للدكتور هوارد كرامر
الأستاذ بجامعة هارفارد
عندما ينتهي ابني من المرحلة الثانوية سأقول له (اسمع يا بني لا أظن أنه يجب أن تلتحق بالجامعة)!.. وليس ذلك لعجز عن دفع المصروفات، كلا، وإنما سأطلب إلى ابني أن يظل خارج الجامعة لأني أخشى ألا تفيده الجامعة بشيء!
وزوجتي، وقد درست مثلي في الجامعة، توافقني على هذا الرأي!
وابني لا يتمتع بمواهب فذة، ولا هو من النوع المعقد المشكل. بل هو فتى عادي سعيد يهوى الدرس والتحصيل، وإذا كان له أن يلتحق بالجامعة التي أدرس بها، والتي تعتبر أحسن جامعة في الدولة، فمن الذي سوف يتحمل المشاق لتعليمه؟ إنني يؤسفني أن أعترف بأنه في أحد فصولي لن يحظى أكثر من نصف اهتمامي! فإن التدريس في الجامعة الآن أصبح مهنة الجزء من الوقت فقط، أما بقية الوقت فينفقه الأستاذ في عمل آخر لزيادة دخله!… أليس من المؤسف أن يضطر الأساتذة إلى البحث عن موارد جديدة ليعيشوا العيشة اللائقة بهم؟!
وكنتيجة لهذه المطالب الخارجية التي نؤديها على حساب وقت طلبتنا نلغي بعض الدروس، ونقلل من الندوات وحلقات المناقشة التي يجتمع فيها الطلبة بأساتذتهم… ولم تعد الدروس والمحاضرات مما يسر، فقد خلت من المعاني والآراء، فليس هناك من الوقت ما يكفي لإعداد مادة جديدة…
على أن هذا التعليم الذى لا يعطى بقلب خالص، والذي يشرف عليه أساتذة مشغولون، ليس هو السبب الوحيد الذي لن يعوض ابني عن سنواته الأربع التي سيقضيها في الجامعة، بل إن النتيجة النهائية، وهي الدرجة الجامعية قد رخصت أيضًا!…
ومنذ سنوات قليلة كانت الجامعة التي أعمل بها تلحق الطلبة الذين حصلوا على درجات عالية في تعليمهم الثانوي… ثم غيرت شروط الالتحاق بحيث أصبحنا نقبل أي طالب مؤهل تأهيلًا ثانويًا، ونتيجة لذلك انخفض مستوى التعليم الجامعي وانخفض معه في نفس الوقت ذكاء الطلبة!…
وفي السنة الماضية رسبت إحدى طالباتي رسوبًا فاحشًا، ومع ذلك أصرت على أنها درست وقرأت، فسألتها شفهيًا، ولكن النتيجة لم تكن بأحسن حالًا، حتى بعد أن أصبحت أسئلتي من السهولة بمكان كبير!.. وأخيرًا سألتها: (من هو مؤسس المسيحية؟) فسكتت قليلًا ثم قالت متسائلة: (أليس هو أفلاطون؟) فانفجرت قائلًا (لا، إنك تعرفين أكثر من هذا)، فقالت: (حسنًا، إني أعرف أنه أحد هؤلاء الرومان!).
هذا مثل مما سوف يلقاه ابني وابنك في الجامعة… أليس هذا شيئًا يستحق التفكير والدراسة؟!
وليس هناك منظر يدفئ القلب ويشرح الصدر مثل منظر الحماسة التي ترتسم على وجه الطالب المستجد في أول دراسته الجامعية، ثم سرعان ما تخبو هذه الحماسية عندما يجد أن التعليم بدأ ينخفض إلى مستوى لا يرضي اهتمامه!…
وفي الفصل الذي أدرس له ثلاثة أو أربعة من الطلبة المجدين يمثلون لي ما سوف يكون عليه ابني عندما يدخل الجامعة… فلأن الجامعة لا تمثل لهؤلاء أي تحد ثقافي، فقد أصبحوا يقضون في اللعب وقتًا أطول مما يقضون في الدرس، وكلما دخلت نادي الطلبة، رأيتهم يشربون القهوة أو يلعبون الورق، أو يستمعون إلى الراديو… وعندما أذهب إلى المكتبة لا أجد لهم أثرًا… والمأساة أنهم يستطيعون الاستغناء عن المكتبة ويحصلون مع ذلك على درجات لا بأس بها!..
حدثني أحدهم قائلًا: (إن الجامعة تحتاج إلى شيء من المجهود ولكنها ليست من الصعوبة كما كنت أظن)!.
إن الجامعة يجب أن تكون أكثر استمرارًا للتعليم الثانوي وإذا ذهب إليها ابني فأكثر ما أخشاه أن يركن للكسل لمدة أربع سنوات!
يقال أن الأطفال في هذه الأيام أكبر حجمًا، وأكثر صحة، وأوفر جمالًا… ولهذا أعتقد أننا لا نسدي لهم يدًا إذا تركناهم حتى سن الثالثة والعشرين، أو الخامسة والعشرين بغير عمل يشغل عقولهم، وينضج قدراتهم ويفتح آفاقهم… ولا أدري لم ننتظر هذه الفترة الطويلة قبل أن نطلب إليهم أن يتحملوا المسئوليات، ويضطلعوا بالأعمال!.
لقد قررت بعد تفكير عميق أن يحصل ابني على عمل بدلًا من دخوله الجامعة!.. وقد أخذ بعض زملائي لهذه الفكرة، وقالوا: (ألا تريد لولدك أن يحصل على التعليم الجامعي؟) إن هذا، على ما أعتقد، أمر يقرره ولدي بنفسه، بعد أن يقضي سنة أو سنتين في الحياة العملية، فإذا اختار الذهاب إلى الجامعة بعد ذلك، فأنا واثق أنه سيكون على استعداد لأن يفيد بأكبر قدر مما تقدمه له الجامعة!..
إن من أهم الصعاب التي تصادف الأستاذ الجامعي أن يشعر الطلبة، قبل سن العشرين بالقيمة العملية للتعليم الجامعي فهم دائمًا يتساءلون: (ما جدوى تعليمنا هذا؟!).
ولن يحتاج ولدي إلى مثل هذا السؤال إذا احتك بالحياة العملية فسيعرف قيمة هذه الحياة وقيمة التعليم بالنسبة لها.
ولو أن ولدي يعرف الطريق الذي يريد أن يسلكه سواء كان تعليمًا أو عملًا، لشجعته على المضي فيه فورًا، ولكنه لا يعرف، فإذا كان الأمر كذلك، فهل الجامعة هي المكان الأصلح..؟
عرفت طالبًا ذكيًا التحق بالجامعة التي أعمل بها، وفي اليوم التالي قال لي أنه قرر أن يعمل في الحقل الاجتماعي… وكان منذ سنة يريد أن يكون صحفيًا، ولو كان هذا الطالب ابني لقلت له: (دعنا نتأكد… اترك الجامعة واحصل على أي وظيفة اجتماعية حتى لو كانت أقل الوظائف… افعل هذا قبل أن تغير من اتجاهك وتضيع كثيرًا من الوقت أو المال)..
وما أكثر الطلبة الذين يبلغون السنة الثالثة أو الرابعة من دراستهم الجامعية ثم يغيرون أهدافهم! أما الطالب الناضج الذي لديه بعض الخبرة العملية فأجدر به إذا أقبل على التعليم، أن يكون هدفه ثابتًا راسخًا… فهو متأكد أنه في حاجة إلى هذا التعليم، وأنه يشترى بماله الذي تعب فيه ما يوازي المال الذي دفعه!..
وبرغم أني وزوجتي حاصلان على درجات جامعية إلا أننا لن نصدم إذا لم يحصل ولدنا على درجة جامعية!
إننا متأكدان أن ولدنا سيوافقنا في السنين المقبلة على أن قرارنا هذا كان في صالحه هو، وربما يكرر ما قالته (الكا شاز) القصصية المعروفة في إحدى حفلات جامعتنا: (إنني سعيدة لأن تدعوني الجامعة في مثل هذه المناسبات، إذ أنني لم أستطع في يوم من الأيام أن ألتحق بالجامعة إلا كخطيبة ومحدثة فقط!)
– نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق