا. وقد عرفت بعد ذلك أن مدير هذا المصح تلميذ لنابغة طب الأعصاب في فينا (البروفسور فاجنر ياورج).

وحدثني الطبيب الشاب عن ظاهرة عجيبة، لاحظها في بعض مرضى الأعصاب الذين يشرف على علاجهم، ويجري عليهم في الوقت ذاته تجاربه، فقال: إن هؤلاء المرضى يصابون في النصف الأول من كل شهر قمري -أي من وقت أن يكون القمر هلالًا إلى أن يستوي بدرًا- بتوتر عصبي عنيف، فتتنبه أعصابهم تنبهًا شديدًا، يتجلَّى في شدة انفعالاتهم واستحواذ الأوهام عليهم… حتى إذا ما بدأ النصف الأخير من الشهر القمري، بدأت هذه الانفعالات تخف وطأتها!

وقد أصبح هذا الطبيب –بحكم خبراته المتعددة- يؤمن بأن للقمر تأثيرًا على الجهاز العصبي للإنسان، يستجيب له أصحاب الأمزجة العصبية.

وقد عجبت لهذه الظاهرة، التي لا تزال موضع الدراسة والبحث، وسرح بي الخاطر اللغوي، وقلت لعل ذلك هو ما حدا بالقدامى الذين كانوا أيضًا يعرفون هذه الظاهرة، إلى تسمية الأمراض العصبية بالأمراض (القمرية) فمستشفى الأمراض العقلية يسمى في إنجلترا إلى اليوم باسم (الملجأ القمري) (Lunatic Asylum)، وفي الإنجليزية، يعبر عن الرجل المسلوب الإرادة، الذي لا يصدر في عمله عن اتزان فكري بأنه (Moon Stricken)، وترجمتها (به مس من القمر)! وفي الفرنسية يوصف هذا الرجل بأنه (قمري) (Lunatique).

وما أدرانا؟ فلعل تلك الرحلات المزمع القيام بها للقمر، والتي تطلع بها علينا الصحف بين آن وآخر، هي من تأثير ما أصاب عقول القوم من (مس قمري) أصبحوا منه يتخبطون في دياجير الأوهام، والتصورات الزائفة!

فقد جاء في الأنباء أخيرًا أنه قد تألفت شركة في أمريكا، سمَّت نفسها (شركة استغلال القمر) ومقرها نيويورك. وقد احتكرت هذه الشركة أرض القمر وراحت تتصرف فيها بالبيع، وتقدم لها -أول من تقدم- قس أمريكي، فباعته قطعة ليقيم عليها كنيسة.

كذلك تقدم (مدير شركة الفنادق الكبرى) بفرنسا الآخر لشراء قطعة أرض في القمر، لينشئ عليها فرعًا لفندقه.

ولست أدري إلى أي مدى بلغ مقدار تهافت الأمريكيين على شراء العقارات في القمر وإنما الذي أدريه أن مساحة المقر لا تتجاوز 1/16 من مساحة الأرض، أي ما يعادل بالتقريب مساحة أمريكا! أما جرمه فيساوي جزءًا من جرم الأرض، أي أن 55 قمرًا تساوي أرضنا.

ولابد لي -في هذا المقام- من أن أنبه القس المحترم إلى ضرورة تزويد كنيسته المنشودة بمستلزمات التدفئة كلها، وأسدي هذه النصيحة لمدير الفنادق.

فإن الليل في القمر يدوم أسبوعين، وتنخفض فيه درجة الحرارة حتى تصل إلى ما دون الصفر بنحو 155 درجة مئوية، وهي درجة كفيلة بأن تهرأ أبدان البشر… ذلك أن أشعة الشمس، لا تنفذ من طبقات القمر السطحية إلى التي تليها، كما هي الحال في الأرض، ومرجع ذلك إلى سطح القمر مكون من الرماد البركاني، وهذا بطبيعته موصل رديء جدًّا للحرارة… وعند خسوف القمر تهبط درجة حرارته فجأة في بضع دقائق، لأن حرارة الشمس لا تتعمق إلا في طبقة رقيقة جدًّا من سطحه، وليس فيه مدخر منها.

كذلك ينبغي أن يعلم القس، ومدير الفندق ومن نحا نحوهما، أن القمر لا جو له بسبب ضعف جاذبيته. فليس عليه بحار ولا أنهار، ولا تمطر سماؤه البتة، فهو عالم ميت، أشبه ما يكون بمعرض لبراكين خامدة وأخرى ثائرة. وبعض براكينه لها فوهات من الكبر، بحيث تتسع لأن تبتلع جزءًا من سطح الأرض كالوجه البحري في مصر!

وليعلم القس أيضًا أن كل موعظة يلقيها على القانتين من عباد الله الذي يؤمون كنيسته، لن تصل إلى أسماعهم أبدًا… فالأصوات في القمر لا تنتقل لخلو جوه من الهواء.. والسبيل الوحيد للتخاطب هو الإشارة!

وإذا تركنا الخيال الذي خرج إلى عالم الحقيقة، كما في حالة شركة احتكار أراضي القمر، إلى الخيال الذي بقى خيالًا، وجدنا أن الشعراء بدورهم قد أصابهم مس من القمر!.. وهم حياله فريقان، فريق، فجر القمر بضوئه الناعم لشعورهم معينًا، فاستثار شوقهم وأحلامهم، وهاج الحب الدفين بين جوانحهم فانطلقوا يتمدحون بسنائه ويتغنون ببهائه… وفريق، أزور عن رؤيته، وأبدت له عين السخط مساوئه فوصفه بأنه هدام للعمر، مقرب للأجل، فاضح للطارق، دال على السارق، وقالوا: ما أشبه امتقاع وجهه وصمته، بامتقاع وجوه الموتى وصمتهم!

واعتبره البعض رمزًا للمخلوق المتقلب الذي لا يثبت على حال:

      فتارة ينزل تحت الثرى                        وتارة وسط السماء يرتقي

     وتارة يوجد في مغرب                         وتارة يوجد في المشرق

       وتارة تحسبه سابحًا                      يسري بشاطئ البحر كالزورق

وقد سجل (شكسبير) هذا الاعتقاد في روايته الخالدة (روميو وجولييت) عندما ناشدت (جوليت) حبيبها (روميو) وقد أقسم لها بالقمر، ناشدته الله ألا يقسم به، لأن القمر رمز التقلب وعدم الوفاء!

على أنه مهما يقل في القمر، فسيظل الابن الأوحد للأرض، وسيبقى وفيًّا بارًا بأمه،وبأهل الأرض الذين يهيئ لهم في سناه مجلسًا للسمر، ويزيل عنهم وحشة الغاسق، وينم عن المؤذي والطارق!

 

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *