هل قضت المدينة الحديثة بكل وسائلها على الخوف الغريزي الكامن في الإنسان؟ اقرأ هذه القصة الواقعية؛ ثم أجب بنفسك عن السؤال!.

فهد… في شوارع المدينة

حين تزور حديقة الحيوان بمدينة (أوكلاهوما)، لن تسترعي نظرك هذه المجموعة الكبيرة من الحيوانات الحية، بل ذلك الفهد المحنط الموضوع في حجرة صغيرة من الزجاج، وهو يرقد في سكون كقطة وديعة!

ومنذ نحو ثماني سنوات، كان هذا الجسد المسجى حيًا، يتدفق بالحياة!.. بل بلغ من فرط حيويته أن قفز قفزة هائلة أخرجته إلى الحرية… واستطاع بذلك أن يحوز شهرة عريضة، وأن يستحق مكانًا خاصًا وهو ميت!

فبعد ظهر يوم السبت 25 فبراير عام 1950… وبينما ستة من الصبية في حوالي العاشرة من عمرهم يتجولون في الحديقة إذ برز لهم الفهد فجأة على بعد عشر أقدام منهم!.. برز لهم من قمة قفص الفهود.. ورأوه وهو يتحفز لقفزته التالية..

ولم ينتظر الأولاد، بل استداروا وأطلقوا سيقانهم للريح وهم يصيحون: (الفهد يهرب الفهد طليق)! ولم يصدقهم أحد، فما سمع أحد من قبل بفهد يهرب من حديقة الحيوان!

واندفع الأولاد لاهثين إلى كوخ أحد حراس الحديقة… وهناك وجدوا من يصدقهم! وبسرعة أمسك الرجل باثنين وعشرين بندقية وصاح مناديًا زملاءه… وبدأت مطاردة الفهد!

ففي أقل من نصف ساعة كانت الحديقة معسكراً مسلحًا. ضرب رجال البوليس نطاقًا حول الحديقة لمنع الزائرين… أما في الداخل، فقد انتشر الحراس المسلحون بالبنادق السريعة الطلقات في أرض الحديقة التي مساحتها اثنان وعشرون فدانًا! وكنت تسمع صوت (فريزر)، كبير الحراس وهو يصيح في زملائه: (اضرب في المليان… لقد جاء هذا القط حديثًا من أدغال الهند… سوف يقضي علينا).. وفي الوقت نفسه جعلت الحيوانات كلها تصيح بأصوات عالية كأنما تهتف مشجعة للفهد الهارب!

ولم يلبث أن وصل عدد كبير من الفلاحين ومعهم كلابهم، فقادهم حرس الحديقة إلى المكان الذي هرب منه الفهد… فأطلقوا من هناك كلابهم، ولكن جهودهم ذهبت عبثًا!

وظلت فرق المطاردة تبحث، وتعيد البحث، وتفتش في كل مكان ولكنها لم تصل إلا إلى ما وصل إليه الكلاب!… وعند الغسق هبطت حدة المطاردة قليلًا… ولكن ما إن ذهب الجميع حتى بدأ المدير يتجول في الحديقة في عربة مكشوفة بحثًا عن الوحش الذي سبب المتاعب منذ مجيئه هو وزميله قبل ذلك بأسبوع…

فقد وضع الفهد عند وصوله في كهف خاص… وفي خلال ساعات قليلة رآه الحراس وهو يقفز على ارتفاع اثني عشر قدمًا ثم ينشب أظافره في مكان قريب جداً من القمة… وأخذوه إلى أعمق كهف في الحديقة حيث تعيش الفهود الكبيرة منذ أربعة عشر عامًا. وكان الزوار ينظرون إليه –يحميهم سياج من الحديد- وهو تحتهم على عمق ثماني عشرة قدمًا.

ولكن هذا العمق لم يردّ الفهد عن محاولة الهرب… فهاجم الحائط أولًا، ثم هدأ قليلاً.. وبدأ بعد ذلك محاولة جديدة بقفزتين في قفزة واحدة… ظل يدفع نفسه إلى الحائط بقوة عنيفة ثم يستقر بقدميه قليلًا على الحائط ويدفع نفسه مرة أخرى نحو الحاجز.. وهذه هي طريقة الأدغال!… ولبث يقوم بهذه العملية ليل نهار حتى استطاع أخيرًا أن يصل إلى قمة الحاجز.. وها هو الآن حر طليق، ولعله مختبئ في أي مكان من المدينة التي يسكنها ربع مليون نسمة!

وفي اليوم التالي، وكان يوم أحد، بدا كأن مدينة أوكلاهوما كلها قد قررت مطاردة الفهد بدلًا من الذهاب إلى الكنيسة! وكان (فريزر) قد وضع أسسًا للبحث فاستعان بمجموعة من الرماة المهرة حاملي البنادق… كما تطوع للمطاردة محترفو الصيد. وساهم الأولاد الصغار بملابس رعاة البقر.. وتسلل عشرون رجلًا من رجال البحرية يستقلون سيارة (جيب) إلى الأحراش التي تقع في شمال شرقي الحديقة… وعندما سمع الجمع رجلًا وزوجته يقولان أنهما رأيا الفهد في منطقة تبعد سبعة أميال، هرعوا إلى هناك، وأحرقوا الحشائش حول هذه المنطقة.. وأحاط البحارة المكان المشتعل وأيديهم مستعدة لإطلاق النار.. ثم سمعت حركة مفاجئة… وخرج من بين النيران قط أصفر أليف، وزوج من الأرانب!.. ومن حسن الحظ أن أحدًا منها لم يصب بسوء… وانطلقت رصاصة، ولكنها كانت في الهواء!.

وبعد منتصف الليل بقليل أكد اثنان من المطاردين الذين يقفون في مدخل الحديقة أنهما رأيا الفهد يزحف تحت السور كما لو كان عائدًا إلى كهفه! وأيد (فريزر) هذا القول بأنه رأى شعرًا مثل شعر الفهد يقترب من السور، وفي تلك اللحظة بدأت خنازير الحديقة صراخها وشخيرها!

وما كاد يصبح الصباح حتى وجد الحراس أن قطعة من اللحم التي دس فيها المخدر والتي وضعت بجانب قفص الفهد قد اختفت!

وفي صباح يوم الإثنين كانت الدولة كلها قد علمت بحادثة الفهد، فتقدم حراس الحدائق في البلاد الأخرى والصيادون المحترفون بمساعداتهم وخدماتهم وبدأت البرقيات تنهال على مدير الحديقة وكلها تقترح الاقتراحات لإعادة الفهد… وقد اقترح بعضهم استعمال الموسيقى!.. كما وصلت تقارير تفيد أن البعض رأى الفهد على بعد 950 ميلًا.. وأصبح كل إنسان يسير ومعه بندقية!.. وأعلن (الصليب الأحمر) أن منطقة مدينة أوكلاهوما قد أصبحت منطقة خطرة، وأرسل سيارة مملوءة بالطعام إلى المدينة مع مائة رجل من الصيادين الأشداء، وعاود كل هؤلاء البحث من جديد…

وفي كل مكان كنت تسمع من يؤيد أن قطيعًا من الغنم أزعجه الوحش، أو أن الناس رأوا آثار مخالب الفهد!.. وبلغ الأمر الذروة عندما أذاع راديو البوليس أن الفهد شوهد نائمًا في طريق من طرق السيارات، وتزاحم الصيادون مندفعين تجاه المكان ليجدوا كلبًا كبيرًا بني اللون!

ووضع موظفو الحديقة قطعتين من لحم الحصان بعد أن دسوا فيهما مخدراً قويًا، في مدخل سرداب يؤدي إلى كهف الفهد من الخلف… وتركت أبواب السرداب مفتوحة. وفي تمام الساعة الثانية بعد ظهر يوم الثلاثاء اختفت قطعتا اللحم!

وهنا جاء (ايويل مور) وهو جوال من (أوكلاهوما) ودخل من باب السرداب وأضاء البطارية. وفي فجوة فوق حائط السرداب لمح (مور) قطعة من الفراء البني الأرقط… وهنا أسرع الجميع بإغلاق الأبواب!

وسرعان ما تجمع نفر كثير من الناس، وحراس الحديقة، ومراسلي الصحف، والمصورين وأخذ الدكتور (بورمان)، طبيب الحديقة، ينادي على الفهد الذي كان ينظر إلى الجميع في ضعف وإعياء… وقال الدكتور يورمان: (إن هذا الفهد مخدر، ولن يفيق قبل مدة طويلة)…

وعندئذ ذهب (فريزر)، و(بورمان)، و(جيمس وارد)، وهو موظف في الحديقة، إلى سرداب آخر في مؤخرة الكهف الذي يرقد فيه الفهد، وكان الفهد على بعد ثماني أقدام تقريبًا من الباب الحديدي المزدوج… وفتح (وارد) الباب الأول، وفتح (بورمان) الباب الثاني…

وأخذ (فريزر) يقيس المسافة بينه وبين الفهد… ثم قذف بحبل في طرفه (خية)، فانزلق على رأس الفهد… وتحرك القط المتوحش في إعياء. وألقى فريزر بالحبل مرة أخرى ثم أخرى، حتى التف حول عنق الفهد… وهنا قفز مدير الحديقة إلى الخلف وراء الأبواب الحديدية وأغلقها (وارد) و(بورمان)، وأخذا يجذبان الحيوان –وهو ما زال نائمًا- على الأرض.. وفتحت خلفه الأبواب الخارجية للسرداب، وأحضر المساعدون قفصًا كبيرًا به باب منزلق… ووضع القفص فوق الفهد وأنزل الباب… لقد صيد الوحش!

وتناقلت الصحف أنباء صيد الفهد… وانهالت برقيات التهاني من كل مكان!. وذهبوا بالحيوان إلى مستشفى الحديقة، وهو ما يزال مخدرًا من أثر لحم الحصان، فأعطوه منبها… وتوقعوا أن يفيق بعد بضع ساعات. وفي الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين فحص طبيب الحديقة الحيوان، فإذا هو جثة لا حراك بها… فقد نفق!

وقرر مجلس بلدي المدينة أن يوضع الفهد بعد تحنيطه للعرض… وتدفق الناس من جميع الجهات ليروا الفهد، والمكان الذي هرب منه…

وأخذوا يتساءلون: (ولكن أين كان يختفي)؟… ويعتقد الذين قادوا حركة المطاردة أنه قضى أيام حريته متجولًا بين الأحراش، باحثًا عن فريسة (ولكن لماذا عاد أخيراً)؟…

البعض يظن أن المطر جعله يبحث عن مكان يأوي إليه… وآخرون يقولون أنه عاد ليرى زميله الذي جاء معه من أدغال الهند.. ويقول بعض المتشائمين أن الفهد ألقى نظرة على الحضارة خارج الحديقة، ثم قفل عائداً إلى السجن!.. على أن أفضل رأي هو أن الفهد بعد أن تملص من كل فخاخ الإنسان، وقع فريسة لفخ الطبيعة: الجوع!

– نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *