كما لا جديد تحت الشمس، لا جديد أيضًا في التعامل الإنساني مع الوقائع والظواهر الصادمة، فمرحلة رئيسة تكمن في حالة إنكار ذلك الواقع والتظاهر كما لو أن كل شيء على ما يرام، وهذه المُشكلة تتفاقم في بلداننا العربية التي تورث أجيالها أن منطقتنا هي الوريث الحصري للأخلاق والقيم، فكل شعوبنا «متدينة بطبعها»! كذلك الحال مع قضية شائكة مثل المثلية الجنسية، فبين فترة وأخرى تظهر قمة جبل الجليد لكننا نغض الطرف عنه، حتى لا تنكسر صورتنا الزائفة التي كونناها لأنفسنا ولسنا مستعدين الآن لتقبل مدى المفارقة بين صورتنا عن أنفسنا والحال الذي وصلنا إليه.
وعلى الرغم من أن الخبر التالي قد يكون صادمًا إلا أن مواجهة الواقع خيرٌ من الهروب منه؛ فإن إحصاءات الرصد غير الرسمية بين الشباب الجامعي والتي شاركت في إحداها تُشير إلى أن النسبة الفعلية لممارسي السلوك المثلي في مصر لن تقل عن ٤٪ وهي نسبة تستحق الانتباه والتوقف، فهي أربعة أضعاف نسبة الفصاميين الذين نُسخّر لخدمتهم جميع مراكز الطب النفسي في العالم، وهذه النسبة لا تشمل الذين تعاطوا الفعل المثلي مرة واحدة أو الاعتداء الجنسي والتحرّش ولا أولئك الذين يحملون ميولًا مثلية بلا ممارسة، أما عن النسبة في دول الخليج فهي مرشحة للزيادة عن هذه بكثير، لذلك فإن الجهود الفردية ينبغي أن تضاف إليها جهود المؤسسات الرسمية.
ولست بحاجة هنا إلى تفصيل القول في تاريخ إخراج اضطراب المثلية الجنسية من الدليل التشخيصي للطب النفسي فليست خافية على كل مهتم بالقضية ودور جماعات الضغط المثلية في أمريكا وخضوع المجالس العلمية للضغوط السياسية، بل وكل متخصص في الطب النفسي يعلم أن الجنسية المثلية تتقاطع بشدة مع اضطرابات نفسية أخرى لا زالت مصنفة داخل الدليل التشخيصي.
ومع ذلك فإن التعامل العربي الغالب هو على النقيضين، إما السير على خطا الغرب في قبول السلوك الخاطئ، وإما معاداة ورفض الإنسان الذي وقع فيه، وكلاهما يُفاقم المُشكلة ولا يُعالجها، وذلك على الرغم من أن التراث الديني لشعوبنا يقف في منطقة وسط بين الموقفين، فالمسيح عليه السلام يقف مُدافعًا عن تلك المرأة التي وقعت في الزنا ليقول: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» وهو هنا لا يدافع عن الخطيئة حيث وصفها بذلك وإنما يدافع عن الإنسان الخاطئ ليفتح له بابًا إلى النجاة، وفي الموروث الإسلامي نجد ذلك الشاب الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الإذن منه في الزنا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: «اقترب يا شاب، أترضاه لأمك، أترضاه لأختك، أترضاه لعمتك، …» إلى أن مسح على صدره ودعا له: «اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه».
ما يقدمه المثالان لنا هو ما أصبح اليوم يسمى بـ «القبول غير المشروط» وهو فصل الاضطراب عن الفاعل، فنحن نحارب الوباء الكبدي ولا نحارب المصابين به، لأن محاربة الفاعل تضطره إلى التوحّد بالفعل، ما يؤدي إلى دفاعه عن الفعل لأن ذلك سيكون دفاعًا عن وجوده هو وبقائه، والنتيجة هي تعريفه لنفسه نسبة إلى سلوكه، فبدلًا من كونه ممارس لسلوك مثلي، فهو «مثلي الجنسية»، وينبغي التفرقة هنا بين قسمين هامين من الممارسين، الأول هو الرافض للفعل والراغب في التعافي، والثاني هو المتصالح مع الممارسة وهذه قضية أخرى.
صورة أخرى من سوء التعامل مع القضية هو اتهام القسم الأول بضعف الديانة، والحقيقة أنه لا علاقة بين ممارسة سلوك إدماني ومدى التدين، لأن السلوكيات التي تأخذ صورة إدمانية هي أفعال قهريّة تتبع قاعدة التشريط الاعتيادي، فبمجرد استثارة دائرة السلوك في الدماغ فإن حالة قوية من اللهفة تبدأ في الظهور وقد تأخذ أعراضًا جُسمانية، كالتصبب عرقًا وتنميل بعض أجزاء الجسم، بل إن الدماغ المهيأة لتطوير ميول مثلية هي أدمغة أقرب إلى تقبل الحالة الروحانية بقوّة، فلا ينبغي وصمهم بسلبهم ما يمكن أن يكون طوق نجاةٍ لهم.
قارن تعاملنا السابق مع الواقعين في السلوك الإدماني بشكل عام، وبين تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مدمن الخمر الذي سبّه أحد الصحابة فرد النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: «لا تلعنوه؛ إنه يحب الله ورسوله»، والمعنى الإضافي هنا أن تبقى جماعة المؤمنين هي الملاذ الآمن الذي يجد فيه راغب التعافي القبول غير المشروط، والاحتواء، والأمن، لا أن تكون عونًا للشيطان عليه كما هو الحال اليوم.
قضية أخيرة يتم تداولها هنا هي مسألة حقوق المثليين، وأنا أذكرها على سبيل التجاوز لأن لفظة «حقوق المثليين» هي تأكيد لحالة التوحّد بين السلوك والفاعل، ولكن ينبغي المطالبة بحقوق الإنسان التي يقوم المجتمع بحرمانهم منها، وهي الحقوق التي يحث عليها الإسلام في الأصل، وهي حق الاحتفاظ بالخصوصية فلا حق لأحد في التفتيش عن سلوك الآخرين وميولهم، وعدم الملاحقة القانونية للممارسات المتسترة ما لم تتضمن اعتداءً أو تحرشًا أو دعاية للسلوك، وبالمثل الملاحقة القانونية لحالات التحرش والاعتداء على من تبدو عليهم ميول مثلية، وتقديم حق العلاج الطبي بغض النظر عن سلوك المستفيد كحالنا كأطباء مع غيره من المرضى، وحقه في طلب التعافي وهو الحق الذي يغفل عنه المطالبون بحقوق المثليين، وحقه في تلقي البرنامج التأهيلي المساعد له بدون إخفاء حقيقة أن تغيير السلوك ممكن.
والكلمة الأخيرة هي للواقعين في هذا السلوك، أنت وحدك من تُدرك معاناتك، أنت وحدك من تشعر بشعور الاستهلاك بعد كل ممارسة، أنت وحدك من تعرف أن كثيرًا ممن يؤيدوك على الاستمرار يجدون فيك سلعة جنسية متاحة بلا قيود، أنت وحدك من يعرف أن الممارسة لا تشبع الاحتياج الذي بداخلك، أنت وحدك من يدرك أن كل ممارسة هي غرفة من بحر مالح لا تزداد بعده إلا عطشًا، أقول لك بملء قلبي أقبل الإنسان الذي يحيى فيك، وأدعوك لتقبله.
– نُشر أولًا بموقع صحتك.

لا تعليق