تأليف: جون هومر ميلر
تلخيص الدكتور: نظمي لوقا
دعوى هذا الكتاب
| إن في أنفسنا رغبات عميقة كامنة، يقابلها في العالم الخارجي عدد لا حصر له من الاحتمالات والممكنات التي تشبع هذه الرغبات، ولنا مطلق الحرية في أن نتخير لأنفسنا من هذه الممكنات ما نتعلق به ونرتبط، وهذا الاختيار هو الذي يحدد سلوكنا في الحياة… |
من أنت؟
إنك ترغب في تكوين الصداقات، والتأثير في الناس، مع حسن القبول عندهم، وكسب احترامهم وإعجابهم. ولكن ما من أحد يغدو شيئًا مذكورًا عن طريق المحاولة العامدة، فكلما ازدادت محاولاتك العامدة للتأثير في الناس، قل أثرك عندهم، وخف وزنك. وكلما ازدادت محاولاتك المرسومة لاجتذاب انتباه الناس، زادوا منك نفورًا.
إنما الذين يجتذبونك ويستحوذون على اهتمامك هم أشخاص في الحقيقة يعيشون في يسر وفي غير تكلف. يعيشون على سجيتهم ولا يحاولون أن يكونوا غير ما هم في الواقع.
وأنت لا تكون أقرب إلى الجاذبية إلا حين تنسى نفسك، وتكف عن فرض تأثيرك أو جاذبيتك، أو لفت الأنظار إليك. وخير صورة (فوتوغرافية) لك هي التي تؤخذ وأنت غير منتبه، أي وأنت تفكر في شيء غير نفسك. وحينما تجلس للتصوير، فالفنان الحق هو الذي يعرف كيف يصرف ذهنك عن التركيز في ذاتك، دون أن يجعلك تشعر بهذا التوجيه..
وما أقل تأثيرًا أولئك الذين يحاولون دائمًا أن يؤثروا عليك بخطورتهم، وعصاميتهم أو بما يمتلكون أو بما يتصفون به.
حينما يقول لك شخص متفاخرًا: (لقد بدأت ساعيًا في المكتب، وأنا الآن أملك المؤسسة)؛ ستبتسم، لأنك تعرف ما يعرفه هو. تعرف أنه مملوك للمؤسسة، وليست المؤسسة هي المملوكة له! وعلى أحجار قبر سطرت كلمات ما أصدقها، رغم ما فيها من مظهر التهكم:
(فلان) ولد إنسانًا، ومات بقالاً!
وهناك فريق من الناس يحاولون الظهور والبروز بالاندماج في أوساط معينة للتفاخر بأنهم من المقربين إلى هذا الحاكم، أو ذاك الخطيب، أو البرلماني، أو الشخصية البارزة في القرية أو المدينة أو الإقليم أو القُطر!
وكل شخص يعتقد أن أهميته تكمن في ذاته أو في شيء يمتلكه، إنما هو في الواقع يخدع نفسه، ولا يترك أثرًا حقيقيًّا في أحد من الناس، ولا أهمية له في الواقع إلا في عينيه هو!
إن أهميتك ليست فيما يخصك، ولا فيما تمتلكه، بل فيما تنتمي إليه، وفيما يمتلكك… ليس فيما تسيطر عليه بل فيما يسيطر عليك… ليس فيما تخضعه لإرادتك، بل فيما تستطيع أن تطوع إرادتك له… ليس فيما هو لك، بل فيما أنت له.
إن الأهمية لا تتأتى ببذل مجهود مباشر للظهور والبروز، كرياضة شد الحبل أو رفع الأثقال… وهي لا تُدرَك بالإرادة والجهد، بل تدرك بالخيال، والذكاء، والحيلة. فما يبرز أهميتك حقًّا هو ما تروض نفسك عليه. فرياضة النفس هي الملكة الأساسية كي تغدو شيئًا مذكورًا.
وإن لديك القدرة على أن تمثل في هذه الدنيا شيئًا أكثر من ذاتك، وأن تقف نفسك على شيء أعظم من وجودك الخاص. ففي اللحظة التي تجند فيها نفسك لمبدأ سامٍ، أو قضية عظيمة، وتدمج نفسك فيها، تغدو شيئًا مذكورًا من غير جهد خاص أو محاولة مباشرة. لأنك عندئذ ستمثل ما تدافع عنه، وما تحمل رسالته، وهو شيء كبير خطير، يرفعك إلى الكرامة والتقدير، لأن قيمتك لم تعد في ذاتك، بل فيما تعيش له…
وهناك أشخاص ينهكون قواهم، ويمزقون حياتهم بسبب انهماكهم في الوصول إلى الأهمية والظهور… وبغير جدوى! في حين ينسى سواهم أنفسهم، فتطفو أهميتهم وتزداد يومًا بعد يوم، لاندماجهم في شيء من الأشياء التي تستحق أن توهب لها الحياة، لأنها تجعل حياة الناس أكرم وأفضل.
إن مجد الحياة هو أن تستطيع تجنيد نفسك، ووقف حياتك، مهما تكن ضئيلًا هزيل الكيان، على مبدأ من أعظم المبادئ، أو قضية من أجلّ قضايا الإنسانية، وتعيش لها… فإذا بك ذو خطر عظيم، من غير قصد أو جهد.
وهاك الدكتور (إدوارد روزناو)، الطبيب بمستشفى مايو، وواحد من أعظم البكتريولوجيين في العالم… ما الذي حدا به إلى أن يقف حياته على ذلك العمل الصابر الشاق لدراسة أسباب الأمراض وطرق الوقاية منها؟
للجواب عن هذا السؤال يجب أن نعود إلى الوراء، إلى طفولة هذا العالم، فقد نشأ في مزرعة منعزلة، وفي ذات ليلة مرض شقيقه مرضًا شديدًا، فأرسلوا إلى أقرب طبيب، فحضر بأسرع ما استطاع زوج من الجياد أن يجر عربته فوق طرق الريف. ويروى العالم الكبير بقية القصة فيقول:
(تبعت الطبيب إلى داخل حجرة المريض، واختبأت وراء قطعة أثاث، واستطعت أن أرى من هناك كل حركة يأتي بها الطبيب من غير أن يراني، وعلى الفور رأيت شيئًا هو الذي حدد لي مستقبلي، رأيت الطبيب يفحص المريض، ثم يخرج له الدواء، ويلتفت إلى أبي وأمي ويقول لهما: (لا تخافا، سوف يشفى). وإذا وجهاهما المهمومان يشرقان بالحبور في صورة رائعة، حتى أنني قررت في تلك اللحظة أن أجعل همي الأكبر في الحياة أن أغدو مصدراً لمثل تلك الفرحة الرائعة على وجوه الناس).
- لا تخجل من حقيقتك
إن أهم ما يجب أن تهتم به هو أن تكون نفسك، وأن تنطلق على سجيتك. فإن خجل بعض الناس من حقيقة أنفسهم، يدفعهم إلى محاولة تقليد سواهم من الناس. ذلك أن فشلهم في تحقيق الأهمية لأنفسهم كما هم، يلقى في روعهم أن تحقيق تلك الأهمية ممكن إذا قلدوا بعض ذوي الأهمية من الناس… ومن هنا تبدأ متاعبهم!
يخيل إليهم أن حياتهم تكون خيرًا مما هي لو أتيحت لهم الفرص التي أتيحت لغيرهم، أو الظروف التي لابست حياة سواهم، ونتيجة ذلك أن يصاب بالاضطراب فيعجزون عن التكيف مع ظروفهم الحقيقية، وتسوء صحتهم، ويشقون بسبب شعورهم بنقصهم.
منذ أيام قال أحد كبار المحللين النفسيين:
– إن كل شخص يجب أن يجعل محور فلسفته في الحياة رغبة خالصة في أن يكون نفسه على أحسن وجه ممكن، ومكتبي غاص بحطام بشري لأناس حاولوا جاهدين أن يكونوا غير ما هم في الحقيقة. وهذه الحالات تصل إلى 50%. من الأشخاص الذين يحضرون لاستشارتي! وتتراوح خطورة الحالة بين أحلام اليقظة وانفصام الشخصية..
وهذا الميل إلى أحلام اليقظة، أي تخيل حياتك ومدى سعادتها لو أنها كانت في مكان آخر، ومدى خطورتها وأهميتها لو أنها أوتيت ظروف (فلان) من الناس، إنما ينشأ من شعورك بأنك لست راضيًا تمام الرضا عن نفسك، وأنك في ظنك لست كما ينبغي لك أن تكون، فأنت تريد أن تكون خيرًا مما أنت؛ بيد أن سخطك على نفسك بدلًا من أن يقودك إلى ما أنت أهل للوصول إليه بجدك، يدفعك إلى أن تكافح؛ لتكون خلاف ما خلقك الله!
ابدأ بأن تنظر إلى نفسك نظرة واقعية، ثم تقبل نفسك على علاتها وبحالها الواقعة. واعلم أن النظر إلى نفسك وملاحظتها، أمر غير عسير، بل هو من أحب ما يشغل الأفراد. وإن كنت في شك من ذلك، فقم بهذه التجربة: راقب أي صديق تقدم إليه مجموعة من صوركما في رحلة مثلًا، وانظر كيف يتطلع إلى الصور… إن عينيه تفحصان الصور، وتستقران باهتمام على تلك الصورة التي يكون هو شخصيًّا ظاهرًا فيها.
ومع رغبة كل إنسان في الاهتمام بنفسه، وملاحظتها، فإن من أشق الأمور على الإنسان أن يواجه نفسه مواجهة واقعية لا محاباة فيها؛ وإن كان المشاهد أن المرأة أقدر على مواجهة حقيقة نفسها من الرجل!
وبعد أن تنجح في تقبل نفسك على حقيقتها الفعلية، اجتهد في أن تستغل تلك الحقيقة لتصل بها إلى أحسن صورها، وإياك والقناعة أو القعود عن التحسن.
ولا يخامرنك الشك في أن لديك ملكات، وقدرات، وكفايات كثيرة نائمة أو كامنة، فلو أنك وجهت جهودك إلى تنميتها، وإيقاظها، وإطلاقها من قيودها، لأصبحت شخصًا آخر في الظاهر، ولكنه في الحقيقة أنت، على أفضل صورة.
وهذه هي (إيلين تيري)، التي لم يتيسر لأحد ممن عرفوا الممثل الأشهر (سير هنري أيرفنج) أن يعرفه كما عرفته هي، تتحدث عن بدايته فتقول:
(كان كل شيء يقف ضد هنري أيرفنج كممثل… لم يكن يعرف كيف يتكلم، ولا كيف يمشي، ولا كيف ينظر، كان يحاول أن يصنع شيئًا طيبًا في أدواره، فلا يستطيع أن يصنع شيئًا إطلاقًا، كانت قوته الفنية الخارقة مكبلة… وبعد سنوات من المحاولات المضنية نجح في إطلاق طاقته المحبوسة، وصار أعظم ممثل في أوروبا).
ولو عرف كل إنسان طاقاته وقدراته الحقيقة الكامنة، لم حسد من يحسدهم، بل لكانوا هم الذين يحسدونه. ومن أجمل ما قرأته في هذا الباب ما نشر منذ سنوات في صحيفة (نيويورك تايمس):
(الفتى يخيل إليه أن صفو الحياة كله متاح للرجل، والرجل يخال صفو الحياة كله متاح للفتى؛ وبذلك تتكدر حياتهما على السواء، لأن كلًّا منهما يأكل قلبه الحسد للآخر، ويتمنى لو كان في موضعه).
وعلى هذا المنوال يشقى أكثر الناس، لأن فشلهم في حياتهم كما يشتهونها يوحي إليهم بأن النجاح معقود بأن يكونوا في موضع زيد أو عمرو من الناس، ممن تتاح لهم في نظرهم، أعظم فرص النجاح…
ولماذا تستهين بذاتك؟
- إن ثقتك بنفسك ستزداد جدًّا لو أنك تذكرت هذه الحقيقة، وهي:
(بين بلايين البشر الذين عاشوا على وجه الأرض، وما زالوا يعيشون، لم يوجد أبدًا شخص يماثلك تمام المماثلة) أليس مما يرفع روحك المعنوية أن تعلم أنه بين البليونين ونصف البليون من الأحياء اليوم، لا توجد منك إلا نسخة واحدة فريدة في إمكانياتها؟ أليس هذا وحده دليلًا على أنه قد جاء إلى العالم شيء جديد تمامًا، يوم ولادتك؟
ومن أطرف ما يروى في هذا الباب أن معلمة في مدرسة ابتدائية سألت التلاميذ والتلميذات يومًا:
– ما هو الشيء الموجود في العالم حاليًّا، ولم يكن له وجود منذ عشر سنوات؟
وتوقعت أن يحدثوها عن المخترعات، أو القنابل الهيدروجينية مثلًا.. وإذا بطفل في الثامنة يلح في أن يجيب على السؤال.. فلما أذنت له قفز صائحًا:
– أنا..
وكان على حق. ولو أن السؤال كان: (ماذا جد في العالم في الألف السنة الأخيرة)، لكان الجواب هو نفسه بلا تغيير!
- المهم هو نظرتك إلى الحياة
إن النفس البشرية تتوق إلى إثبات أهميتها، وتأمين وجودها، والحصول على رضاء الناس، وهي مطالب تسبب للبشر عناء يجعل حياتهم أشق ما تكون؛ لأن هذه المطالب تعقد الحياة بتشويه النظرة إليها وتحريفها.
فأنت مثلًا تجعل حياتك شاقة حينما لا تكون صادقًا أمينًا مع نفسك، أو حين تخون خير مواهبك وملكاتك بعدم تنميتها، أو صرف النظر عنها، أو خنقها.
وأسوأ ما في الموضوع، أنك بتلك الخيانة لا تعقّد حياتك النفسية وحسب، بل تعقد أيضًا صِلاتك بالناس وتجعلها عسيرة غاية العسر.
إنه مما ييسر الحياة عليك جدًّا أن تعيش عمرك يومًا بيوم، كما تسنح لك الأيام، وتقوم في كل يوم بعملك أو واجبك، وكأنه أول يوم وآخر يوم لك في الدنيا. يجب أن تشعر بطرافة كل يوم جديد، حتى لا تسأم تكرار الأيام على وتيرة واحدة، ويجب أن تشعر أن اليوم الجديد وليد من الغيب، ينطوي على آلاف العجائب الممكنة، وعليك أن تستعد لها وتستغلها إلى أقصى حد.
إن التفكير باستمرار فيما يتعين عليك أن تعمله في أيامك المقبلة، وفي ضخامة تلك الأعباء، يجعلك تشعر بثقل وطأة الحياة، وتتشكك في قدرتك على النهوض بتلك الأعباء المتراكمة. كما أن التفكير فيما فعلته في ماضيك، وما نهضت به من أعباء يشعرك بالتعب والمرارة، ويزيد حياتك الحاضرة صعوبة، ويسلبها البهجة.
فاجتهد في أن تبذل نفسك كلها في العمل الذي تقوم به هذه اللحظة، فذلك يجعل شخصيتك كلها تتماسك، في وحدة متسقة تبهر العالم من حولك، وستشعر بالانقسام والتوتر يخليان المكان للإحساس بالهدوء، والثبات، والطمأنينة.
لا تشتت ذهنك في أشياء كثيرة في اللحظة الواحدة، بل اتجه بنفسك كلها إلى شيء واحد، تسلم نفسك من الأسى والبعثرة.
- الفشل والنجاح
والأمر الثاني الذي يجب أن تجعله من عناصر نظرتك إلى الحياة، هو ألا تعتبر النجاح أو الفشل من الأشياء الدائمة، فهما في الواقع وقتيان، وليس لهما دوام إلا في مخيلتك.
واعلم أنك تكتب على نفسك الفشل المقيم إذا أنت وضعت في ذهنك أن الفشل سيستمر حليفك. وكذلك من الخطر أن تعتقد أن النجاح المقيم حليفك الدائم… فالسعود والنحوس، والنجاح والفشل، أمور متغيرة كالطقس، متقلبة كأسعار البورصة، والثبات فيها مؤقت نسبي، لا يمكن التعويل عليه.
وكذلك انفعالاتك وعواطفك، عليك أن تتبين أن فترات الركود، والضيق، لا يمكن أن تستمر إلى الأبد بل هي فترة أو موجة لا تلبث أن تزول. فهذه العقيدة نفسها ستجعل لحظات الضيق وفتور العزيمة سريعة الانقضاء. وستشعر أيضًا أن نفسك المهمومة الراكدة ليست هي نفسك، فأنت في الواقع لست نفسًا واحدة بل مجموعة من النفوس المختلفة المتداخلة، ولك حالات نفسية بعدد هذه النفوس…
وشر ما يمكن أن يصنعه بك شخص وأنت في حالة نفسية سيئة أن يضربك على ظهرك، أو يجذبك من أذنك ويقول لك:
– دع الكدر وابتهج، ولا تكن مغفلًا…
فأنت تعلم خيرًا مما يعلم هو أو غيره أنك في حالة سيئة لا ينبغي أن تكون فيها، ولكن لا حيلة لك فنحن لا نكون منقبضين باختيارنا، بل نصاب بالانقباض كما نصاب بالزكام، وعلينا أن نعاني الأزمة إلى أن تمر.
