للدكتور لويس بيش
الطبيب النفسي ومؤلف كتاب (المرض النفسي طريق إلى السعادة)
معظم الناس يظنون أنهم منتبهون للطريقة التي تعمل بها عقولهم، وأن إرادتهم هي المسيطرة على أفكارهم وانفعالاتهم؛ وأنهم يعلمون تمام العلم لماذا يفكرون في هذا الشيء أو ذاك، ويعرفون كل ما يدور في رؤوسهم.. ولكن اسمحوا لي أن أراجع معكم هذا الاعتقاد..
كثيرًا ما يصبح علينا الصباح، فنجد اليوم مشرقًا جميلًا ونذهب إلى عملنا ونحن في غاية من السرور، لا يشغل بالنا سوى المكان الذي سوف نقضي فيه سهرة المساء، ويخيل إلينا أننا في سلام مع الحياة ومع أنفسنا.. ثم ينتصف النهار، وبغير أي مقدمات يشعر الواحد منا بكآبة لا يعرف مصدرها!.
وأحيانًا ينقضي الليل كله والنوم يجافينا بلا سبب واضح نعزو إليه الأرق الذي يضايقنا… أو نرى في أحلامنا رؤى طويلة، فإذا ما طلع علينا النهار لا نتذكر منها سوى نتفًا مبسترة، ويمضي اليوم كله وأنت مجهد مضطرب دون أن تعرف أبدًا ماذا يضايقك.
وقد توجد وسط جماعة من الناس، فتتشعب بينكم موضوعات الحديث، وعلى حين غرة يرتفع صوتك في حدة وحنق.. وتعجب لنفسك لماذا تصرفت مثل هذا التصرف الشاذ!.
إن هذا هو الوصف الصادق لما يمكن أن تفعله بك انفعالاتك.
أجل؛ إن انفعالاتك قد تقلبك رأسًا على عقب بطرق كثيرة متباينة، وفي اللحظات التي لا تتوقع فيها هذا أبدًا..
إنك قد تمقت أحد جيرانك لمجرد اعتقادك أنه المسئول عن قذارة مدخل البيت الذي تسكن فيه… وتتضايق أحيانًا من أبيك، أو أمك، أو أحد أقاربك.. وأحيانًا تلتقي بشخص غريب عنك للمرة الأولى فتشعر نحوه بكراهية غريبة.. وقد تكون أحد أولئك الذين يعبدون الأطفال الصغار، بيد أنك في لحظة معينة لا تطيق سماع صوتهم… ثم ألا تثور في بعض الأوقات في وجه خادم المطعم الذي تأكل فيه بحجة أن تصرفاته مزعجة مضايقة؟.
وما أكثر الذين تلح عليهم فكرة الموت، فتبدد أمنهم حين تنعكس في كل تصرفاتهم، حتى ليخشون عبور الشارع، أو ركوب السيارة.. وبعض الناس عندما تصلهم أخبار الاضطرابات السائدة في العالم يضطربون لها بدورهم، ويفكرون في مدى الدمار الذي يمكن أن تسببه القنبلة الذرية أو الصواريخ الموجهة.. فهل تعتقد أن مثل هؤلاء تخضع تصرفاتهم لمنطق العقل. أم أنك ترى بوضوح مدى انقيادهم لانفعالاتهم الهوجاء؟ الذي لاشك فيه أن انفعالاتهم هي التي تقودهم في هذه الحالة..
وعلم النفس الحديث يفرق بين العقل والانفعال.. وأقصد بالعقل ذلك الجزء المنطقي الذي يؤمن بالسبب والنتيجة ويستخدم الإرادة في تنفيذ أغراضه.. وأما الانفعال فأعني به (الشعور) بكل درجاته وظلاله النفسية: من الإحساس العميق بالأسى والقنوط إلى الشعور باكتمال السرور..
والسؤال الذي يهمنا هو: هل هناك ثمة عملية عقلية يمكن لها أن تخلو نهائيًا من أي شائبة من شوائب الانفعال؟.
إننا نشعر بانفعالاتنا متى كانت واضحة قوية، فنتنبه لمن نحبه أو نكرهه، أو نغضب منه؛ ولكن حين تغمض هذه الانفعالات فإننا لا نعيها رغم أنها تؤثر في كل تصرفاتنا.
جاءتني ذات يوم سيدة جاوزت الحلقة الرابعة من عمرها، وشكت لي أنها تشعر في الآونة الأخيرة بعدم الارتياح، فهي بَرِمَةٌ ببيتها، متضجرة بمن فيه، تثور فيهم ويرتفع صوتها عاليًا بين الفينة والفينة. وأعربت لي عن دهشتها لهذه الحالة التي انتابتها وهي التي عرف عنها الحلم ودماثة الخلق.
وسألتها هل جد ما يضايقها خلال الأسابيع القليلة الماضية فأجابت:
– أبدًا.. لقد فكرت مليًا.. ولكنني أؤكد لك أنه لم يحدث شيء قط جدير بإثارة غضبي. وسألتها:
– لعلك قرأت كتابًا أو استمتعت إلى تمثيلية من تمثيليات الإذاعة تركت بعض آثارها في نفسك؟
ومرة أخرى أكدت لي أن شيئًا من هذا لم يحدث.. وسألتها:
– هل ثمة مضايقات من قبل زوجك أو أحد أولادك تنغص عليك حياتك العائلية؟
وللمرة الثالثة أجابت السيدة بالنفي، ثم قالت:
– إن حياتي موفقة، وأنا أعتني بشئون منزلي، ولا أزور أحدًا إلا في النادر.. وهذا ما يثير حيرتي، لماذا أجد نفسي مضطربة تحتدم انفعالاتي بدون سبب؟! لعلها.. ولكن لا أظن.. فليس ما حدث لي في (المترو) مما يسبب مثل هذا الاضطراب…
ورغم أنها ابتسمت وهي تلقي بجملتها الأخيرة إلا إنني لاحظت ارتباكها وقلقها.. والذي حدث أنها كتمت ضحكتها وتدافع الدم إلى وجنتيها، وبدت كمن يعاني ترددًا كبيرًا.. وشجعتها على الحديث قائلًا:
– خبريني بما حدث، فلعل فيه سبب مشكلتك
– سأحاول.. وإن كنت خجلة من الأمر كله.. لقد غازلني أحدهم.. وها قد أخبرتك، ولست أدري أأبكي بعد ذلك أن أضحك!.
كانت محدثتي سيدة محترمة ترعى بيتها وأولادها. وقد ظنت أن سن الغزل واللهو قد ولت منذ زمن، حتى جاء ذلك الرجل فأثار في داخلها أحاسيس المرأة عندما تشعر أنها لا تزال جميلة مرغوبًا فيها. ولما كان تقبلها لمثل هذه الأمور داعيًا لاحتقارها لنفسها وهي السيدة المتزوجة ذات الأولاد، فقد كبتت أفكارها، وكان هذا سببًا في كل ما أعقب ذلك من اضطراب.
وهكذا نحن في سلوكنا.. إننا نكبت الاستجابات الانفعالية التي تثير فينا الشعور بالذنب، ونبذل الكثير لكي ننفذها وننساها. والواقع أننا لا ننساها، ولكنها تبقى في داخلنا كالطاقة الحبيسة تبحث دائمًا عن منفذ مباشر أو غير مباشر لتخرج منه.
فحاول دائمًا أن ترجع بذاكرتك إلى الوراء، عندما تشعر بالحيرة فلا تعرف سببًا لما يثور بداخل رأسك من أفكار، وما تقوم به من أفعال.. اسأل نفسك ما هو الحدث الذي جابهك خلال الأيام أو الأسابيع السالفة. هل عانيت صدمة انفعالية من أي نوع؟ هل فقدت ما تتمتع به من حب؟ ما الذي يقلقك؟.
إن فترة من التفكير كفيلة بأن تجعلك تتذكر، وبعدها سوف تعرف حتمًا السبب اللاشعوري لقلقك، وتوترك، وحزنك، وفقدانك لثقتك بنفسك، بل وأيضًا شعورك بالخوف.
والاضطرابات الانفعالية ليست لا شعورية على الدوام، فالواقع أن معظمها صادر عن الشعور، وأنت تعلمها حق العلم، بل تستطيع أيضًا أن تجد لها المخرج الصحيح.
فلنفترض مثلًا أن سماعك أخبار العالم وما يسوده من قلاقل يخلق فيك حالة من التوتر الانفعالي. إن علاجك في هذه الحالة أن تكف عن الاستماع! واعلم أن معلقي الإذاعة يضخمون الأحداث بصورة غريبة، فليس أمامك إذن إلا أن تتفحصها بتعقل، أو تكف عن الاستماع إليها بالمرة..
وكذلك الحال بالنسبة للعناوين المثيرة الكبيرة التي نطالعها في الجرائد والمجلات.. لا تبالغ في الاهتمام بها معرضًا نفسك لأن تكون إمعة تصدق كل ما يوحى به إليك. فكر بنفسك، وانتقِ من الأخبار ما يلاءم منطقك وتقديرك للأمور.. وأنا واثق من حسن تقديرك.
وإذا كانت الكتب والأفلام السينمائية مما يسبب لك القلق، فحاول أن تكون حريصًا في انتقائك.. دع عقلك يرشدك، ولا تمتثل لانفعالاتك بلا فحص أو تمحيص، وسوف تجني من وراء ذلك نتائج مدهشة.
ولا تتح الفرصة لأصدقائك أو رفاقك في العمل كي يضايقوك. ولا تهتم بما قد يوجهونه إليك من نقد أو تعليق ينطوي على الغيرة أو الحقد. فإن ذلك مدعاة لكي تدرس الناس، وتتفهم دوافع سلوكهم، وعندئذ تغدو أكثر تسامحًا.. وتذكر قول روبرت لويس ستيفنسون (كلما ازددت قوة ازدادت رغبة الناس في إيلامي!).
فلا تندفع في خصومة شديدة مع أحد أصدقائك، لأنك إذا راجعت نفسك لرأيت أن الأمر لا يزيد عن عبث الأطفال.. ولكنك لا تفعل هذا؛ بل تنفعل أولًا ثم تفكر بعد هذا؛ وكل ما أطلبه منك أن تقلب الآية فتتحكم في عواطفك أولًا.
شكا لي رجل من رجال الأعمال من أنه سريع الانفعال، فاقد لسيطرته على نفسه، فنصحته أن يفكر مرتين قبل أن يقدم على أي عمل.. ولم تمض إلا أسابيع قليلة ثم جاءني يقول:
– لقد كان الأمر صعبًا في بدايته يا دكتور، فقد كنت أضغط على نفسي كي أكبح جماح لساني ولا ألقي بآرائي المتعسفة.. ولكنني تعودت ذلك حتى أصبح معاوني في العمل ينظرون إلىَّ في دهشة وعجب! ويخيل إلىَّ أن أحدًا لن يستطيع بعد اليوم أن يحرك مني ساكنًا!..
وهذه امرأة من النوع الثرثار الذي يجعل من الحبة قبة قالت لي ذات يوم:
– إنني أشبه بالطفل.. كثيرة الحديث، سريعة الاستهواء، ويبدو أن عواطفي فجة لم تنضج بعد.
ونصحتها أن تفكر بعقلها قبل أن تندفع في الحديث، وأتى ذلك بنتائج باهرة. والواقع أن هذه السيدة اتبعت تعليماتي بدقة صارمة حتى أنني حذرتها من التمادي في ذلك، لأن التزمت كالإفراط في تسبيب الأضرار.
وأحب في النهاية أن أشير إلى أثر الجانب الفسيولوجي في موضعنا هذا. فأحيانًا يسبب نقص الفيتامينات، أو المجهود الضخم هذا الانفعال الثائر الذي يحدث بلا روية أو تعقل..
إن الانفعال أمر مرغوب فيه.. ولكنه يغدو عبثًا ثقيلًا إذا كان هو المسيطر الأوحد. فراقب نفسك وادرس استجاباتك وسلوكك، ثم لا تتهاون إذا وجدت أنك تندفع في تيار الانفعالات بلا تبصر أو سند من عقل أو منطق.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق