كم من المرات مر أحد المقربين لك بظروف وجدت نفسك تتساءل بعدها عمّا يمكنك أن تقدمه، والواقع أن هناك الكثير الذي يمكنك تقديمه. كما في الإسعافات الأولية التي يمكن للجميع اكتسابها، فكذلك هناك ما يمكنك تسميته بالإسعاف النفسي الأولي، القليل الذي ينزع فتيل الأزمة والذي قد يساعد في الوقاية ضد الكثير من الاضطرابات النفسية التفاعلية كالاكتئاب. وهو قليل في الجهد المطلوب، لكنه يمثل الكثير بالنسبة للآخر في موضع الاحتياج.

  •  مهارات الدعم النفسي الأولي:

هناك مجموعة من المهارات القابلة للاكتساب والتي يعتمد عليها تقديم الدعم النفسي الأولي، وأولها وأهمها هو الإنصات، وأنا أحب تصوير الفرق بين الشخصية الداعمة والبقية كالفرق بين الفيل والغراب، فأهم ما يميز الفيل هو أذناه وخرطومه (الاستماع والإحساس)، بينما أهم ما يميز الغراب منقاره وسرعة خطواته (التسرّع بتقديم النصح أو عرض الحلول).

الاستماع حاسة فطرية، لكن الإنصات مهارة تحتاج إلى التدريب والكثير من هضم النفس، الإنصات يشمل الاستماع لكل منطوق ولغير المنطوق، وشيئًا فشيئًا ندرك أن أقل الكلام هو القدر المنطوق باللسان، وأهم ما يحتاج إليه الشخص هو شخص يمكنه أن ينصت لما نعجز عن قوله.

توقف عن الحكم واتهم فهمك للأمر دائمًا، دومًا ما سيكون هناك من التفاصيل ما لا يكفي مجرد السرد لعرضها، ودومًا سيقفز لديك الحكم المسبق بغرض مساعدتك لتكوين صورة كاملة عن الآخر مستعينًا بأدواتك أنت، ودومًا سيكون عليك تنحية خبراتك جانبًا لتسمح للآخر برسم صورته الكاملة بأدواته هو، ولذلك في مجال الدعم النفسي يتم استعمال مصطلح «الخبرة» للتعبير عن القصة التي نستمع لها من طالبي الدعم.

اقبل، اقبل الآخر كما هو، وطبقًا لمدرسة العلاج الإنساني فإن الفرد يدرك داخله مواطن العطب ويميل إلى إصلاح نفسه بنفسه، لكن هذا التفاعل كثيرًا ما يحتاج إلى بيئة تفاعل وعامل حفاز، وتكون البيئة القابلة بغير شرط هي المناسبة لإجراء هذا التفاعل، بينما يكون العامل الحفّاز هو آخر يرانا بينما ننمو ويصدق في قدرتنا على النمو ويقبل مسيرتنا بالكامل.! لكن العقبة هنا أننا نخلط بين القبول والرضا، فالرضا اختيار أما القبول فهو حق فطري للجميع!

التواجد، ولابد أن أقر أن المواجدة Empathy هي أكثر مبادئ الدعم صعوبة، وهي موهبة لكن يمكن اكتسابها بالتدريب، وتعني أن تشعر داخل الآخر، فهي لا تعني أن تضع نفسك مكان الآخر، وإنما أن تتفهم الآخر كما لو أنت هو بظروفه ومنظوره للعالم واحتياجاته، بينما التعاطف في المقابل هو أن تضع نفسك بظروفك في موضعه وهنا ستنظر لمشكلته بمنظورك وهو لا يحتاج إلى ذلك! وكما يقول رولوماي فإن المواجدة هي قرار واعٍ وخطر، لأنه يعني استعدادك التجرد من ذاتك لتختبر تجربة إنسان آخر، لكن في مبادئ المواجدة الأولية التي يمكنك تطبيقها كدعم أولي هي التفهم والشعور.

  •  مراحل الصدمة:

أكثر المواقف التي نحتاج فيها للدعم هي ما نسميه بالصدمات النفسية، ويمكن تقسيمها إلى نوعين؛ الصدمات الكبيرة وهي التي نستقبلها كتهديد وجودي، وهي تمثل اختبارًا لبنيتنا النفسية ومدى مرونتنا النفسية، وهي التي قد تخلّف «كرب ما بعد الصدمة»، والذي قد يحتاج للدعم المتخصص.

أما النوع الآخر، فهو الصدمات الصغيرة كاكتشاف مرض، أو إخفاق في اختبار، أو فشل علاقة عاطفية، وهنا يمر الشخص بعدة مراحل تسمى بمراحل الصدمة. وهذه المراحل تحتاج بشكل أساسي للدعم كما تم شرح مهاراته.

في كتابها «عن الموت والاحتضار On Death and dying» قدمت «إليزابث كوبلر» تصورًا لمراحل المرور بالصدمة النفسية في خمس مراحل، وتبدأ بعد حدوث الحدث الصادم وتنتهي بالتعافي من أثره، وليس شرطًا أن يمر الشخص بالمراحل كلها أو أن يمر فيها بالترتيب، بل قد يتعثر في مرحلة لفترة أطول من غيرها وقد يتردد بين مرحلتين ذهابًا وإيابًا إلى أن يجتاز الصدمة. ومراحل الصدمة هي مرحلة الإنكار، الغضب والإحباط، المساومة، الاكتئاب والانعزال، القبول، ثم التعافي.

في مرحلة الإنكار يكون الجهاز النفسي غير مستعد لمعالجة الحدث الصادم، وليس من النافع محاولة إقناع الفرد في مرحلة الإنكار بوقوع المصاب، وإنما الاحتواء والدعم لأنه بمجرد أن يتجاوز الجهاز النفسي الشعور بالتهديد ويشعر بقدرته على التعامل مع الواقع فإنه سينفتح لإدراكه بمفرده. ودومًا ما أنصح الأفراد المحيطين بشخص توفّى مقرب له أن يظلّوا بجانبه، وأن يقدموا الدعم لا أن يكتفوا بمجرد التواجد فتكون خدمتهم حملًا فوق حمل المصاب، وحين الانصراف عليهم طلب الإذن بالسؤال وتقديم العون. فأصعب اللحظات في مرحلة ما بعد الصدمة تكون بعدما تنصرف الجموع ويترك الفرد هو ومصابه، هنا يحتاج لمن يطرق بابه أو يدق هاتفه ليشعره دومًا أنه متاح لتقديم العون.

بينما تبدأ سحابة الإنكار في الانقشاع، يعاودنا الألم الذي سببه الصدمة، ويكون الاستياء والغضب هو المنفذ المقترح لتصريف هذا الألم، قد نوجه غضبنا للآخرين بمن فيهم أحبتنا الراحلون أو أطباؤنا الذين شخصوا مرضًا يعجزون عن علاجه، ويسبب لنا الغضب شعورًا بالذنب يعمل هو أيضًا على تأجيج الغضب. ما نحتاجه هنا هو الدعم، الدعم الكافي لنشعر أننا لا نختبر هذا بمفردنا، وأن هناك من يشعر بما نمر به. كذلك أن نجد من يقبل شعورنا بالغضب ويحاول مساعدتنا فقط على حسن تصريفه، فيفرق بين قبول الغضب كشعور وتقويم مترتباته.

وهكذا قد يأتي بعد هذه المرحلة مرحلة التأزم النفسي أو الاكتئاب، وهي المرحلة التي تختبر بصدق قوة شبكة الدعم النفسي المحيطة بنا، ولابد من التفرقة بين التأزم النفسي العارض وبين الاكتئاب الفعلي، والذي يتميز بانخفاض المزاج معظم اليوم، والرغبة في الانعزال مع صعوبة في التركيز، والشعور بالإجهاد مع المجهود اليسير، مع اضطرابات في النوم ونظرة تشاؤمية للمستقبل، في التأزم النفسي قد يكون الدعم النفسي الأولي كافيًا مع المحاولة المستمرة لدفع هذا الشخص للخروج من حالة العزلة. لكن إذا تطور الأمر لاكتئاب فعلي لابد من الرجوع للطبيب النفسي.

وغالبًا ما يصل بعدها لمرحلة المساومة، وأفكار مثل: «لماذا أنا؟»، «فقط لو كنت اكتشفت الأمر مبكرًا!.» ويميل الشخص في هذه المرحلة لمشاركة الآخرين بقصته، ويسعى للبحث عن معنى لمعاناته.

وتأتي بعد ذلك مرحلة القبول، وهي قبول الفقد والعودة للحال الوظيفية الطبيعية، وهي المرحلة التي لا تحدث في اضطراب كرب الصدمة، حيث يفشل الدماغ في معالجة الصدمة كذكرى، ويبقى الحدث عالقًا في الحاضر بالنسبة لهذا الشخص، في ما يُعرَف بالارتدادات الذاكروية Flashbacks والتي تحتاج لتقنيات خاصة من الدعم المختص لتجاوزها. وأخيرًا، فنحن كائنات اجتماعية والدراسات تثبت أن قوة شبكة الدعم النفسي تقف خطًا دفاعيًا رئيسًا ضد تطوير الاضطرابات النفسية، وعاملًا أساسيًا في تجاوز اللحظات الصعبة، وبقليل من مبادئ الدعم يمكنك أن تشارك في خط دفاع أحدهم!.

 – نُشر أولًا بموقع صحتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *