للدكتور مصطفى فهمي
أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية بجامعة عين شمس
حضر إلى العيادة النفسية يطلب مقابلتي، أحد المدرسين، وشكا إليّ من عجزه عن حفظ النظام بالمدرسة التي يعمل بها بسبب استخفاف الطلاب بشخصيته، وتمردهم عليه، ثم أردف قائلًا إن هذه الظاهرة قد جعلته يفقد ثقته بنفسه، ونغصت عليه عيشة، وباتت تشغل جزءًا كبيرًا من تفكيره…وقلت لهذا المدرس: (ألم تطرأ عليك هذه الظاهرة إلا حديثًا في أثناء حياتك الوظيفية؟ ألم تكن هناك بوادر قديمة تنبئ عن انعدام ثقتك في نفسك؟)قال: (حينما كنت طالبًا بالجامعة لم أكن أستطيع القيام بعمل أكلف به إلا إذا ساعدني فيه غيري، كما أنني كنت أتهرب من تحمل المسئوليات).ثم أضاف: (لقد كنت في طفولتي لا أطيق الابتعاد عن أمي، ولا أستطيع أن أجد رفيقًا سواها فهي زميلتي في اللعب، ورفيقتي عند القراءة، وصاحبتي في رحلاتي وجولاتي).هذا حوار جرى بيني وبين واحد من كثيرين ممن يترددون على العيادة النفسية، ويشكون من أنهم قد فقدوا ثقتهم بأنفسهم… وقد أحببت أن أنقل هذا الجزء من الحوار؛ لأبين للقارئ أن فقدان الثقة بالنفس كثيرًا ما يضرب بجذوره إلى فترة الطفولة المبكرة في حياة الإنسان ذلك أن كثيرًا من الآباء تتملكهم الشفقة والعطف الزائدان على أبنائهم، فيقومون عنهم بكل الأعباء، ويكادون لا يكلفونهم من أمورهم شيئًا فيه عناء أو نصب…
أو قد يكون التسامح والصفح طابعهم مع أبنائهم، فيغتفرون لهم كل ما يقع منهم من هفوات أو زلل. عند ذلك ينشأ الطفل وقد رسخ في نفسه أنه كائن ضعيف لا بد له من أن يعتمد على غيره، ولا بد للغير من أن يمد له يد المعونة على الدوام..
ثم يخرج إلى خضم الحياة العملية العامة، فلا يجد عند الناس من الصفح والتسامح والإغضاء عن الهفوات ما كان يجده عند والديه فتتأزم نفسه ويتملكه شعور بالإخفاق والفشل، ويظن أنه بفطرته أقل من غيره قدرة على مجابهة المشكلات وحل المواقف الصعبة.
قد يكون الشذوذ هو السبب
كذلك قد يتعرض بعض الناس للإصابة بألوان من الشذوذ المتصل بالبدن، أو الحواس أو بالقدرة العقلية أو بالقدرة الكلامية في فترة الطفولة، كأن يولد الطفل ولادة عسرة تخلف في جسده عاهة من العاهات تظل تصاحبه طوال مراحل النمو المختلفة. أو كأن يصيب المرض شخصًا ما فيحوله من شخص قادر على الحركة والنشاط، إلى شخص بطيء لا يتحرك إلا في صعوبة، وعدم اتساق، أو كأن يصاب الشخص بالشذوذ في حواسه فيعاني ضعف الإبصار، أو ضعف السمع أو بلادة الحس، عند ذلك ينتاب الشخص شعور حاد بالنقص يجعله يفقد ثقته في نفسه.كذلك قد يشعر الشخص بالنقص، وبأنه دون غيره من الناس، إذا توقفت قدراته العقلية عن النمو، الأمر الذي يشعره بالتخلف والعجز، ويسبب له الارتباك والتأخر في جميع الأعمال التي تتطلب لإنجازها مستويات إدراكية معينة.ونستطيع أن نضيف إلى ما سبق الشعور بالنقص المترتب على صعوبات النطق والكلام، فإن هناك من الأفراد من يعاني اضطرابًا في كلامه، وأمثال هؤلاء يتعثرون في كلامهم في الظروف الانفعالية العنيفة، إذ نجدهم يتلجلجون أو يتهتهون…
أو قد يستطيع الفرد الكلام ولكنه يتكلم بطريقة مشوهة معيبة -بطريقة غير إرادية- فيبدل حرفًا بآخر، أو تخرج الأصوات من فمه بطريقة غير مألوفة، فتبدو الحروف المتحركة وكأن فيها غنة، على حين تأخذ الحروف الساكنة أشكالًا عدة متباينة كالشخير أو الخنف. والأغلب أن ترجع هذه الأنواع من الشذوذ إلى إصابات أو تشويهات عضوية في الجهاز الصوتي.فهذه هي أهم العاهات الحسية، وبعض مظاهر الشذوذ الجسمي والعقلي والكلامي التي يصاب بها الأفراد من الأطفال والكبار، والتي تؤدي إلى الشعور بالنقص.
اعرف قدر نفسك
أما التغلب على النوع الأول من في أسباب فقدان الثقة بالنفس، فوسيلته أن يتعرف المرء على نفسه جيدًا، وأن يتبين قدراته، وأن يدرك نواحي القوة والتفوق في شخصيته، وأن يقوم باستغلال هذه النواحي كأحسن ما يكون الاستغلال…
وأن يبني تفاعله مع المجتمع الذي يعيش فيه على أساس هذا الإدراك لنواحي القوة والضعف عنده.ومعلوم أنه إذا كان تفاعل المرء مع مجتمعه قائمًا على أساس من التقدير الصحيح لإمكانياته، وعلى أساس معرفته الواعية بقدراته، فإنه يبلغ أقصى ما يستطيع من نجاح في الميدان الذي هو أهل للنجاح فيه. ومعلوم أيضًا أن النجاح في ميدان من الميادين يغرس الثقة بالنفس، ويؤدي بالمرء إلى أن ينجح في سائر الميادين الأخرى…
فقد قالوا: «إن النجاح يؤدي إلى النجاح، وليس يحفز على النجاح مثل النجاح».
وبيان ذلك أن نجاح المرء في عمل من الأعمال إنما يغرس في نفسه أنه أهل للنجاح والتوفيق وأنه كفء للقيام بمختلف الأعمال، وأنه لم يعد بحاجة إلى من يرعاه ويقضي عنه شئونه، كما تعود في تربيته الأولى.وتحضرني بهذه المناسبة حالة سيدة وردت إلى العيادة النفسية تشكو من أنها غير سعيدة في حياتها الزوجية، وأن العلاقات بينها وبين زوجها قد باتت شائكة مملة يسودها النزاع، وينعدم فيها الوئام والوفاق. فهي تظن أن زوجها لا يحترمها، ولا يؤدي لها ما كانت ترجوه من حنان وعطف، وهو يرى أنها تقصر في خدمته والقيام بواجباتها كأم وكزوجة..
ودرست الحالة فتبين لي أن الزوجة كانت الابنة الكبرى لوالديها اللذين كانا يكثران من تدليلها ورعايتها، وأنها اعتادت من الآخرين أن يحيطوها بالاهتمام وأن يجعلوها مركز انتباههم، ومن ثم فقد كانت تتوقع ممن تتزوجه أن يحل محل والدها، فتصبح هي بمثابة الدمية عنده لا ينقطع عن ملاعبتها وملاطفتها، وإظهار مشاعر الود والحنان نحوها.لكن الزوج كان رجلًا أقرب إلى الغلظة منه إلى اللين فهو ينظر إلى امرأته على أنها شريك في حياة زوجية ينبغي له فيها أن يقوم بواجباته قبل أن يطالب بحقوقه، وهكذا ساءت العلاقة بين الزوجين، وفقدت الزوجة ثقتها بنفسها، وظنت أنها لن تستطيع أن تصيب في حياتها الزوجية من السعادة والمتعة ما كانت ترجوه.
استغلال المواهب يولد الثقة
ورأينا أن مما يعيد إلى هذه السيدة ثقتها بنفسها، أن نخلق لها من الظروف ما يحقق لها الشعور بالنجاح في حدود مواهبها وإمكانياتها. وكان قد تبين لنا من دراسة الحالة أنها تهوى التمثيل، بالإضافة إلى أنها كانت تحمل إحدى الشهادات الدراسية التي تيسر لها أمر العمل في مدارس المرحلة الأولى، فأشرنا عليها بأن تمارس هذه الهواية، وتم لها ذلك فعلًا، وأصابت في هذا المضمار من النجاح ما زادها يقينًا بأنها إنسانة لا يعوزها شيء لكي تفلح فيما تقوم به من أعمال، وأخذت من جانبها تنمي هذه الهواية في نفسها، فالتحقت بمعهد التمثيل، وجعلت تكثر من الاختلاط بالناس، وتقبل على قراءة الكتب والمؤلفات التي تتصل بهذا الفن، ومن ثم بدأت تغير من فكرتها عن نفسها، وفكرتها عن رأي الآخرين فيها، وأصبحت أكثر قدرة على حسن التكيف مع زوجها ومع الناس عمومًا.
وأما النوع الثاني من أسباب فقدان الثقة بالنفس -وهو القائم على ألوان الشذوذ المختلفة التي قدمناها- فيلاحظ أن الشعور بالقصور والنقص يزداد تفاقمًا وحدة نتيجة الموقف الذي يقفه المجتمع من صاحب العلة أو الشذوذ…
فإن كانت الأسرة، ومجتمع الرفاق، وجميع من يتصل بهم صاحب العاهة ينظرون إليه نظرتهم إلى سائر أفراد المجتمع من السويين العاديين، خفت حدة الشعور بالنقص عنده، وهان لديه أمر شذوذه. أما إذا سخروا منه، وتهكموا على نقصه وعلته، أو أفرطوا في العطف عليه والرثاء له إفراطًا يؤكد في نفسه ذلك الشعور بالنقص والدونية، فإنه ينفر من المجتمع، ويتهيب لقاء الناس، وينطوي على ذاته، ويغرق في أحلام اليقظة والأوهام والخيالات التي تجنح به بعيدًا عن عالم الواقع وحقائق الأشياء.على أن من أصحاب العاهات والنقص الجسمي أو الحسي من استطاع أن يبلغ بنفسه إلى أقصى مراتب النجاح. فقد كان (ديموستين) بفطرته لا يجيد نطق الحروف الهجائية النطق الصحيح، فجعل يحشو فمه بالحصى، ويقف على شاطئ البحر ويتدرب على الخطابة في أمواج البحر ورماله حتى صار من أخطب خطباء أثينا في عصره.كذلك يروي التاريخ أن (بيتهوفن) ذلك الموسيقيُّ الشامخ كالطود في تاريخ الموسيقى، لم يركن لما أصابه من صمم، ولم يجعل من هذه العلة عائقًا يقف بينه وبين أن يصل إلى ذروة المجد.ألا ما أجدر الآباء أن يغرسوا الثقة في نفوس أبنائهم بأن يقوموا بتربيتهم تربية استقلالية يضطلع فيها الطفل بقضاء شئونه وحوائجه في جو من العطف المعتدل، والحنان المعقول.وليت هؤلاء الذين تعوزهم الثقة بأنفسهم يقرأون سير الأبطال والخالدين ممن ارتفعوا بأنفسهم من حالة الضعف المتناهي التي لا يعرفهم فيها أحد، ولا يحس بقدرهم إنسان، إلى حالة من القوة والشهرة جعلتهم ملء الأسماع والأبصار.
كيف تكسب الأصدقاء
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا صديقك، لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صِل أخاك فإنه مقارف ذنب مرةومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه
(بشار بن برد) |
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق