للدكتور يوسف مراد

أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة

احتلت أخبار الأقمار الصناعية والسفر إلى الكواكب عبر الفضاء المكانة الأولى في الجرائد والمجلات وتترك قراءة هذه الأخبار في ذهن القارئ مزيجًا من العواطف المتضاربة، فنعجب حينًا من قدرة العقل الإنساني وجبروته في محاولاته الجريئة لكشف أسرار الكون وتوسيع آفاقه، بل في غزو الفضاء وتجاوز الحدود التي تفرضها الطاقة البشرية، وينتابنا الخوف حينًا آخر من رغبة الإنسان في أن ينطلق نحو عوالم مجهولة لا بمخيلته فحسب، بل بجسمه وجوارحه، وأن يواجه ظروفًا جديدة لا عهد له بها من قبل..

إن من حق العلم أن ينتزع من الكون أسراره الخفية، وأن يزيد من سيطرة الإنسان على قوى الطبيعة لاستخدامها في كل ما يحقق رفاهيته.. والعقل البشري ينزع بالفطرة إلى التساؤل عن كنه الأشياء وماهية الظواهر التي تحيط به، ولا يهدأ حتى يوفق إلى تفسير أو تأويل وإن كان جزئيًا.. والمشكلات العلمية لا تنفك تطارد الإنسان في تفكيره وتأملاته فتدفعه إلى تعمق البحث والسعي وراء تفسيرات أوفى وأشمل.

كل هذه الحقائق المتعلقة بطموح العقل إلى الكشف والمعرفة جلية واضحة لا يمكن نكرانها أو تجاهلها، تطلب المعرفة من أرقى الوظائف التي يؤديها الإنسان ولا يمكن أن تكمل الطبيعة البشرية وأن تسمو على الطبيعة الحيوانية إلا بالعلم والمعرفة، وإنه لمن الخطل الحكم على العلم بأنه مصدر شر أو فساد.

غير أن الإنسان ليس عقلًا بحتًا، بل هو وحدة معنوية جسمية مركبة من دوافع عدة تتعاون حينًا وتتضارب حينًا آخر.. والحكمة المثلى تقضي بتنظيم هذه الدوافع وتنسيقها بحيث تنشط وتعمل في انسجام واتزان دون انحراف بالغ لأحد مقومات الشخصية، ودون سيطرة قهرية لجانب على الجوانب الأخرى.

وكذلك يجب تنظيم نشاط الإنسان في مجالي الفكر والعمل بحيث يتحقق الانسجام والتوازن بين مختلف أنواع النشاط حتى لا يطغى اهتمام ما على غيره من الاهتمامات، وحتى يكون النشاط الفكري، وخاصة النشاط العلمي مرتبطًا بحقائق الحياة البشرية، مستلهمًا إياها في جميع الخطوات التي يخطوها إلى الأمام في مواجهة أسرار الكون الخفية.

وما يصيب نشاط الإنسان في حياته اليومية من انحراف قد يصيب النشاط العلمي في بعض اتجاهاته. إننا نعلم من دراسات علم النفس المرضي أن الإنسان حينما يعجز عن تحقيق التوافق الإيجابي النافع يلجأ إلى وسائل جديدة من التكيف الذي يبدو سليمًا في ظاهره، في حين أنه ينطوي على الانحراف والفشل.

ومن وسائل التكيف المزيف النزعة إلى تحقيق الكمال في جميع الشئون صغيرة كانت أو كبيرة والسعي وراء قدر أكبر من التقدير والثناء، والخوف المرضي من الفشل أو النقد..

ومن أكثر هذه النزعات المنحرفة تحايلًا وخداعًا إهمال بعض الواجبات أو الأعمال المفيدة وراء ستار من النشاط الزائد الذي يوحي، بتعدد وجوهه، أن صاحبه موفق في شغل أوقاته وصرف مجهوده في حين أنه لو أصفى إلى نفسه قليلًا لألفاها غارقة في لجة من الملل والاستياء.

فالفرار مما يجب عمله والالتجاء إلى نشاط زائد يتسم بالتطرف والمبالغة، من وسائل التكيف المزيف، ويعد لونًا من ألوان الانحراف النفسي.

ويعلمنا التاريخ أن ما يصيب الفرد من انحراف في سلوكه قد يصيب أحيانًا الجماعات نفسها. وحالات التوتر الجمعي من شأنها أن تساعد على انتشار المعاني والتصورات المحملة بشحنات وجدانية قوية، وعلى خلق الظروف الملائمة للعدوى الانفعالية.

ويبدو أن اهتمام الناس في هذه الفترة من الزمن بالسفر إلى القمر له مغزى آخر غير مغزاه العلمي، وهو محاولة الفرار من الواقع وتجاهل المشكلات الأرضية الراهنة التي تلح في ضرورة حلها قبل إثارة مشكلات كوكبية جديدة!

ومن الطريف أن نذكر هنا أن في كثير من الحضارات يعزى إلى القمر، سواء إلى شكله أو إلى أشعته بعض الآثار السيئة في عقول الناس، و(القمري) في بعض اللغات هو الشخص المجذوب… وربما يكون من أغراض غزو القمر شن حملة تأديبية عليه حتى يكف عن إحداث الخلل في عقول بعض الناس!

فمن المحتمل جدًا أن تقع الإنسانية جمعاء في بعض الأخطاء السلوكية التي يقع فيها الأفراد فتتخذ من المغامرات القمرية مثلًا ذريعة لإهمال أو تجاهل مشكلات أساسية يكفل حلها بدون إبطاء رفاهية سكان الأرض.

فقد تنبه بعض قادة الفكر إلى هذا الخطر الجديد الذي يهدد أرضنا وأشاروا إلى اختلال ميزان الاهتمام، وضرر استحواذ فكرة دون غيرها على عقول المسئولين. فمشكلة التوافق النفسي والاجتماعي للشعوب والأفراد لا تزال المشكلة الكبرى التي يجب أن تتوافر الجهود الصادقة لحلها واقعيًا، لا بالاتجاه بنظرنا إلى العوالم القمرية واجتياز الأفضية السماوية الخالية من الرحمة والطمأنينة بل بمواجهة هذه المشكلة مواجهة واقعية متواضعة.

وقد قيل قديمًا عن الفيلسوف اليوناني سقراط أنه (أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض)، أي أنه وجه اهتمام الإنسان إلى نفسه لكي يعرفها، ويسبر غورها، ويكتشف قدراتها الإيجابية، بدلًا من تركيز بصره في الكواكب والأجرام السماوية! فإن النفس الإنسانية بمثابة عالم صغير لا يقل عن العالم الكبير في تعقده وخطر مقوماته.

فالإنسان اليوم في حاجة إلى سقراط جديد ينبهها على جولات النظر العلمي في النفس الإنسانية، وفي المقومات الخلقية للإنسان لا تزال قاصرة، وأنه يجب مواصلة السعي حتى يزداد علم النفس تقدمًا، ويزداد المربون دراية بدوافع النفس وبطرق توجيهها وعندئذ يصبح من يملك زمام نفسه مالكًا للعالم حقًا…

فعلى كل إنسان أن يكون سقراط نفسه، وأن يوفر بعض جهوده لمعرفة نفسه واكتشاف قواها الخفية، وعندئذ سيدرك أن السعادة الحقة ليست في الفرار نحو الآفاق البعيدة، بل هي في إنجاز ما يجب إنجازه كل يوم من الأعمال المتواضعة بعد استئصال النزعات المنحرفة التي تبدد الطاقة النفسية، وتترك الإنسان فريسة للخوف والقلق.

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *