اعرف نفسك

هل أنت على وفاق مع:

(هي) و(أنا) و(أنا المثالية)

للدكتور محمد مظهر سعيد

عميد مفتشي التربية وعلم النفس سابقًا

لله در الإغريق القدماء الذين جعلوا الحكمة (اعرف نفسك) رائدهم في حياتهم، وكتبوها على باب الكبير في (دلفي)!.. وما أصدق (الفخر الرازي) حين يقول: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)!.. لأن النفس معبدهم، هي القوة العامة التي تجعل فيها من خواطر وأفكار، وما يجيش فيها من انفعالات وعواطف ودوافع للسلوك، كما يشعر بالعالم الخارجي الذي يحيط به ويؤثر فيه ويتأثر به، فهي مصدر المعرفة، والدوافع، والرغبات جميعًا…

هي..

وتسمى النفس اصطلاحًا في المستوى البدائي الفطري، أي عند الطفل، والرجل المتوحش والريفي الساذج البعيد عن الثقافة والحضارة، بالنفس غير المدركة أو غير العاقلة (هي)… لأن الإنسان البدائي يشعر بذاته فقط وبحاجاته الطبيعية ودوافعه الأولية، فيندفع لتحقيقها وإشباعها دون تعقل أو روية أو تقدير للمسئولية، ولا يعنيه من العالم الخارجي إلا أنه وسيلة لتحقيق هذه الرغبات… فهو كائن يتمركز في ذاته، ولا يعرف معنى الخير أو الشر، أو الفضيلة أو الرذيلة، كما يدركها الرجل المثقف المتمدين… فالخير عنده هو مجرد ما حقق من رغباته، والشر ما حال دون ذلك. ودستور سلوكه في الحياة التماس اللذة الناتجة عن إشباع الحاجات الضرورية الطبيعية، وتجنب الألم الناتج عن الحرمان… وبعبارة أخرى: اللذة والألم الماديان البدنيان المتصلان بالحاجات الطبيعية، والرغبات الضرورية.

وأنا..

ولكنه عندما يتطور من المستوى البدائي الانفرادي، إلى حياة المجتمع كيفما كان مستوى هذا المجتمع، ويتصل بأفراد الجماعة، ويتعامل معهم ومع أصحاب السيادة والسلطان من آباء ومعلمين، ورجال دين، ورؤساء، وحكام، يدرك بالتجربة أن المجتمع له نظم وتقاليد، وعادات ودين وقانون تفرض على أفراده أنواعًا معينة من السلوك… فإذا التزمها رضي عنه المجتمع واحتضنه، وإذا خالفها أو خرج عليها نبذه وعاقبه… ويصبح دستور حياته، الألم واللذة البدنيين أو المعنويين الناتجين عن مخالفة نظم الجماعة أو اتباعها… وفي هذا الوضع يتطور جزء صغير في نفسه (هي) فيتصل بالمجتمع ويدرك النظم ويحافظ عليها ويلتزمها -خوفًا أو اقتناعًا على حد سواء- ويحمل بقية نفسه البدائية على اتباعها التماسًا للذة رضاء المجتمع عنه، وتفاديًا لألم عقابه… ولذلك يسمى هذا الجزء المتطور من النفس اصطلاحًا بالنفس المدركة أو العاقلة

(أنا)..

الصراع بين (هي) (وأنا)

ولكن بقية النفس البدائية (هي)، لا تقبل هذا التطور الذي يحد من رغباتها ونزعاتها وتظل بدائية على حالها تحاول أن تشبع رغباتها بنفس الطريقة البدائية التي ألفتها… وتأبى عليها (أنا) هذا المسلك الذي لا يستقيم مع نظم المجتمع، فتضطر حفظًا لكيان الفرد في الجماعة أن تنصب نفسها رقيبًا على النفس (هي) بحيث لا تسمح لها أن تظهر الأفكار والانفعالات والرغبات إلا بما يتفق مع نظم الجماعة… فهي تظهر بعض مطالب النفس (هي)، وتكبت البعض الآخر ولا تسمح له بالظهور… فتنحدر هذه المكبوتات إلى قاع العقل فيما يسمى باللاشعور… ومن تجمع الأفكار الشاذة، والانفعالات والعواطف الجامحة، وكل ما يخالف دستور سلوك الجماعة تتكون العقد النفسية التي تؤلف العقل الباطن… وهذه المكبوتات رغم نسيانها وكبتها، لا تموت، بل تظل دائمًا أبدًا تجاهد لتظهر في مستوى الشعور، وتقاوم رقابة العقل الشاعر، وتمتحن دائمًا قوته، أو تتحايل كلما وجدت منه انصرافًا أو إغفاء كما في حالات أحلام النوم واليقظة، والإعياء، والمرض، والقلق، وتأثير الخمر والمخدرات، وتصطنع الوسائل الرمزية المسرحية كما يفعل مهربو المخدرات!..

وقد يشتد الصراع بين النفسين فتحدث الاضطرابات العصبية، والأمراض النفسية…

ولتعاليم الدين، والتربية والدعوة الأخلاقية، والإصلاح الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية وغيرها من المبادئ والأنظمة التي تأخذ بها الجماعات المتحضرة أثر كبير في تطور النفس البدائية وتعديل دوافعها، ورفع مستواها إلى حد يخفف من حدة الصراع بين النفسين أو يمنعه، فيحيا الإنسان مطمئن النفس، مرتاح الضمير، مستمتعًا بما لديه دون طمع أو حسد، باذلاً جهده، متعاونًا مع الغير لخير الجماعة..

أنا المثالية

وأخيرًا يجد الإنسان نفسه خاضعًا لتأثير عدد كبير من الشخصيات التي لعبت دورها على مسرح حياته في طفولته وشبابه، وماضيه وحاضره، ووجهت دوافعه وأفكاره وعواطفه وجهات خاصة: كالآباء، والمدرسين، والرؤساء، وقد ترك كل منهم في نفسه أثرًا… ثم مجموعة النظم، والقوانين، والعقائد، والتقاليد الاجتماعية والخلقية والقانونية، والآداب العامة… وكل منها تحاول بدورها أن توجه سلوكه الوجهة التي ترضاها… وتلتقي كل هذه المؤثرات في مجموعة واحدة تنظم المقدسات والحرمات التي يدين بها، والسلطات التي يخضع لها، فتكون فلسفة خاصة، أو دستورًا يلتزمه… وكلما ارتقى بدوافعه، وسما بأفكاره، وتجردت نفسه من عوامل الحقد والطمع والحسد، أخذ يتطلع إلى الكرامة، والواجب، والتضحية والوطنية، ويسمو فوق مرتبة اللذة والألم الماديين والمعنويين، والمصلحة الخاصة… وهنا يتطور جزء آخر في نفسه فيسمى اصطلاحًا (أنا المثالية)…

ومهمة هذه النفس المثالية أن توجه سوك الإنسان نحو الواجب والتصرف في شئون الحياة دون نظر إلى لذة البدن أو رضاء المجتمع وإنما لمجرد أداء الواجب…

السعادة في توافق الثلاث

هذه النفوس الثلاث: (هي) و(أنا)، و(أنا المثالية) هي السلطات الثلاث التي تتنازع الإنسان… فإذا تهادنت هذه النفوس وتعاونت معًا لخير الفرد والجماعة سار الإنسان في حياته هادئ النفس، سويَّ الخلق والسلوك…

وهكذا يتطور هذا المخلوق العجيب من كائن بدائي كالحيوان الأعجم، إلى حيوان اجتماعي، إلى إنسان عاقل مدرك… وقد يتجرد من مطامع الدنيا، وأهوائها وغرورها، وكبريائها، وطمعها وحسدها… ليصبح ملاكًا إن كان ذلك في استطاعة الإنسان!

 

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *