الحياة الطيبة اختيارٌ وقرار، وليست شيئًا يُفرض عليك لا حيلةَ لك معه، ولا يد لك فيه، وكلُّ اختيارٍ وقرارٍ فله أدواتٌ يمكن تحصيلها، ومفاتيحُ يمكن استعمالها من أجل تحسينه وتجويده، وتخلِّي الإنسان عن استعمال تلك المفاتيح، وعيشه الحياة كيفما اتفق= يضره ويفسده، ويجعله مسؤولًا أساسيًّا عن بؤس واقعه، وتعاسة مصيره.
ومن أكثر ما يُفسد عيشَ الإنسان تخلِّيه عن تحمُّل مسؤولية حياته، واكتفائه بأن يُلقيَ باللومِ على الظروف السيئة والحظ العاثر.
والذي يحصل للناس أنهم يَخلِطون بين الظروف السيئة وبين الاستجابات السيئة، والواقع: أن سوءَ الاستجابة هو ما يؤدي لبؤس العيش، وليست الظروف السيئة، والناسُ يخلطون بين الحظ العاثر وبين القرارات السيئة، والواقعُ أن كثيرًا مما يؤدي لصناعة الصورة الكاملة لعيشٍ لا يُطاق= هو في حقيقته قرارٌ سيء وليس حظًّا عاثرًا.
وإذا أردنا هنا أن نصوغَ شيئًا من مفاتيح الحياة الطيبة، فحقيقة الأمر أننا نصوغ مفاتيحَ الاستجابات السليمة، وأدواتِ الاستعداد للتحديات بما يُنتج القرارات الصائبة، فإن رُجحان مجموع الاستجابات السليمة والقرارات الصائبة على ما يضادها من استجابات سيئة وقرارات خاطئة= هو ما يصنع الحياة الطيبة، وذلك هو الميزان الذي تُطلب به، وتُقيَّم على أساسه.
إن أعتى صور البلاء ليست حياة بائسة، إلا إن كانت استجابتك للبلاء على نحوٍ لا يجعله خيرًا لك، أما من استجاب للبلاء الاستجابةَ التي تجعله خيرًا له= فليس البؤس إلا في الصورة الظاهرة للواقع، أما حقيقة أمره فهي أنه يحيا حياةً طيبة بقدر جودة استجابته وجريانها على ما يُحبه الله.
في هذا المقال وما سيتلوه -بإذن الله- سأحاول استعراض: سبعةِ أسسٍ للعيش الحَسَن، وسبعةِ مفاتيح للحياة الطيبة، من خاض محنةَ تعلُّمها، وتعلم أدواتها، وإجراءات تفعيلها، ثُم خاض محنة العمل بها= أرجو أنه سيحيا حياة يكون الخطأ فيها قيمة إيجابية فضلًا عن الصواب.
وهذا يُظهر لنا -بالضرورة- أن هذه المفاتيحَ لن تكتسب قيمتها بأبنيتها اللغوية، ولا بهيئتها الشعارية، وإنما تكتسب قيمتها من خوضك معها نِزال الفهم والعمل، وموازنات التفعيل، وتحديات التطبيق.
المفتاح الأول: معيارية الوحي كقيمة ضابطة عُليا.
الوحي؛ كلام الله ورسالته الخاتمة إلى الناس كلهم، هو القيمة الضابطة العُليا التي تُستمد منها المرجعية المعيارية الأساسية، التي يتم عن طريقها تقييم الأشياء والأشخاص، والحكم على التصرفات والأفعال، وتحديد الخيارات، واتخاذ قرار الترجيح عند موازنات التعارضات.
فالحقيقةُ أن الحياةَ وخياراتها تأتي مصحوبةً بسلسلةٍ -لا تكاد تنتهي- من الأحكام القِيَميَّة التي تفتقر إلى مصدرٍ معياري يُعينك على الصواب فيها، وتأتي مصحوبةً أيضًا بسلسلةٍ -لا تكادُ تنتهي- من التعارضات التي يُطلب منك فيها أن تسلكَ طريقًا واحدًا من طرقٍ متعددة، وأن تُرجِّحَ خيارًا واحدًا من خياراتٍ متضادة أو متناقضة، وكل مُفترقِ طرقٍ تقف على ناصيته هذه التعارضات= يُشكِّل قرارك فيه طبيعةَ المسار الطويل لحياتك. وستقابلك فيها مسارات يسهل فيها العودة وإعادة اتخاذ القرار، ومسارات يصعب فيها هذا جدًا، وتكون حياتك بعدها سلسلة من القرارات السيئة التي يبدو لك أنه لا يمكن تفاديها طالما حصل الخطأ الأول، والواقع أن العودة دائمًا ممكنة، لكن الذي يثقُل هو تكاليفها، وعليه فسيظل اتخاذ القرارات السليمة -مهما بلغت تكاليفها- هو الأقل في المعيار السليم لحساب التكاليف والمشاق، وهنا تبرُز قيمة هذا المفتاح من مفاتيح العيش والحياة؛ إذ لا يوجد ما هو أحسن من أن يكون مصدر القِيَمِ الضابطة معصومًا من الخطأ، وأن يكون هذا المصدر هو خالقُ الناسِ، الخبيرُ بهم، ثُم أن يكون هو من بيده محاسبة الناس على أعمالهم.
نعم. ستظل هذه القيمة محفوفةً بتحدِّيات التأويل، ومُعضِلات الخطأ في الفهم والتطبيق، لكن كل المصادر المعيارية التي أنتجتها البشرية لا تخلو من تحديات التأويل ومعضلات الفهم والتطبيق، ورغم ذلك لم تنقطع البشرية عن العمل بها وتفعيلها، ومكاثرة خطئها بصوابها؛ لأن هذا التحدي نفسه هو جزء من نقص الحياة البشرية، وهذا النقص نفسه هو الدافع لاستمرار العمل، والحافز لدوام الإبداع.
والمصدر المعياري المعصوم أولى بهذا إذن، فاستمرارُ العلاقة المتبادلة بينك وبينه، جهادًا في الفهم، وجهادًا في معاناة التفعيل والتطبيق= هو في حقيقة الأمر لبُّ الحياة التي يحبها الله، ولو شاء الله لجعل الوحي قطعي الثبوت والدلالة، ولجعل جنس الأحكام منصوصًا لفظًا ومعنًى مستوعبًا للحوادث، فهو – سبحانه – بكل شيءٍ عليم.
وإنَّما أنزل اللهُ الوحيَ منه مُحْكَمٌ ومنه متشابه، وَتَعَبَّدَ نبيُّه بالاجتهاد – على الراجح – وأقرَّ النبيُّ الصحابةَ على اجتهادهم، وكُتب الأجرُ للمجتهد في طلب الحق من جهة الوحي، وما كان كل ذلك على هذا الوجه إلَّا لأنَّ اللهَ يحب أَنْ يَرى عباده في جِدٍّ وَكَدٍّ، يطلبون فقه مرادِه بالوحي كتابًا وسُنَّةً، ويستفرغون وِسعهم في هذا الطلب الدينيِّ الشريفِ، يُقلِّد عامّتُهم علماءهم، ويجتهد علماؤهم في وصلِ حبل النظر في الوحي لا يكسلون عنه، لا تلهيهم عنه أموالهم، ولا أولادهم، فهم في عبادةٍ ما ترددت أنفاسُهم في صدورهم، وما خَطَّتْ أقلامهم سوادَها في بياض أوراقهم.
إن هذه المجاهدة لتفعيل الوحي قيمةً ضابطة معيارية في الحياة= هي أعظمُ مسؤوليات العبودية التي يصنعُ تحملُها، والقيامُ بها، جمالَ العيش وطِيبَ الحياة.
|
وإن هذا المفتاح هو أعظم وأهم مفاتيح الحياة الطيبة؛ فإن المعرِضين عن معيارية الوحي، سواءَ طلبوا غيرها لِيُوَلُّوهُ منصب المعياري، أو عاشوا حياتهم عبثًا وعدمًا= كل أولئك لا يطيبُ عيشُهم إلا إذا جَعلتَ طيبَ العيش هو اللذةُ المنقطعة، والمتاعُ القليل الزائل، ولا يكون القليل الذي ينقطع ويزول عيشًا طيبًا إلا في وَهم الذين لا يعقلون.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويرجونَ ثوابَ اللهِ ونعيمَ الآخرةِ= فيطلبون دوامَ الاتصال بالوحي قراءةً وتدبرًا وتحريًا لسلامةِ الفهم واتصال العمل، ولا تنقطع قطُّ تلك الصلة بين حياتهم وآرائهم وأعمالهم وبين ذلك المصدر المقدس، ويعلمون أن الحياة الطيبة إنما تُطلب برواء الماء، فلا تغرهم أمارات الالتذاذ تعلو وجوه الذين يطلبون رواء الندى بسف التراب.
لا تعليق