وخير ما تصنع في حالات الضيق أن تبتعد عن معارفك هؤلاء، إلى مكان لا يعرفك فيه أحد، ولا يضايقك بالسؤال عما يضايقك.. وتستطيع هناك أن تترك العنان لنفسك إلى أن تمر الأزمة بلا مضاعفات.
وما أصنعه أنا شخصيًّا في مثلك في تلك الحالة، هو الذهاب إلى قوم أعلم أنهم أحوج إلى مساعدتي مني إلى مساعدتهم.. وأشغل نفسي بأمورهم، فأنصرف وقد أحسست أنهم فعلوا لي من الخير أكثر مما أسديت إليهم بكثير.
وأسوأ ما تصنعه في حالات ضيقك أن تلقي الذنب على أحوال الدنيا، فإن أحوال الدنيا غالبًا لا قدرة لك على تعديلها، أما سلوكك نحو الدنيا ففي مقدورك أن تدخل عليه تعديلات كثيرة ولا شك.
ووطن نفسك على أنه ليس من الممكن أن تسير أمور الدنيا دائمًا على هواك. ولن تلبث طويلًا حتى تنكشف لك الجوانب الطيبة أو الضاحكة في الموقف المعقد، فإن الارتياع للجوانب الحالكة للموقف يشل نشاطك ويجعلك عاجزًا عن انتهاز الفرصة المناسبة للخروج من المأزق.
ثم إياك أن تفكر في الهروب من المواقف السيئة؛ لأنه خير لك ألف مرة أن تروض نفسك على احتمال ظرف سيئ، والتصرف فيه بقدر إمكانك، من أن تحاول الهرب منه، سواء بالخيال، أو بالواقع.
كان الفيلسوف والعالم النفسي الكبير (وليم جيمس) يقول إن كل شخص يجب أن يأتي كل يوم عملًا يكرهه، لكي يبني خلفه بناء متينًا.
ويحسن بك أيضًا ألا تحتقر أي عمل، ولا تستكبر أن تقوم بالأعمال التافهة فما أكثر الذي يعقدون الحياة على أنفسهم بإفراطهم في الشموخ بأنوفهم، واعتصامهم بأبراج عاجية من الكرامة والأهمية… وبذلك يمضون حياتهم منعزلين عن إخوانهم في البشرية، نهبًا لآلامهم ووحدتهم.
- تخير هدفًا ساميًا
ومن أحسن ما تطيب به نظرتك إلى الحياة، أن تتخير لك هدفًا ساميًا، أسمى بكثير من تفاهات الحياة اليومية من حولك.
وأعلم أنك لن تستطيع أن ترضي الناس كلهم في الأوقات كلها، ولا في وقت معين، فهذه طبيعة الدنيا، فلا يزعجنك أن تجد بعضهم غير راضٍ عما تصنع، ما دمت مستريح الضمير، ولم تقصد الإساءة إلى أحد.
واعلم كذلك أنه ليس من المحتوم أو المفروض أن كل شخص تلتقي به لا بد أنه يحبك أو يميل إليك بل إن بعضهم سيغار مما تملكه أو مما تستطيع أن تحققه أو تصل إليه بمواهبك الخاصة. وبعضهم الآخر يشعر بسرور خبيث كلما وقع على خطأ ارتكبته، أو فشل مُنيت به، أو ألم قاسيته؛ فوطن النفس على أن النقد والمعارضة من عناصر الحياة الاجتماعية المسلّم بها.
وأعظم الناجحين هم الذين عرفوا كيف يقابلون النقد المغرض إما بالابتسام الآسر الذي يجرد الخصم من سلاحه، أو بالسكون المطبق الذي يقتل اللغط… لأنهم في الواقع مشغولون بأهداف أسمى من أشخاصهم، وأهم من الدفاع عن أنفسهم، فلا تجعل هجوم خصومك يشغلك عن أمرك، ويحول مجرى حياتك إلى ما يشتهي هؤلاء الخصوم.
وثق أن الصفح الكريم، أو الإغضاء، يجعل حياتك أطيب وأيسر، وأن الأحقاد والحزازات تؤذيك وتفسد مسراتك.
ومن ألطف ما قاله (هنري وارد بيتشر):
(أقم جبانة متوسطة الحجم، كي تتسع لدفن أخطاء أصدقائك وسقطاتهم).
إن ذلك ولا شك هو أسلم طريقة للحياة بسلام، فإنك لا تخلق الناس. ولا تربيهم… ولا حيلة لك في معاشرة أهل منطقتك، فخذهم كما هم، وغض الطرف عما قد يبدر منهم…
- عش مع نفسك
وهناك كثيرون جداً يهربون من أنفسهم، لا يطيقون الوحدة، لأنهم لا يطيقون أن ينفردوا بأنفسهم وهذا هو السبب في شغف الناس باختراعات مثل (الراديو) والتليفزيون.. فهي أشياء تقضي على الوحدة والعزلة. وتساعد على الهرب من الذات، حتى في عقر الدار، وفي المخدع.
بيد أن هذا الهرب غير صحي، فإنك لا مهرب لك من نفسك. ومن الخير أن تروض نفسك على الحياة معها، ومعايشتها.
وخير سبيل لذلك أن تتخذ لك مشغلة، أو هواية، تصلح هدفًا مشتركًا لنفسك الباطنة ونفسك الواعية معًا… ومتى انفردت بنفسك وجدت أنك تفكر مع نفسك في هدفكما المشترك. ولهذا نجد كبار المفكرين والعلماء والفنانين لا يهربون من أنفسهم، بل يحبون العزلة. لأن اهتماماتهم تجعلهم على وئام مع ذواتهم وتزيدهم أنسًا، أكثر من حياة المجتمعات التي تبعدهم عن مشاغلهم العظيمة.
وأفضل هذه الاهتمامات وأسماها ما شمل بالنفع أكبر عدد من الناس. وشر هذه الاهتمامات وأفزعها ما يبعد بك عن الناس، فتفسد نفسك، وتفسد مكانتك عند الناس، من أقرب السبل.
- راجع أهواءك
إنك لا شك لا تستطيع أن تفهم الكثير جداً من سلوكك. سل نفسك مثلًا كيف تعلل إقدامك على إيذاء الشخص الذي تحبه من غير سبب ظاهر؟ وكيف تعلل تعلقك بما تكره في بعض الأحيان؟
سل نفسك أو عقلك الواعي أن يفسر لك –إن استطاع- لحظات الإلهام، أو ومضات البصيرة النافذة، وسله أن يفسر لك كيف تجهد نهارك كله في معضلة، ثم ترهق فتنام دون أن تعثر على حل لها، وتستيقظ لتجد نفسك تتبين الحل الموفق في لمحة واحدة من غير تفكير.
إن ذلك كله ليس من شأن العقل الواعي، بل من شأن العقل الباطني. ذلك العقل الذي يعمل ونحن نيام، ليخدم أغراض حياتنا. فهناك قدرات مجهولة مخزونة لوقت الحاجة إليها.
وفي الوقت نفسه يجب أن تراقب عقلك الباطني. حاول أن تضبط نفسك وأنت (تسقط) أخطاءك على صديق من أصدقائك. أو أنت تلتمس لنفسك الأعذار فيما تلوم عليه سواك. وأنا شخصيًا أعرف كثيرين مغرمين بأن يسلقوا أصدقاءهم بالنقد اللاذع، لا عن سوء قصد، بل رغبة منهم في الهرب من مواجهة أخطائهم الشخصية والحكم عليها.
راقب أهواءك هذه، وحاول أن تقلع عنها. ولا تمل مع هواك، فتتلمس لنفسك الأعذار بسهولة بل انتقد نفسك بنزاهة قدر الإمكان. وحاول أن تصطفي لنفسك صديقًا أمينًا صريحًا ينتقدك دائمًا. ورحب بنقده. فهي خير خدمة يمكن أن يؤديها لك إنسان.
وهناك كثيرون يذهبون إلى المحللين النفسيين ويدفعون لهم مبالغ كبيرة ليصارحوهم بعيوبهم الحقيقية. ولكن أسوأ ما في الأمر أنهم لا يصدقون ما يقولون لهم، ويذهب المال والجهد سدى.
والنصيحة الأخيرة أن تحب عملك أكثر مما تحب نفسك. فإن ذلك يقضي على شعورك بالتعب أو الإرهاق العصبي. فما الإرهاق إلا صدى سخطنا على أعمالنا.
أحبب عملك.. وأحبب الناس، وانسَ نفسك، وستجد أنك بذلك خدمت نفسك أعظم خدمة، لأنك جعلت حياتك صحيحة سليمة، بهيجة، سعيدة.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق