مهما تكن الأسباب الظاهرة السطحية للمشكلات الزوجية على اختلاف أنواعها ابتداء من المناكفة والاستفزاز إلى الخيانة والطلاق.. مهما تكن هذه الأسباب مقنعة ووجيهة، أو تافهة عجيبة فإن جذورها تمتد في أغلب الأحيان إلى الوقت الذي كان فيه الزوجان طفلين تأثراً بحياة أبويهما الزوجية، وكونا لنفسيهما على هدى هذا التأثر نموذجًا للسلوك مع الجنس الآخر، سويًا كان أو منحرفًا… وفي هذا الباب يقدم اختصاصي نفسي نماذج من واقع الحياة للأسباب العميقة لمشكلات الحب والزواج…

– دع الولد وشأنه… سأعرف أنا كيف أربيه…

– لكنه لم يفعل شيئًا يا خيرية… إنه يلعب ولم يكن يقصد الإيذاء!

– أنت الذي أفسدته… فلو كان يعرف أنه سيعاقب لما فعل هذا، ولما عصى أوامري!

– دعينا من هذا النكد…

– أنت سبب هذا النكد… ألا يكفي أن العيشة أصبحت لا تطاق في هذا البيت، وتريد أيضًا أن تفسد الولد؟!.

– إذن سأوفر عليك هذا النكد… تعال يا محمود، تعال نذهب لجدتك…

– هذا هو ما تريده دائمًا: أن تبقى مع أمك… لماذا لا تبقى معها فيستريح كلانا؟

– كما تريدين…

 

والتقيت بخيرية وهي في طريقها إلى المحامي! كانت قد صممت على أن تطلب الطلاق، واعتزمت أن تنغص عيش زوجها حتى بعد فراقه!.. كانت تدفعها رغبة جامحة في الانتقام!..

وخيرية سيدة معتدلة القوام، سوداء الشعر، مليحة التقاطيع، ولكني حين لقيتها في ذلك اليوم كان التعب واضحًا على قسمات وجهها، وكانت عيناها محمرتين من أثر البكاء…

قالت لي في عصبية حين سألتها ما الخطب:

– لم أعد أحتمل… سأطلب الطلاق… لقد تعبت منه، ومن أولاده، ومن الحياة معه!

– هدئي روعك وتعالي نناقش المسألة في هدوء.

وصحبتها إلى مكتبي، حيث ارتمت خيرية على المقعد متهالكة، وقد بدا اليأس والأسى واضحين على محياها.

قلت:

– حدثيني عن حياتك مع فهمي…

– لقد تزوجنا، كما تعلم، منذ ثماني سنوات، ولدينا اليوم ثلاثة أطفال: محمود وعمره سبع سنوات، وفايزة وعمرها أربع، وسامية وعمرها سنتان…

(وقد مرت أكثر هذه السنوات الثماني في نكد مستمر، وسوء تفاهم متصل..).

– هل ترين سببًا لسوء التفاهم المستمر؟

– الحقيقة أن فهمي كان أكذوبة كبرى!.. ففي أيام الخطوبة، كان كثير الوعود حتى خلت أنه لن يتردد في تقديم القمر على طبق فضي إذا أنا أشرت بذلك!.. فلما تزوجنا بدأ يأخذ الحياة ببساطة، ويتكاسل وينتظر مني أن أعمل له خادمة، ولا يحاول أن يساعدني في أداء واجباتي المنزلية، ويهمل أطفاله، ولا يتدخل في تربيتهم إلا بالإفساد كما حدث اليوم، حين منعني من عقاب محمود، وصحبه إلى أمه..

وتوقفت لحظة، كأنما تلتقط أنفاسها ثم عادت تقول في بطء:

– ثم هناك أمه… إنه لا يطيق البعد عنها. فهو دائم الزيارة لها، يقضي معها الأوقات التي كان يجب أن يقضيها معي…

– هل تعانيان من مشكلات جنسية؟

– بصراحة، أنا لم أعد أهتم بهذه المسألة، فلدي الآن ثلاثة أطفال وأظن أن فيهم أكثر من الكفاية..

– هل لديك مانع من أن أتصل بزوجك وأتحدث معه؟

– كما تشاء..

– وأرجوك الآن أن تذهبي إلى الطبيب وتسأليه أن يصف لك مهدئًا، ثم عودي إلى المنزل وسأتصل بك فيما بعد.

واتصلت بفهمي في مساء اليوم نفسه، وقلت له أن خيرية زارتني في الصباح، وأنها في حالة صحية سيئة، وأنني نصحتها بالذهاب إلى الطبيب، وأن ثمة خطراً من أن تصاب بانهيار عصبي، وفي مقدوره وحده شفاءها إذا تفضل وزارني… وقبل الدعوة على الفور..

 

كان فهمي رجلاً في نحو الأربعين، ضخم الجسم، بادي الطيبة، بطيء الحركة…

قلت له حين استقر في مجلسه:

– تقول خيرية أنك هجرتها إلى أمك… إنها في الحقيقة ليست راغبة في الفراق.. فهل أنت كذلك؟

– طبعًا… لقد كنت أنوي العودة، ولكن بعد أن ألقي عليها درسًا.

– إذن أرى أن تعود إلى المنزل وتتجاهل سوء التفاهم الذي بينكما مؤقتًا، وسنعود لمناقشته فيما بعد. إن زوجتك في حال يرثى لها وتحتاج إلى رعايتك.

– لا بأس إن كنت ترى ذلك.

وحين غادر فهمي المكتب، اتصلت بزوجته، وأخبرتها بأن زوجها وابنها في الطريق إليها ثم طلبت منها أن تعدني بتجاهل شجارهما ريثما تهدأ الأمور.

 

وعادتني خيرية بعد أسبوع وكانت قسمات وجهها تنطق بالشكر والامتنان، وقالت أن فهمي قد تغير كلية، وعاد كما كان أيام الخطوبة الجميلة، وأنها سعيدة جداً بهذا الوضع. قلت:

– يسرني أن أسمع ذلك، ولكن مشكلاتكما لم تحل بالطبع؟

– يكفيني هذا التغير من فهمي ففيه حل لكافة مشكلاتنا.

– إن الأمور لن تسير هكذا إلى الأبد يا خيرية، فكل ما فعلتماه هو دفن المشكلات مؤقتًا…

– ولكنك برهنت على أن فهمي يمكن أن يغير من طباعه…

– وكيف حدث هذا؟

– إنه رقيق جداً معي، لا يرد لي طلبًا… لقد اشترى لي بعض الهدايا، وبقى بجانبي في المنزل وهو يغسل الصحاف كل ليلة، ويساعدني في عمل المنزل، ولم يفقد أعصابه قط…

– هل تريدين من فهمي أن يظل هكذا دائمًا؟

– وهل هناك ما يمنع من أن يظل كذلك؟

– لا تنسي أننا بشر!.. افرضي أن فهمي أخفق في إجابة طلب من طلباتك، افرضي أنه كان متعبًا، وأن له هو نفسه مطلبًا في نفس اللحظة التي تطالبينه فيها بشيء…

ونظرت إليّ خيرية في تحد، ثم قالت في استنكار:

– ولكني لا أرى لماذا لا تجد الزوجة في زوجها شخصًا يقدم لها المساعدة حين تحتاجها؟!.

فقلت مقاطعًا:

– شخص يمكن أن يكون أبًا أكثر منه زوجًا؟..

ونظرت إليّ خيرية في دهشة، وبدا كأنها تجتر ملاحظتي ثم قالت:

– لست أفهم ما تعني… الواقع أنني فقدت أبي منذ كنت في السابعة..

– يؤسفني أن أعلم ذلك…

– ثم تزوجت والدتي، ولم أكن أبداً موضع عطف زوج أمي.

– لاشك أن ذلك آلمك كثيراً، وكيف كان سلوك أمك؟

– كنت طفلتها الوحيدة من زوجها الأول، ولكنها رزقت بثلاثة أطفال من زوجها الثاني، فشعرت بأنني غير مرغوب في..

– وكيف كنت تقضين أوقاتك؟

– كنت أقضيها في القراءة، وكنت أقضي أوقاتًا طويلة مع صورة والدي أناجيها وأشكو لها متاعبي… وسمعتني والدتي يومًا فغضبت مني غضبًا شديداً، وطلبت مني ألا أفعل ذلك أبداً… ولكني دأبت على مناجاة صورة والدي في الخفاء!

– وفي المدرسة؟

– كنت متفوقة في المدارس الثانوية، وأردت الالتحاق بالجامعة ولكن زوج أمي تدخل ومنعني بحجة ضيق ذات يده..

– وهل كانت لك صداقات مع الجنس الآخر؟..

– كلا… الواقع أنني كنت أخاف الرجال!

– إذن كيف التقيت بفهمي؟

– قد تضحك، ولكن الواقع أنني قابلته في عيادة طبيب الأسنان!… وتبادلنا الحديث أثناء الانتظار، ثم رأيته كثيراً هناك… وتقدم بعد ذلك ليخطبني… والواقع أنني كنت سعيدة جداً بالخلاص من زوج أمي… وكان فهمي مدهشًا لدرجة أنني ظننت أن متاعبي كلها قد انتهت بزواجي منه!

– إن فهمي أكبر منك سنًا بكثير، فما الذي أعجبك فيه؟

وبدا عليها كأنها تفكر في عمق، ثم قالت في بطء؟

– لقد شعرت أنه قوي، عطوف، يمكنه حمايتي..

– بطريقة أبوية؟

ونظرت إلى فجأة، ثم قالت:

– لماذا تصر على إعادة هذا السؤال؟

– ما رأيك؟

– الواقع أن زوج أمي كان رجلاً قاسيًا…

– بالضبط… وكنت تعيسة معه لا تشعرين بالأمان، وفي أوج التعاسة كانت ذكرى والدك هي القشة التي تشبثت بها كما يتشبث الغريق…

– هذا صحيح… هل تعلم أن هذه الفكرة لم تطرأ على ذهني من قبل؟ ولكني أذكر الآن أنني حين قابلت فهمي لأول مرة، كنت أشعر في قرارة نفسي أنني أتحدث إلى والدي في شخصه…

– إذن فقد وجدت في فهمي بديلاً من والدك؟

– أعتقد أن هذا صحيح… ولكن هل لهذا أي أهمية؟

– ألا ترين ذلك؟

وقالت بعد تفكير:

– هل تعني أنني أطالبه بما كنت أطالب به أبي؟

– نعم… فأنت تطلبين من فهمي ما لا يمكن للزوج أن يحققه!

– لست أفهم ما تعني؟..

– ألم تقولي إنك لم تعودي تهتمين بالناحية الجنسية؟

– نعم… ولكن أي زوجة لها هذا العدد من الأطفال ينبغي أن تفعل مثلي..

– أعتقد أن واجب الزوجة في الأحوال الطبيعية أن تهتم بهذه الناحية، ولكن من الصعب على زوجة تنظر إلى زوجها نظرة أبوية أن تهتم بالمسائل الجنسية!

– ربما… ولكن المسألة الجنسية لم تكن موضع مضايقة.

– ولكن فهمي ينظر إليك كزوجة، وهو ينتظر منك ما ينظره كل زوج من زوجته.

– أظن ذلك صحيحًا، لماذا لم أفكر في هذه النقطة من قبل؟

– لا تهتمي بالماضي، فكري فيها اليوم..

 

والتقيت بفهمي بعد ذلك بفترة وقلت له حين لقيته:

– حدثني يا فهمي… ما الذي جعلك تتزوج خيرية؟

– طالما سألت نفسي هذا السؤال ولكني لم أهتد إلى جواب شاف… والأرجح أنني كنت أعطف عليها، وأريد أن أعوضها عن سنوات الشقاء التي عاشتها مع زوج أمها!

– هل هذا هو السبب الذي يتزوج من أجله الرجال؟

وتنهد فهمي بعمق وهو يغرق في مقعده، ثم قال:

– أظن أنني كنت أحاول أن أجعل من نفسي بطلاً! وأعتقد أن هذا الحلم الصبياني كان ماثلا دائمًا في مخيلتي…

– ولكن الحلم لا يتحقق بهذه السهولة، أليس كذلك؟

– كلا… إنني مقتنع بذلك الآن… فهو لم يتحقق مع خيرية! لقد كنت كمن حاول أن يخرج فأراً من مصيدة، فإذا الفأر يتحول إلى أسد ويهاجمه!.. وكلما حاولت جهدي أن أكون طيبًا شفوقًا على خيرية، لم تكن تكتفي، بل تطلب المزيد… فتخليت عن التجربة!

– ألا ترى أنك لم تكتف بذلك، وإنما حاولت أيضًا أن تعاقبها؟

وأبرقت عيناه، وقال في دهشة:

– بلا شك… لقد انقلبت من النقيض إلى النقيض.

 

وفي فرصة أخرى، التقيت بخيرية، فقالت لي والبِشر يعلو محياها:

– إننا متفاهمان تمامًا، وقد وجدنا معاني لأشياء كانت تبدو لنا في الماضي لا معنى لها!

– مثلاً؟…

– مثلاً… لقد اكتشفت نواحي طيبة في حماتي، فقد ظهر لي أنها مرت بأوقات عصيبة، وكان هذا هو سر عطف فهمي عليها… وأصبحت أقدر فهمي لهذا السبب، ولا أشعر بالغيرة من زياراته لها… ولم أكن أتصور أن غضبي من زيارات فهمي لأمه منشؤه الغيرة إلا حينما حاولت فهم مبعث الغضب… كنت أغار لأن لفهمي أما عطوفًا بينما لم تكن لي هذه الأم! والغريب أنه بدلاً من أن أسعد بعطف والدة فهمي، كرهتها وكرهت ابنها أيضًا!

– هذا صحيح، فقد ترسبت في أعماق نفسك أحقاد كثيرة، فكان من السهل إثارتها.

– حقًا… لقد كنت مملوءة حقداً…

– ولكن فرص الحياة في سلام مع نفسك وبالتالي مع زوجك قد تهيأت لك…

                                                   (صديق العائلة)

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *