للدكتورة رمزية الغريب
أستاذة علم النفس المساعدة بكلية البنات بجامعة عين شمس
في هذا المكان تلتقي بك، أيتها الأم، مرة كل شهر اختصاصية نفسية جمعت إلى العلم الغزير، الخبرة العلمية الطويلة لتحدثك عن الخدمات التي يسديها لك علم النفس في سبيل إسعاد حياتك وحياة أبنائك…
هل تعلمين، يا سيدتي، أن طفلك الرضيع، قبل أن ينتهي من عامه الأول، مخلوق حساس وأن لطريقة معاملتك له حتى في هذه المرحلة المبكرة من حياته أثرها على نموه فسيولوجيًا ونفسيًا؟!…
وهل تصدقين أن حركة منك أو غضبة أثناء الرضاعة قد تكون سببًا في إيجاد بعض المشكلات التي تسبب لك قلقًا وإشفاقًا قد تكونين على حق فيهما وقد لا تكونين؟!… من هذه المشكلات رفض الطفل الرضيع ثدي أمه، أو إقباله على الرضاعة بعصبية وعدم رضا رغم جوعه وضعفه، ومنها استيقاظ الطفل قبل ميعاد الرضاعة بساعة أو أكثر، وبكاؤه وعويله حتى يرضع… ومنها انصراف الطفل عن النوم وخصوصًا أثناء الليل مما يضطرك إلى قضاء الليل مؤرقة الأجفان!..
فإذا حدث هذا فكيف تتصرفين في هذه المواقف؟
ومتى يكون سلوك طفلك باعثًا على القلق؟ وما هي المعاملة التي يجب أن يتوقعها منك طفلك الرضيع حتى يشعر بالحب والسعادة؟
للجواب عن هذه الأسئلة لا بد أن نستعرض الظروف التي يمكن أن تلازم الرضيع.
إن الأطفال الحديثي العهد بالحياة يلزمهم بعض الوقت للتعود على الحياة الجديدة خارج رحم الأم، ولذلك نجدهم ينسحبون من العالم المحيط بهم- عالم الأضواء، والأصوات، ووجوه الناس ونظراتهم الفاحصة- ويجدون في النوم ملاذًا يلجأون إليه هربًا من مضايقات البالغين واهتمامهم بهم… فالطفل الصحيح البدن لا يصحو من نومه إلا إذا كان جائعًا.
فالجوع من المنبهات القوية الأولى التي تدفعه بإلحاح وإصرار إلى الاحتكاك بالوسط المحيط به والتعرف على أمه… ومن هنا كانت الرضاعة أهم حدث في حياة الرضيع خصوصًا في أيامه الأولى… وهو إذا شعر بالجوع ترقب وقت الغذاء بشغف وعدم صبر، وأقبل على الامتصاص بمجرد ملامسة وجهه لثدي الأم، واشترك جسمه كله في هذا النشاط المحبب إلى نفسه، فنجده يحرك أصابع يديه وقدميه في سعادة ورضا، ذلك أن الرضاعة بالنسبة له ليست مجرد وسيلة لملء معدته، وإنما هي عملية يرغب فيها ويسعى إليها.
فالمص يمنحه أكبر لذة يعرفها لأن منطقة الفم عند الطفل في الأسابيع الأولى من حياته هي منطقة اللذة، وتنتقل هذه المنطقة إلى مناطق أخرى من جسمه بعد أن يتقدم به العمر، ولذلك فهو يبذل فيها مجهودًا كبيرًا. ويمكنك أن تتبيني ذلك إذا أعطيته أصبعك ليمصه حتى وقت أن يكون شبعان فإنك تحسين بقوة عملية المص التي يقوم بها على ضعفه، وقلة حيلته!
الرضاعة في الأسابيع الأولى تعتبر أهم حدث في حياة الطفل وعليها تتوقف صحته جسمانيًا ونفسيًا..
ولما كان وقت الرضاعة هو الوقت الذي يجد فيه الطفل أول شعور باللذة والسعادة، فإن عليك أن تستغلي ذلك في تكوين علاقة ود ومحبة بينه وبينك بصفة خاصة، وبينه وبين الحياة بصفة عامة… فإذا أمكنك أن ترضيه، فإنه لا يلبث أن قريبًا أو بعيدًا، أن يكتشف أن في علاقته بك وبالحياة الجديدة ما يبعث على الرضا والمحبة، فيطمئن وتستريح أعصابه، ويكون طفلًا وديعًا قليل المشاكل… أما إذا لم تشعريه بالرضا والقناعة في أيام رضاعته الأولى، فإنه لا يلبث أن يكتشف أنك وحياته الجديدة تقفان في طريق رغباته المتعطشة للإشباع، وتحولان بينه وبين اللذة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تعقيد العلاقة بينك وبينه فينقلب إلى طفل عصبي كثير البكاء لا يستقر على حال.
وخلاصة القول أن الرضاعة، وعلى الأخص في الأسابيع الأولى، تعتبر أهم حدث في حياة الطفل وعليها تتوقف، إلى حد كبير، صحته جسمانيًا ونفسيًا، لسببين:
أولهما: أنها وسيلة تغذية الطفل، وبالتالي نموه الجسماني.
وثانيهما: أن عليها تتوقف، إلى حد كبير، بعض صفاته المزاجية وعلاقاته الأولى مع المجتمع ممثلًا في أمه.
لهذا كانت المسئولية الملقاة على عاتقك كأم، مسئولية كبيرة، وكانت هناك عوامل لا بد لك من أخذها بعين الاعتبار، لجعل فترة الرضاعة فترة رضا وسعادة يحياها طفلك متمتعًا بحبك، وعطفك، وجميل معاملتك، وحتى تجنبي نفسك كثيرًا من المصاعب والمشكلات التي قد تنتج من خطأ غير مقصود في معاملتك لرضيعك ويمكن إجمال هذه العوامل فيما يلي:
- أن تعدي نفسك فسيولوجيًا ونفسيًا في فترة الحمل للوقت الذي تحملين فيه ابنك بين يديك لترضعيه، وتشعريه بأن حياته الجديدة يمكن أن تسعده وتشبع رغباته… والواقع أنه ليس هناك صعوبة في الإعداد الفسيولوجي ذلك أن طبيبك يسعى في العادة إلى إعدادك فسيولوجيًا بإعطائك تعليمات لتدليلك الثديين إذا احتاج الأمر واستخدام بعض (المراهم) لمنع المضاعفات التي قد تجعل عملية الرضاعة مؤلمة لك، ومضايقة لطفلك، كما يحدث عادة في حالة تشقق الحلمات.
كذلك لا تجد معظم الأمهات صعوبة في الإعداد النفسي للرضاعة. فمعظمهم يَتُقن إليها، ولكن هناك فئة من الأمهات يشفقن على أنفسهن وقت الرضاعة من زيادة الوزن، وضياع الرشاقة التي يتمتعن بها، كما أن هناك فئة أخرى تعتبر الرضاعة الطبيعية ضياعًا للمجهود (وربطة) للأم بجانب طفلها لا تسمح بها أعمالها خارج المنزل، وأن الرضاعة الصناعية يمكن أن تحل محل الطبيعية فتوفر عليها الوقت والمجهود… ومثل هؤلاء الأمهات في العادة يقبلن على الرضاعة الطبيعية، إذا اضطررن إليها، بنوع من التوتر، والخوف، والقلق، والضيق، وينتقل هذا الشعور إلى الرضيع دون أن يشعرن، وقد يكون سببًا في توتر العلاقة بينهن وبين أبنائهن، وإيجاد بعض المشكلات التي تزيد في قلقهن وتوترهن.
- عليك بالابتعاد عن كل ما من شأنه تعكير العلاقة بينك وبين صغيرك لأسباب قد تظنيها تافهة، ولكن أثرها على الطفل قد يكون كبيرًا برغم أنها لم تثر فيك أي اهتمام وتفكير وقت حدوثها.
وتحضرني في هذا المقام قصة أم كانت تشكو من أن ابنها (رضيع مشكل) فهو يعزف عن الرضاعة الطبيعية، ويفضل عليها الرضاعة الصناعية برغم توفر لبن الأم، وإذا حدث أن رضع طبيعيًا كان عصبيًا يقبل على الرضاعة بصورة متقطعة، وكثيرًا ما يعض ثدي أمه لدرجة تؤلمها… وببحث حالها مع رضيعها منذ ولادته اتضح أنها حين حملت ابنها لأول مرة بين يديها لإرضاعه لم يقبل على الرضاعة بشغف لسبب من الأسباب، فحاولت إرغامه بمسك رأسه بيديها وتثبيت فمه على الثدي، ولكنه لم يستجب لها بل بكى وامتنع، وكانت تكرر هذه المحاولة كلما لاحظت أنه لا يثابر على الرضاعة، أو لم يأخذ من الغذاء قدرًا كافيًا، وكانت- كما تقول- تنجح أحيانًا في إرغامه على الرضاعة، وأحيانًا تخفق في ذلك.
مثل هذا التصرف من الأم لم يكن حكميًا، لأن الطفل، حتى في هذه السن المبكرة، يكره تقييد حريته وإرغامه على ما لا يريد، وكانت النتيجة الطبيعية هي تعكير صفو العلاقة بينها وبينه. وانصرافه عن الرضاعة الطبيعية لأنه حرم من لذتها.
- كذلك عليكِ أن تكوني واثقة من نفسك في معاملتك لطفلك، ولا تجعلي لبعض الصعوبات التي قد تعترضك سبيلًا إلى زعزعة هذه الثقة، لأن الطفل حتى في هذه المرحلة المبكرة من عمره يجب أن يشعر بقوة السند الذي يعتمد عليه، ولأن فقدك لثقتك بنفسك من شأنه أن يجعلك مترددة في معاملتك له، خائفة، قلقة، وكلها عوامل تسيء إلى الموقف وتعقده.
فلو حدث مثلًا أنكِ بعد أن تركت المستشفى إلى البيت- أو بعد أن تركتك والدتك بعد فترة النقاهة وعادت إلى بيتها وتركتك وطفلك وحدكما- أن اكتشفت أن ابنك ليس الحمل الوديع الذي كان يحمل إليك من حين لآخر لإرضاعه، لطيفًا نظيفًا، وإنما هو (مشاغب)، كثير البكاء والصياح، يستيقظ من نومه في الثانية صباحًا ويرفض أن ينام حتى مطلع النهار، فلا تنزعجي وحذار من أن ترجعي هذا إلى إخفاقك في معاملته بل اصبري، وكوني طبيعية محبة، وعامليه برفق وهدوء حتى يزول هذا السلوك العارض الذي سبب قلقك.
بقي أن أتكلم عن سؤال كثيرًا ما يتردد على ألسنة الأمهات ألا وهو: هل لا بد للأم من أن تحافظ على مواعيد الرضاعة بدقة ولا تحيد عنها لسبب من الأسباب؟
الواقع أن الأفضل المحافظة على مواعيد الرضاعة حتى لا يتعرض الطفل للإصابة باضطرابات الهضم الناتج عن زيادة التغذية، ولكن إذا كان ابنك يستيقظ قبل ميعاد الرضاعة بساعة مثلًا ويأخذ في البكاء بلا هوادة، فمن الصالح ألا تتركيه ساعة بأكملها يبكي في انتظار الغذاء، إذ ربما كان لا يتناول في كل رضعة غذاء يكفيه حتى موعد الرضعة الثانية، ذلك لأنكِ إذا تركته، حل ميعاد الرضاعة وكان مجهدًا تعسًا فلا يجد فيها اللذة الكاملة التي ينشدها، فضلًا عن أن كثرة البكاء تؤدي إلى تسرب الغازات إلى معدته، الأمر الذي يجعله يرجع اللبن بعد الرضاعة… على أنني أنصحك إذا لم تتمسكي بمواعيد الرضاعة أن تراقبي لون البراز فإذا كان أصفر طبيعيًا فلا غبار على تصرفك إذا أرضعته كلما طلب ذلك، أما إذا تغير إلى لون أخضر، فارجعي مباشرة إلى المواعيد العادية، لأن تغير لون البراز ربما كانت ناتجًا من اضطراب في الهضم من زيادة التغذية.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق