قصة واقعية

بقلم الأستاذ أنور العمروسي المحامي

 

هل يقتل القاتل حقًا، أم أن الذي يقتل هو الوهم الكبير الذي تسلط عليه؟

راح وكيل النيابة يتقلب في الفراش محاولاً أن ينام… أغمض عينيه ليطرد من خاطره كل تفكير في تلك الجرائم المتباينة التي أجرى تحقيقها في يومه، ولكن محاولاته باءت بالفشل!.. تزاحمت في مخيلته صور الأحداث العديدة، ووسائل المجرمين في ارتكابها… فقد عاش في زحامها في الليلة الماضية يراجع أوراق التحقيق، ويكتب المذكرات بما يراه في شأن التصرف فيها، لعرضها في الغد على رئيس نيابة الزقازيق…

كان يعالج النوم –ولو لفترة قصيرة- ولكن عشرات السجائر، وفناجين القهوة التي التهمها في يومه وقفت حائلاً بينه وبين النوم…

وحملق المسكين عبر أنسجة الظلام الكثيفة المخيمة على غرفة نومه في الساعة الكبيرة المعلقة على الحائط، وهي تدق إيذانًا ببلوغ الرابعة صباحًا…

وبينما هو على حاله من الرغبة في الراحة، وخيبة الأمل في الحصول عليها، إذا بالباب يطرق طرقات اعتادها من قبل… فنهض من فراشه في تثاقل، وأضاء هو الغرفة، واتجه إلى الباب ففتحه… وإذا بالطارق أحد رجال البوليس الذي بادر وكيل النيابة بتحية عسكرية وهو يقول:

– صباح الخير يا سعادة البيه.

ورد وكيل النيابة في عصبية وهو يمد يده ليختطف الورقة التي كانت بيد رجل البوليس:

– صباح الخير…

واستطرد رجل البوليس:

– إشارة لسعادتك بوقوع جناية قتل…

وقال وكيل النيابة وهو لا يزال يطالع الإشارة:

– جهز سيارة أجرة… ونبه على كاتب التحقيق بالانتظار…

ثم أغلق الباب خلف رجل البوليس الذي كان يؤدي التحية وهو ينصرف.

وقرأ وكيل النيابة (الإشارة):

(… بينما كان شيخ الخفراء يمر بناحية (…) متفقدًا حالة الأمن إذا به يسمع صفيرًا في حوالي الساعة الثالثة صباحًا، فلما توجه إلى مصدر الصوت وجد الخفير (عمر) ينبئه بوقوع جريمة في منزل (الشيخ عبد البصير حماد)… وطرقوا الباب… ففتح (حمدان) ابن الشيخ عبد البصير… فلما دخلوا شاهدوا الشيخ عبد البصير غارقًا في بركة من الدماء، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة، بينما وقف حمدان –وبيده سكين تقطر دمًا- يحملق في جثة أبيه في ذهول… فلما سأله شيخ الخفراء عمن ارتكب الحادث اعترف بارتكابه، وعلله بوجود علاقة آثمة بين زوجته (نبوية) وبين القتيل… وقد ضبط القاتل، والسلاح المستعمل في الجريمة… وجاري التحفظ على المتهم… وعلى جثة القتيل –الإمضاء: العمدة).

وانتقل وكيل النيابة إلى البلدة التي وقعت فيها الجناية وشق طريقه إلى مسرح الجريمة وسط جموع الفلاحين الذين تجمهروا وهم يتكهنون بأسباب الجريمة والدوافع التي دفعت الابن إلى قتل أبيه على هذه الصورة البشعة.

وشاهد وكيل النيابة جثة القتيل مسجاة على الأرض، وقد نزفت منها دماء غزيرة، وكشف عن مواضع الإصابات النافذة فيها، وأثبت في محضره ما شاهده من الضربات في الصدر والبطن… وسأل المتهم شفويًا عن التهمة، فاعترف بها، ونفى اشتراك أحد معه فيها… وسأله المحقق شفويًا كذلك عما دعاه إلى ارتكاب هذه الجناية فأجاب بأنه اكتشف علاقة شائنة بين القتيل وبين زوجته نبوية…!

وراح وكيل النيابة يسأل شهود الإثبات.

فذكر شيخ الخفراء أنه بينما كان يتفقد حالة الأمن في شوارع القرية وأزقتها سمع صوت صفارة أميرية ينبعث من الناحية الشرقية للقرية… وعلى أثر ذلك جرى إلى مصدر الصوت، وجرى في أثره بعض الخفراء…

وفي مكان الحادث قابلهم الخفير عمر الذي أخبرهم بأنه سمع امرأة تستغيث من بيت الشيخ (عبد البصير حماد)… فطرق الباب عدة طرقات غير أن أحداً لم يفتح الباب… ولكن الصيحات لم تنقطع… فأطلق صفارته ليخف إليه زملاؤه.

واتجه إلى الباب وراح يطرقه بعنف وشدة وهو يصيح:

– افتح (يا حمدان)… يا شيخ عبد البصير افتح… أنا شيخ الخفر…

وفتح الباب ودخل شيخ الخفراء وزملاؤه ومن تجمع على أصوات الاستغاثة إلى صحن الدار، فإذا بهم يشاهدون الشيخ عبد البصير غارقًا في بركة من الدماء وليس فيه عرق واحد ينبص بالحياة…!

وقال أنه سأل (حمدان) ابن القتيل، من قتل أباه، فاعترف بأنه القاتل، وشهدت زوجته (نبوية) بذلك وهي التي كانت تستغيث!..

وأجاب على سؤال للمحقق بأن القاتل علل الجريمة بأنه اكتشف وجود علاقة آثمة بين زوجته (نبوية) وبين والده القتيل!

وسأله المحقق هل كان يعلم بوجود علاقة مريبة بين نبوية والقتيل كما يقرر المتهم، فأجاب شيخ الخفراء بأن الذي يعلمه أن الشيخ عبد البصير رجل يناهز الستين، وله أولاد كثيرون من زوجات ثلاث… وأنه يقيم مع حمدان ابنه من زوجته الأخيرة التي توفيت قبل زواج حمدان بنبوية… وأنه شخصيًا لا يعتقد بوجود علاقة كهذه فإن القتيل كان رجلا متدينًا يقرأ القرآن، ويؤم الناس للصلاة أحيانًا.

وقرر الخفير عمر وزملاؤه مثلما قرر شيخ الخفراء، وأيدوه في حماسة ظاهرة فيما أدلى به عن القتيل.

وجاء دور نبوية… فقررت أنها استيقظت بعد منتصف الليل على أثر سماعها مناقشة حادة بين المتهم وبين والده، وأنها كانت في دهشة لعودة زوجها من الحقل وهو الذي كان قد ذكر أنه سيبيت الليلة ساهرا على ري الأرض… واحتدم النقاش بين الابن وأبيه وكانت تسمع زوجها وهو يردد اسمها في مناقشاته.. وعلى الأثر شاهدت زوجها يستل سكينًا حادة ويهوى بها على أبيه حتى أفقده الحياة… وخشيت أن يقتلها زوجها، وهو على تلك الصورة من الهياج، فأخذت تستغيث فقدم الخفراء على صوت استغاثتها.

وسألها المحقق هل كانت حقيقة على علاقة بالقتيل فأجابت بأنها كانت تتوفر على خدمة المجني عليه والعناية بشئونه باعتباره والد زوجها، وأن القتيل كان معجبًا برعايتها له، وكان يطيب له أن يتحدث إليها ويطيل الحديث معها، وأنها كانت تجاريه في الاستماع والمناقشة، ولكن الصلة لم تتعد هذا.

ورغم أنه لم تكن هناك صعوبة أمام وكيل النيابة المحقق، فقد يسر المتهم باعترافه السبيل أمامه لإيصال خيوط الجناية بعضها ببعض بحيث تتشابك وتتماسك رغم ذلك كله، فقد أحس شعورًا عميقًا يدفعه إلى أن يتغلغل في كشف أسرار هذه المأساة التي انتهت بتقويض صرح أسرة بأكملها…

***

كان جمال نبوية أغنية عذبة تتردد في أفواه شباب القرية، وتردد صداها جميع أنحاء القرى المجاورة… وكان الشبان يتهافتون على طلب الزواج بها، وكانت هي تحس بما يجول بخواطر الشبان وتستمع في نشوة إلى حديثهم عن جمالها، وفتنتها… فتزداد زهوًا وخيلاء.

فقد كانت نبوية بحق مثالًا رائعًا للجمال، والأنوثة، والفتنة الطاغية…

فلما رآها حمدان الابن الأصغر للشيخ عبد البصير حماد افتتن بها، وراح يلح في طلب الزواج منها.

وكان الشيخ عبد البصير قد أحس بفراغ حياته بعد أن توفيت زوجته الثالثة أم حمدان فاستغل ابنه الأصغر هذا الفراغ ليقنع أباه بالموافقة على زواجه من نبوية…

ووافق الشيخ عبد البصير حماد، وزفت نبوية إلى حمدان.

مرة أخرى دبت في هذا البيت الصامت روح المرأة وحيويتها… وكانت نبوية تبالغ في الاهتمام بالشيخ عبد البصير وتشرف بنفسها على إطعامه، ووضوئه، وحاجاته المختلفة.

وكان حمدان يلاحظ مظاهر هذه العناية فتتحرك في أعماقه مشاعر الغيرة، إلا أن أنه سرعان ما كان يفسر هذا الاهتمام تفسيرًا طيبًا يضع حدًا لغيرته.

وازدادت عناية نبوية بالشيخ عبد البصير… فطال حديثهما معًا وانقطعت صلات الشيخ عبد البصير بأصحابه من رواد المسجد وانفضت جلسات المصطبة التي كانت تنعقد في أصيل كل يوم وتدور فيها أحاديث السياسة، وشئون الزارعة، وأمور الدين والدنيا، والشيخ عبد البصير فيها هو صاحب الرأي، وموطن الفتوى، وموضع الحكمة.

انقطع عن الناس فأخذوا يتحدثون عن علة تغيبه، وراحوا يستقصون ويتجسسون عن علة قضائه جل وقته في البيت لا يبرحه إلا في القليل النادر..

وتحدث الخبثاء من أهل القرية، وانطلق خيالهم يصور علاقة آثمة بين الشيخ وبين زوجة ابنه الفاتنة.

وسرت هذه الشائعة في القرية كلها، وانتشر دخانها في القرى المجاورة.

وبلغ حديث الناس عن علاقة الشيخ بزوجة ابنه حمدان أكبر أولاده الكبار من زوجتيه الأوليين الذين كانوا ينفردون بحياة مستقلة.

وفكروا في الأمر، وانتهوا إلى أن أباهم الشيخ المحطم قد وقع في غرام زوجة أخيهم حمدان، وأن هذا سوف يؤدي من غير شك إلى أن يخص الرجل بكل ثروته، أو بالكثير منها زوجة ابنه الفاتنة ومن ثم يضيع حقهم الشرعي فيها فقر قرارهم على أن يقيموا دعوى الحجر على أبيهم…!

وأقام إخوة حمدان أمام المحكمة الحسبية بالزقازيق دعوى على أبيهم يطلبون فيها الحكم بالحجر عليه، واستندوا في ذلك إلى أنه وقع في غرام زوجة ابنه حمدان وأنه ينفق عليها ببذخ حتى أوشكت ثروته أن تذهب بددًا..

وتناضل الطرفان في ساحة القضاء…

وسرت الشائعات مع هذا النضال حتى أصبح غرام الشيخ بزوجة ابنه حديث الناس جميعًا، وهم في ذلك بين مصدق ومكذب وحيكت الأقاصيص حول هذا الغرام الشاذ…

وكان صدر حمدان يشتعل غيرة وحقدًا… فقد وصل إلى أسماعه حديث الناس كالرعد.. فبات هو مع الشك تتجسم في خواطره أشباح الخيانة والغدر…!

وفي مساء الجريمة تظاهر بأنه سيمضي الليل ساهرًا في الحقل ليباشر شئون الري…

وما كاد الليل ينتصف ويلف القرية في ظلام شامل وصمت عميق، حتى تسلل حمدان إلى داره، وفتح الباب في خفة وقد أعد نفسه إعدادًا كاملًا لما سيقبل عليه من جرم حين يضبط أباه وزوجته متلبسين بالخيانة…

وما كان حمدان يتوسط فناء المنزل حتى لمح أباه يتسلل خارجًا من غرفة نومه..

وعندئذ تجسم في خاطره شبح الخيانة في صورة أذهلته وروعته!..

وناقش الابن أباه عن علة وجوده في حجرة نومه في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

ولأول مرة يسمع الأب مناقشة حادة وحديثًا جافًا من ابنه… ومع ذلك رد على ابنه معللًا أنه كان قد ترك مسبحته بحجرته أثناء وجوده فيها حتى العشاء، وأنه لم يرد أن يوقظ نبوية، فتسلل إلى الحجرة لاستحضار المسبحة…!

وثار الابن على أبيه، واتهمه بالخيانة، ولأول مرة يسمع الأب الشيخ طعنًا من ابنه، فانفجر يدافع عن كرامته…

ولكن الشك كان يدفع حمدان إلى ارتكاب الجناية دفعًا… فاستل سكينًا كانت مخبأة في ملابسه، وانهال على أبيه طعنًا ولم يتركه حتى خمدت أنفاسه!

وأحست نبوية بهول ما حدث فتسللت خارج الغرفة وهي تتوجس من زوجها القاتل خيفة وراحت تستغيث وهي تجري إلى سطح المنزل حتى جاء الخفراء والجيران على استغاثتها وضبطوا المتهم…

وجاء تقرير الطبيب الشرعي ينفي حدوث علاقة آثمة بين المجني عليه وزوجة ابنه!

وقدم حمدان إلى محكمة جنايات الزقازيق متهمًا بقتل أبيه الشيخ عبد البصير حماد مع سبق الإصرار والترصد، فقضت بمعاقبته بالأشغال الشاقة خمسة عشر عامًا.

 

وتقدمت نبوية فاتنة القرية إلى المحكمة الشرعية تطلب الحكم بتطليقها من زوجها المحكوم عليه فقضت المحكمة بتطليقها… وهكذا أطاح الشك القاتل بكيان الأسرة السعيدة وأطاره شعاعًا!

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *