دكتورة رمزية الغريب
أستاذة علم النفس بكلية البنات بجامعة عين شمس
حين ينقلب طفلك عصبيًّا كثير البكاء، هل تدركين السبب؟. وحين تعتريه اللعثمة والتهتهة فجأة، هل تعرفين لماذا؟.. وحين يعاند أو يشاغب، أو يخرب هل تعلمين الدافع؟.. في هذا المكان تلتقي بك مرة كل شهر أخصائية نفسية جمعت إلى العلم الغزير، الخبرة العملية الطويلة لتحدثك عن طفلك، وتلقى ضوءًا غامرًا على ما غمض عليك فهمه من سلوكه وتصرفاته…
أعتقد أن أهم خدمات علم النفس للمجتمع هي تلك التي يقدمها للأم لمساعدتها في تربية أبنائها، عدة المستقبل، ومعقد آمال الأمة..
وما أحوج الأم إلى هذه المساعدة. فكلنا يعلم أن كثيرًا من الأمهات تصادفهن أثناء قيامهن بعملهن الجليل، صعاب ومشكلات يعجزن عن حلها فيتخبطن ويصطدمن بإرادة الأطفال، وكثيرًا ما تكون النتيجة في غير صالح الطفل…
ذلك أن عملية النمو عملية معقدة دقيقة كثيرًا ما تحير الأم وتسبب لها قلقًا لا مبرر له. فالأم التي ترقب نمو طفلها قد ينتابها القلق حين تتبين أن طفلها يتلكأ في مرحلة من مراحل النمو فيحتفظ بمميزات السلوك الخاص بها، كاحتفاظه بعادة مص الأصابع، أو استعمال (التتينة) قبيل النوم بضع سنوات بعد فطامه!
ولدينا أمثلة كثيرة عن هذه المشكلات سأضرب لكم بعضًا منها، وكلها مستمدة من خبرتي كأخصائية نفسية:
* طفلة في الثالثة والنصف من عمرها من أب مصري وأم اسكتلندية. بدأت حياتها وديعة قليلة البكاء، مطيعة، وتعلمت المشي في نهاية السنة الأولى.
وكانت سريعة في نموها اللغوي سرعة أدهشت والديها، فكثيرًا ما كانت تستعمل كلمات لغوية ضخمة صحيحة مثل (مع ذلك)، (كأنما)، وغيرهما.
تحولت هذه الطفلة بعد ولادة أخ لها إلى طفلة عصبية، كثيرة البكاء والشكوى ولجأت إلى تقليد المولود في طريقة بكائه، كما تحولت من المشي إلى (الحبو) في كثير من المناسبات!
فما أسباب التحول؟ وكيف المساعد الأم طفلتها؟
• طفل في الثانية والنصف من عمره من أبوين متعلمين تعليمًا عاليًا. لم تدع الأم سبيلًا للعناية بطفلها إلا اتبعته. تعلم المشي في نهاية السنة الأولى، وكان تقدمه اللغوي لا بأس به، ولكنها فوجئت في نهاية السنة الثالثة من عمره بأنه لجأ إلى التهتهة، والفأفأة بعد أن كان يعبر عن نفسه بطلاقة نسبية قبل ذلك.
فما أسباب هذا السلوك؟ وماذا ستفعل إزاءه؟
• طفلة في الثالثة من عمرها من أبوين متعلمين، الأم تعمل مدرسة في إحدى المدارس الثانوية، حيث يضطرها عملها إلى تركها طويلًا أثناء النهار. بدأت الطفلة الوحيدة حياتها عصبية كثيرة البكاء، وكثيرة الاستيقاظ من نومها أثناء الليل، ولكن حالتها الصحية العامة كانت على ما يرام… لاحظت أمها أنها اتجهت نحو العناد منذ سن الثانية والنصف، فلما بلغت الثالثة، كانت لا تطيع لها أمرًا، بل تفعل دائمًا عكس ما يطلب منها، ثم امتنعت عن تناول طعام كافٍ لنموها. وكانت أمها كلما حاولت إرغامها على الأكل بكت وازدادت عنادًا، فإذا تركتها وشأنها بقيت ما يقرب من يومين دون تناول شيء من الطعام!
أليست هذه المشكلة كفيلة بإقلاق أي أم؟ وكيف السبيل إلى حلها؟
• طفلة في الثالثة من أبوين متعلمين، منعتها أمها من استخدام (البزازة) فاستعاضت عنها بأصبعها، ودأبت على مصه طول اليوم: وحار الأبوان في منع الطفلة عن تلك العادة، وحاولت الأم وضع مادة مرة على أصبعها فكانت الطفلة تمسحه أو تغسله ثم تعود إلى مصه!
• طفل في التاسعة من عمره جاءتني أمه تشكو رفض مدارس المرحلة الأولى له. وبدراسة حالته اتضح أنه من أسرة مقتدرة ويشغل والده مركزًا محترمًا في إحدى الوزارات، وأن له إخوة أكبر منه وأصغر، وكان رغم تأخره الدراسي الشديد، مخربًا لدرجة اضطرت معها المدرسة إلى فصله، وضجت أمه شاكية من حبه للتخريب، ومن قسوته على إخوته…
هذه كلها أمثلة لمشكلات في حياة الأطفال بعضها سطحي بسيط، وبعضها معقد أشد التعقيد. فما الأسباب التي أدت إلى ظهورها؟ ثم هل من الضروري لحدوثها أن يكون الطفل في نزاع مع نفسه يعاني مشكلة حقيقية يحاول التغلب عليها؟ أم إن بعض الصعوبات التي كثيرًا ما تصادف كلًّا من الأم والطفل أثناء النمو ما هي إلا مظهر من مظاهر النمو الطبيعية؟ ثم متى تسمى تلك الصعوبة مشكلة بكل ما تتضمنها الكلمة من معانٍ؟ وهل هناك طريقة لتجنب حدوث المشكلات وسير عملية النمو سيرًا طبيعيًّا بقدر الإمكان؟
يجيب علم النفس عن هذه الأسئلة بعد دراسة الأسباب والمسببات، ثم يصف الحلول فيقدم بذلك للأسرة والمجتمع أجل الخدمات.
خدمات علم النفس للأم والأسرة
ونظرًا لضيق المقام سأعرض عرضًا سريعًا لبعض خدمات علم النفس للأم وللأسرة، وألخصها فيما يلي:
• يعمل علم النفس على تدعيم العلاقة بين الأم وأطفالها، وعلى توفير جو من المحبة والطمأنينة الضرورية لتكيف الأطفال للمجتمع وسلامة نموهم، وصحتهم الجسمية والنفسية.
• يبصر الأم بطبيعة الطفولة في مراحل النمو المتصلة الحلقات فتعلم مثلًا أن الطفل ميال إلى التحرر من القيود ليسهل عليه تحريك يديه ورجليه فلا تكثر من تقييده بالأربطة والملابس… كما تعلم أن من الطبيعي عند طفل الثالثة أن يظهر قدرًا من العناد كمظهر من مظاهر اعتداده بذاته… وأن الفتاة المراهقة تميل إلى العناية بمظهرها وزينتها وأن عليها ألا تكثر من نقدها وزجرها كلما رأتها أمام المرآة… إلخ.
• يقدم علم النفس للأسرة خدمات جليلة بمساعدة (الطفل المشكل) من رواد عيادات الإرشاد ومحاكم الأحداث، وذلك بتشخيص وعلاج مظاهر السلوك المشكل الذي يفسد حياة الطفل والأسرة بل المجتمع.
• يقدم علم النفس للأسرة والمجتمع مساعدته في تربية الأبناء تربية تضمن للفرد السعادة وللمجتمع الترابط، وذلك بشرح الأسس التي تتحكم في عملية التعلم الناجحة والتي تراعي استعدادات الفرد وحاجاته، وحاجات الجماعة على حد سواء.
تدعيم العلاقة بين الأم والطفل
ولقد أثبتت دراسات (سيكولوجية) الطفولة، ودراسة النمو، أن كثيرًا من الصعوبات التي تواجه الطفل قبل ذهابه إلى المدرسة ترجع إلى علاقة الطفل بوالديه وعلى الأخص بأمه، وعلى مدى ما توفر له من محبة وأمان. وبرغم أن علاقة المحبة بين الطفل وأمه علاقة طبيعية، فإنها لا تخلو من شعور بالخوف أو بالقلق، وفي بعض الأحيان يتطور القلق والخوف إلى شعور بنوع من الخيبة والتوتر.
فالطفل يولد مخلوقًا ضعيفًا عديم الحيلة، يعتمد على أمه في كل شيء فهي تحنو عليه، وترضعه وتنظفه، تدلله، وترى فيه محط آمالها، ومعقد رجائها، وتحاول أن تجعل منه صورة من أبويه، أو من شخص تريد أن يتمثل به…
ولكنها لا تلبث أن تكتشف أن الطفل لم يحقق كل ما ترجوه منه بل أخفق في الوصول إلى المستوى الذي ترتضيه له فهو مثلًا متأخر في اكتساب الذخيرة اللغوية إذا ما قارنته بطفل صديقة أو جارة لها… أو هو أخفق في السيطرة على عضلات المثانة فاعتاد أن يبلل الفراش أثناء نومه… أو هو كثير الانفجارات الانفعالية يصرخ لأتفه الأسباب، ويضرب من أمامه بما في يديه… فإذا تقدمت به السن، وأصبح قادرًا على اللعب مع زملائه من الأطفال في مثل سنه وجدته كثير المشاغبة والصراخ، والعويل، والاعتداء على الآخرين.
فهذه العوامل كلها من شأنها أن تضايق الأم وتقلقها، وقد تزعزع ثقتها بنفسها فتلوم نفسها على ما تزعمه إخفاقًا، وكثيرًا ما ينتابها شعور بالتوتر الناتج عن عدم تحقيق حاجاتها المرتبطة بطفلها.
وهذا الموقف وهذا الشعور كثيرًا ما يحيران الأم، فتقسو أحيانًا، وتلين أخرى، وتسلك مع الطفل سلوكًا يسيء على العلاقة بينها وبينه دون أن تشعر، فتكثر من نقده، وربما تلجأ إلى العنف لإرغامه على الإقلاع عن نوع من السلوك لا ترتضيه، وقد تجرح شعوره جرحًا بالغًا دون أن تدري إذا عيرته بإخفاقه في المدرسة مثلًا وقارنته بأخته الأصغر، وهكذا تزداد العلاقة بين الأم وولدها توترًا قد يؤدي إلى صعوبة تكيفه للوسط الذي يعيش فيه.
هذا من جهة الأم. أما من جهة الطفل، فإنه يبدأ حياته مخلوقًا عديم الحيلة كما قلنا يعتمد على أمه في كل شيء، ويرى فيها جزءًا من ذاته، ولكنه لا يلبث أن يكتشف أنها لا تستطيع أن تكون بجانبه دائمًا، ولا أن تحقق له رغباته كلها، وهنا يبدأ شعوره بذاته، وبأن له إرادة غير إرادتها.
وكلما زاد نموه زادت حاجاته ورغباته. ولا يلبث أن يكتشف أن أمه تريد أن ترغمه على أن يتبع طريقًا خاصًا في الحياة يتعارض -في نظره- مع ما يريد فيأخذ في مقاومتها بطرق تختلف باختلاف عمق شعور الخيبة والتوتر الناتج من وقوف أعز مخلوق لديه في طريق رغباته.
ومن ذلك نرى أن العلاقة بين الأم وأطفالها على جانب كبير من التعقيد، وأن من السهل تعكير جو المحبة والأمان الذي يسود الأسرة، وأن مهمة الأم شاقة تتطلب منها مجهودًا جسمانيًّا وعقليًّا ونفسيًّا على حد سواء.. ومن هنا كانت الجنة تحت أقدام الأمهات!
ونصيحة علم النفس لكل أم: أن تترك القلق جانبًا، وأن تعلم أن كثيرًا مما تتصوره مشكلًا وداعيًا إلى القلق في تصرفات أبنائها، كثيرًا ما يكون مظهرًا عابرًا وقتيًّا، كما أنه قد يكون مظهرًا طبيعيًّا لعملية النمو في وقت ما.
ستة أسس للتربية السليمة
ويمكننا أن نضمن للأم التخلص من معظم الصعوبات التي تواجهها في تربية أبنائها إذا ما اتبعت الأسس الآتية:
• توفير عامل المحبة والأمان لأسرتها. فالإنسان محتاج إلى المحبة، صغيرًا كان أم يافعًا. وهي عامل فعال من عوامل النمو النفسي والفسيولوجي.
• قبول أبنائها على علاتهم كأطفال يسير كل منهم في نموه وفي انتقاله من مرحلة إلى أخرى على طريقته الخاصة، ولا سبيل إلى مقارنته بغيره، وتعييره بما أخفق فيه دون الآخرين… ولتعلم الأم أنه من النادر، بل من المستحيل أن يتفق أخوان في نموهما وفي مظاهر سلوكهما اتفاقًا تامًا…
• أن تكون متزنة في معاملتها لأبنائها، فلا تسرف في العقاب والشدة حينًا، ثم تفرط في اللين وإظهار المحبة أحيانًا، فذلك يؤدي إلى زعزعة عامل الأمان والاطمئنان عند الطفل.
• إشباع حاجة أبنائها إلى رضائها واستحسانها. فالطفل محتاج إلى التأكد من رضاء والدته عن تصرفاته واستحسانها لأعماله وهي حاجة مهمة لأنها خطوة أساسية في الاعتداد بالذات.
• الإلمام بأهم خصائص نمو الطفل في كل مرحلة من مراحل النمو.
• استشارة أخصائي نفساني إذا لاحظت على وليدها شذوذًا كبيرًا في السلوك يؤدي إلى عدم تكيفه للوسط.
لا تعليق