للدكتور لويس بيش
الطبيب النفسي ومؤلف كتاب
(المرض النفسي طريق إلى السعادة)
في أعماق كل رجل، وكل امرأة، وكل طفل، يكمن حافز فطري بدائي. ومهما تكن يقظتنا، فإن زمام هذا الحافز يفلت من يدنا بين الحين والحين، وعندئذ لا بد أن يصاب أحد الناس بأذى!..
وعلماء النفس يسمون هذا الحافز (السادية)، ولكن في مقدروك أن تسميه بكل بساطة (القسوة)! فالرجل الذي يقصد في ضرب كلبه لأتفه هفوة هو رجل (سادي)، والمرأة التي تعاقب بحبسها في خزانة مظلمة غير مكترثة بصراخها (سادية) أيضًا..
وحتى المتصفين بالرقة والدماثة تبدو عليهم أحيانًا ميول سادية دون أن يخطر ببالهم أن الوحش الكامن تحت القناع المدني المهذب قد تمكن من الإفلات من زنزانته مؤقتًا… فهذا مثلاً مدير المبيعات في مؤسسة تجارية يدعو مرؤوسيه لاجتماع، فيكيل لهم قوارص الكلم، ويتهمهم في نشاطهم، وهمتهم وكفايتهم، وذكائهم، لا لشيء إلا لأن منسوب البيع هبط نوعًا خلال الشهر السابق..
وهذا رجل ينهر سكرتيرته بسبب أخطاء يسيرة في خطاب كتبته، ويتوعدها بالفصل عند تكرار الغلطة… وهذه معلمة تثير ضحك الفصل على حساب تلميذ لم يستذكر درسه… وهذا طفل يلقي قطة في بئر، أو يتلذذ بسحق كل نملة أو حشرة صغيرة يلقاها في طريقه…
وليست هذه الأمثلة إلا القليل من الكثير جدًا مما يقع كل يوم من سائر الناس، مع أنهم، فيما عدا تلك التصرفات، غاية في الاتزان.
- أنواع خفية من السادية
وهناك أنواع خفية دقيقة من السادية. منها التهكم، والتباهي بالممتلكات الشخصية أمام شخص محروم منها، ومنها ارتداء أفخر الثياب والجواهر في مواطن تلفت النظر إلى هذه الأشياء الثمينة، والتحدث بإفاضة عن الرحلات التي قام بها المرء، أو عن مشتاه ومصيفه بقصد التعالي…
وأكثر ما تنزلق المرأة إلى السادية حين تتحدث أو تثرثر عن الفضائح، أو تغمز سيرة امرأة أخرى، أو تثير غيرة محدثتها على زوجها. فإشعار الآخرين –أو الأخريات- بالنقص أو التعاسة، أو الحرمان صورة شائعة من صور السادية.
وأما الرجال فهم ساديون كلما حاولوا الانتقاص من قدر الآخرين وكفايتهم ومواهبهم، وإظهار عيوبهم الأخلاقية والاجتماعية.. كالتلميح إلى حب فلان للشراب، وميل فلان للغزل ومطاردة النساء…
| السادية والماسوكية
(السادية) نسبة إلى (الكونت دي ساد) الذي يقال أنه كان يتلذذ بضرب السيدات. وليس يعنينا هل كن يتلذذن بضربه أم لا، ولكن علماء النفس لديهم مصطلح مقابل للسادية أو حب التعذيب هو (الماسوكية)، نسبة إلى (ساشر ماسوك) الذي يقال أنه كان يستلذ بالعذاب الذي يصب عليه… والمعروف عمومًا أن الرجال أميل للسادية، والنساء أميل عمومًا إلى الماسوكية. |
والمظهر الثاني لسادية الرجال يبدو في طريقتهم القائمة على التنافس في الأعمال، والبحث عن الأليفة من الجنس الآخر، والإلحاح في السعي إلى الهدف. فحتى البائع الجائل الذي تطرده من الباب الخلفي، فيطرق بابك الأمامي لا يخلو من سادية!
- سادية المرأة
ولا تظهر المرأة ساديتها إلا حين تظهر لها منافسة في حب رجلها. فعندئذ تبرز أسوأ صفات المرأة، حتى كأنها انقلبت شخصًا آخر!.. ومثل ذلك يحدث إذ تجاسر أحد على إيذاء طفلها أو الإساءة إليه بأي شكل من الأشكال فمعظم النساء ينفرون إلى الدفاع عن أبنائهن، حتى بغير وجه حق وإذا وصل الأمر إلى العدوان البدني، تغدو المرأة عنيفة كالرجل في هجومها تمامًا، وربما أعنف!
ودلال الحبيبة التي تكف عمدًا عن الكتابة لفتاها الغائب نوع من السادية. وكذلك امتناع الفتى عن الكتابة إلى فتاته البعيدة من غير سبب… وخلف المواعيد عمدًا، شبيه في ساديته بالميل للعض، والإغاظة، حتى ولو كان العض والإغاظة يتخفيان وراء ستار اللهو أو الهزل!
والغالب أن السادية تطفو على سطح السلوك حين الغضب، لأن الشخص يفقد عندئذ سيطرته على أعصابه، فيرتفع رقيب الآداب والتربية والمستوى الثقافي، فإذا بالوديع الدمث وقد أصبح فجأة قاسيًا مدمرًا، شتامًا عيابًا!
- سادية الأطفال
ومن المعروف أن الأطفال الأبرياء تنتابهم موجات قسوة ضد زملائهم في اللعب… وأظهر آيات تلك القسوة الشتائم، والدعوات الجارحة، والبذاءة والسخرية من ملابس رفيق لهم لقذراتها أو رثاثتها!
وإذا نظرنا بعين الاعتبار إلى الفروق الفردية، أدركنا أن بعض الأطفال أميل للسادية من بعضهم الآخر. ومهما تكن درجة السادية فمن الواجب كسر حدتها، فالطفل الذي يظل ساديًا ولا نعلمه حقوق الآخرين، حرى بعد البلوغ أن يغدو مجرمًا!
وخلاصة القول أن الدنيا حافلة بالساديين، عن شعور أو لا شعور منهم. والشاعرون منهم يتعمدون القسوة مستريحين إليها، أما من عداهم فيعجبون لما يبدر منهم سهوًا على خلاف عهدهم بأنفسهم وعهد الناس بهم!
والمجاهرة بالسادية السافرة أو المقنعة أمر غير لائق بآدمي يحترم تفكيره واستقامة ضميره وسلوكه. فالإصرار على قهر الخصوم، وسحق المنافسين أو إيذائهم شيء كريه غير لائق. وفي يدك أن تردع نفسك عن الغضب والسباب والتشهير والغمز والانتقاص، لأنها صفات تنم –على أهون الفروض- عن جبن، ونقص تحاول تعويضه بثلب غيرك، وإسقاط عيوبك عليه… وأظهر ما يكون ذلك في الوظائف النسوية حيث تقسو الرئيسة على مرؤوساتها لا لسبب إلا الحسد لتفوقهن عليها في الجمال ونضرة الشباب!
- علاج السادية
وما دمنا جميعًا ساديين بدرجات متفاوتة، فلابد من علاج عام لذلك الحافز، ييسر لنا كبح جماحه.
وأول علاج هو (إعلاء) ساديتك أو التسامي بها بقدر استطاعتك.. نفس عنها بشهود مباريات المصارعة أو كرة القدم، أو سباق الدراجات أو السيارات، كي يتاح لك تصريف حافزك السادي من غير إيذاء لأحد.
والعلاج الثاني أن تدرب نفسك على الصفح والتسامح، والرفق والعطف، لا نحو أهلك فحسب، بل نحو جيرانك أيضًا، ثم نحو الغرباء، وعابري السبيل. أسهم في النشاط الاجتماعي، والخدمات الاجتماعية، وتعرف إلى طرائق الناس في الحياة، وإلى مشكلاتهم ومتاعبهم، ثم أعمل ذهنك في كيفية التخفيف عنهم بعمل جماعي تطوع في الإسعاف، أو الهلال الأحمر، أو في جمعيات الترفيه عن العميان وما إلى ذلك.
والعلاج الثالث، أن تقرأ الكتب، وتشاهد الأفلام التي تقوي الناحية الإنسانية، وتزيد جوانب الرحمة والرفق. وطالع تراجم حياة الفنانين والعلماء في كفاحهم لنصرة قاعدة علمية أو خدمة عقلية. ولا تخجل أن تذرف دمعة تأثر لما تقرأ، لأنها الشهادة لك بأنك إنسان رحيم، لا وحش ضار… والدموع الصادقة هي خير ترياق من سم السادية الزعاف.
ارقب جيدًا سلوكك السادي، ولا تتوان في كبح بوادر القسوة في نفسك، اقتلع جذور السادية من نفسك، فتلك هي الوسيلة الوحيدة لتكون إنسانًا مهذبًا، ناضجًا، سويًا…
-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق