إن أي قاض في هذا العالم لا يستطيع أن يحكم

عليك بمثل العذاب الذي توقعه أنت على نفسك.

للدكتور: لويس بيش

الطبيب النفسي ومؤلف كتاب (المرض النفسي طريق إلى السعادة)

بعض الناس يوقعون الألم بأنفسهم سواء كان هذا الألم ألمًا معنويًا أو جسميًا.. وأحيانًا يعرفون ماذا يفعلون ولماذا يفعلونه، وأحيانًا أخرى لا يدرون من أمر أنفسهم شيئًا.. وهؤلاء الذين يعذبون أنفسهم هم أكثر الناس مرارة في الشكوى مما يلاقونه من إحباط، وتعاسة في الحياة.

حقًا إن الكائن البشري لمخلوق عجيب!

إن العيادات النفسية تغص دائمًا بهذا الصنف من الناس الذين يبحثون لأنفسهم مخلصين عن علاج، وهم لا يعرفون أن العذاب الذي يأخذون به أنفسهم من حيث لا يدرون هو مصدر مختلف اضطراباتهم الذهنية، والعصبية المتباينة التأثير!

وفي استطاعة بعض الأفراد معرفة الأسس الخفية لذلك العذاب الذاتي، ومن ذلك أن فتاة في السابعة عشرة من العمر أخبرتني أنها تحولت إلى مخلوقة عصبية لا تنام جيدًا، ولا تجد القابلية لتناول طعامها، وهي منكودة مُعذبة فقدت القدرة على الاهتمام بدراستها، وتخشى لو استمرت بها الحال أن ترسب في الامتحان…و قالت أمها التي كانت تصاحبها:

– لا ريب أن في رأسها شيئًا ما تخفيه عني… فلقد اعتادت أن تبدو في صورة أخرى تمامًا.. كانت طموحة متوقدة… ولكن سرعان ما تغيرت.

وعندما استفسرت الأمر من الفتاة اعترفت لي بما يسبب لها الضيق، قالت:

– إن والدتي على حق. فمنذ سبتمبر الماضي عندما تراءى لي أنه من الممكن أن تتزوج أمي اضطربت حالتي وتغيرت… لقد مات أبي منذ عامين مضيا.. وكنت ألتصق به وأحبه أشد الحب… ولا أستطيع أن أقبل رجلًا آخر في منزلنا بديلًا عنه… وأنا لا أظن أن أمي يجب أن تتزوج ثانية… حقًا قد يكون من الخطأ أو الأنانية أن أقول هذا، لذلك فأنا أعتقد أنني أعاقب نفسي.

 

وثمة مثال آخر لذلك العذاب الذاتي الذي يوقعه الشخص بنفسه وهو شاعر بذلك تمامًا شاب في الثالثة والعشرين. قال لي:

– إنني ملتحق بعمل أمقته كل المقت… فأنا أشتغل على آلة رافعة وأحمل الحمولات الثقيلة عليها طيلة يومي انصياعًا لرغبة والدي الذي يشتغل بإدارة هذا العمل، ويعتقد أنني يجب أن أبدأ من أول السلم، وأدرس العمل من كل زواياه. وقيامي بهذا العمل ينال من صحتي، فأنا أعاني من اضطراب في القلب، ومن نوبات الربو..

وليست حالات تعذيب النفس كلها بمثل هذا الوضوح البادئ في الأمثلة السابقة.. وكثير من الناس يعاقبون أنفسهم لأسباب تتعلق بالعادات الجنسية التي يعتقدون بخطئها. فمثلًا نجد الفتيات اللواتي يحاولن الاستيلاء على قلوب أصدقاء الفتيات الأخريات يشعرن بالذنب عندما يفلحن في ذلك. والرجل الماهر الذي يترقى في مدارج وظيفته لأنه أكفأ من بقية زملائه يبدأ في تعذيب نفسه معتقدًا أنه يحرز نجاحه على حسابهم. كذلك الشخص الأمين يعاقب ذاته إذا ظن أنه أتى عملًا أنانيًا فيه نفعه وحده.

ونحن جميعًا كثيرًا ما نعاقب ذواتنا بسبب شعورنا بالذنب، وهي عقدة تتكون لدينا منذ الطفولة. حقًا إنه من الضروري أن يفرق الأطفال بين الخطأ والصواب، ولكن ثمة حالات كثيرة تسبب فيها هذه التفرقة شعورًا قويًا بالذنب غير ضروري.

إن الأطفال الأسوياء العاديين لا تعلق بأذهانهم كل الأخطاء التي ارتكبوها، فهم يلقون بالعقوبات التي وقعت عليهم بسبب تمردهم وكذبهم وسرقاتهم الصغيرة، يلقون بها وراء ظهورهم ولا يشعرون بها بالأسى العميق، بل سرعان ما يتناسون هذه العقوبات.

بيد أن هناك عددًا من الأطفال يختلفون في ذلك عن الأسوياء، تترسب في أذهانهم الأخطاء التي اقترفوها والعقوبات التي نالتهم من جرائها، ويشعرون بالخزي والاختلاف عن بقية الصغار، الأمر الذي يزيد من إحساسهم بالذنب. وتظل هذه التركة من الإحساس بالذنب باقية معهم حتى بعد ما ينمون ويبلغون مبلغ الكبار.

 

وهناك حالات لفتيات صغار يقعن في حب رجال متزوجين.. وإليكم واحدة من هذه الحالات التي خبرتها بنفسي..

تبدأ هذه (المأساة) التي تلعب دورها الأول فتاة اسمها (اليانور) ببلوغ هذه الفتاة الحادية والعشرين من عمرها. وكانت تعمل منذ أربعة شهور بمكتب تجاري، راضية مسرورة… فهي في عملها وسط عشرين من الزملاء يشغلون حجرة واسعة يقتسمون فيها العمل، ويسودهم جو من المرح الطليق الذي لا تعكره رقابة ملاحظ أو رئيس.

وفي أحد الأيام استدعيت اليانور إلى مكتب مخدومها الذي كان متغيبًا في رحلة طويلة متعلقة بشئون العمل، والذي لم تقع عليه عيناها من قبل.

قالت لي اليانور وهي تقص عليَّ قصتها!

(لقد أخبرتني الفتيات أن المدير الشاب رجل جذاب، فضلًا عن ثرائه الطائل).. ثم استطردت تقول: (ولكنهن أخبرنني أيضًا أنه زوج سعيد، وأن واحدة منها لا تواتيها الفرصة معه… وهو أمر لم يكن يعنيني شيء).

وسألتها: (هل أنتِ متأكدة من أنه لم تساورك الأحلام ولو قليلًا حول هذا الشخص الأنيق الجذاب…؟).

وأجابتني في صدق:

(لا يا دكتور… على الأقل حتى قابلته).

قلت لها: (أعلم أن مخدومك قد سمع عن خبرتك الطويلة في العمل، وقرر أن يستخدمك كسكرتيرة خاصة…).

قالت: (أجل… وقد بذلت قصارى جهدي… ولكنني وقعت في حب بلا أمل قبل أن أكمل معه أسبوعي الأول… وفي غضون شهر كنت في الفراش أعاني من الحمى… وعندما تحسنت صحتي بالقدر الكافي لكي أذهب إلى عملي حاولت أن أنتحر…).

سألتها: (وهل يعرف مخدومك حقيقة شعورك نحوه؟)؟

قالت: (يا إلهي.. كلا!… إنني أفضل الموت على أن أدعه يعرف ذلك!… إنه يبدو مشغولًا دائمًا… حقًا هو عطوف ولطيف، ولكنه لم يخض معي في أي مسألة شخصية منذ أن عملت معه…).

وأنت قد تعجب.. لماذا تتعلق اليانور هذا التعلق برئيسها؟ ألا تستطيع كبح جماح نفسها؟ ولماذا تقع الفتيات في هذه المآزق الرومانسية التي تقودهن إلى الحمى، ثم تعقبها هذه المحاولات الطائشة للانتحار كوسيلة لعقاب الذات؟…

للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نعرف أن الفتيات يوجهن اهتمامهن العاطفية بادئ الأمر إلى آبائهم… فالأب هو الرجل الأول الذي يعرفنه… إنه يرعاهن ويستولي على اهتماماتهن القلبية، لأنه هو الذي يزودهن بما يرغبن في نفس الوقت الذي يحميه فيه… بيد أنهن يتحولن، إن آجلًا أو عاجلًا، عن آبائهن إلى حب من نوع آخر… حب خارج نطاق الأسرة. وفي معظم الأحول تقع الفتاة أول مما تقع في حب رجل كبير السن يكون بمثابة بديل الأب، فتسقط عليه كل طاقات الرومانسية المتوقدة داخلها، وهو ما حدث بالضبط لاليانور عندما أحبت مخدومها، وهو الذي يحدث لغالبية الفتيات في نفس الظروف!

ولكن الفتيات لا يعذبن أنفسهن كما فعلت اليانور، بل إن بعضهن لا يشعرن إلا بأقل القليل من الإحساس بالذنب، والرغبة في عقاب الذات.

 

وكلنا نميل لاصطناع عذاب من نوع نفرضه على ذواتنا لأسباب متعددة، مع أنها أسباب تبدو عادية في مثل حياتنا هذه المعقدة، وعندئذ يجب أن نفكر في هذه التركة من الإحساس بالذنب الذي ورثناها منذ طفولتنا والتي تدفعنا إلى معاقبة أنفسنا بلا مبرر واضح أو معقول..

إن الفتاة التي تغار من زواج أمها تعطينا صورة مبالغًا فيها لهذا التعذيب للنفس.. والصبي الذي يعاني من اضطراب القلب وأزمات الربو لا يشعر بالخطأ لعدم تنفيذه لرغبات والده، يقدم لنا صورة للإفراط في عقاب الذات.

ولحسن الحظ أنه يكفي أن نبين لهؤلاء السبب الخفي الكامن وراء سلوكهم لكي يتغلبوا على هذه النزعة لتعذيب ذواتهم. وعندما نلقي ضوء العقل على هذه الاضطرابات العاطفية الشعورية أو اللاشعورية سرعان ما تختفي الأفكار التي تدور حول الذنب والعقاب، وتفقد فاعليتها.

إن هذا هو ما يجب أن نفعله إذا حدث ومارست هذا الشعور بالذنب، وما يتلوه من رغبة في عقاب ذاتك.. فلنفرض أنك اقترفت من الأمور ما تستحق عليه اللوم، فهل هذا سبب كاف لكي تظل تحمل ذنبك حتى يوم مماتك؟.. إن الناس لا يهتمون بما تفعل كل هذا الاهتمام الذي تعتقده أنت؟ بل إنهم أحيانًا ما يتناسونه تمامًا… بل قد ينسونك أنت الآخر!

تناس إذن ما قد يفكر فيه بعض الناس، ولا تشدد في تأكيد ذنوبك.. فإن المجتمع كثيرًا ما يتسامح وكثيرًا ما ينسى، ولولا هذا لظلت ألوف من الناس لا تملك الفرصة لتطهير النفس من الأخطاء، والتمتع بهدوء البال بل إننا يجب أن نقدر أولئك الذين وقعوا فيما يستحقون من أجله اللوم، ثم اكتسبوا من أخطائهم خبرة وتجربة.

والواقع أننا كثيرًا ما نقسو على أنفسنا بصورة لا يتصورها الناس.. يدفعنا إلى ذلك هذا الصوت الخفي الذي نسميه الضمير، أو تدفعنا إلى ذلك عقدة إرضاء كل الناس.. كما أن الماسكوية قد تكون أحيانًا مسئولة عن هذه الرغبة في عقاب النفس.

والملاحظ أن النساء ميالات لتعذيب أنفسهن أكثر من الرجال ولعل طريقة تربيتهن ما يؤخذون به من حنو، بالإضافة إلى أن حياتهن تبدو محددة على عكس حياة الرجال… كل هذا يجعلهن راغبات دائمًا في التفوق واكتساب الاحترام، ومن ثم فهن أكثر حساسية للشعور بالذنب، أما الرجال المفروض أنهم الجنس الأصلب نظرًا لقوتهم وكفايتهم في خوض المعارك التي قد يتطلبها هذا العالم المجنون.

وبعض النساء يحببن المعاناة تستعبدهن مشاق المنزل والزوج والأطفال، ويلعبن دور الزوجة السلبية الطيعة التي تعمل دائمًا من أجل مصلحة الآخرين دون أن تفكر في مصلحتها الذاتية.

وهذا النوع من النساء تلزمهن بعض نظرة الرجل إلى الحياة كي تنصلح أحوالهن.. فإن بعض الصلابة العاطفية سوف تساعدهن على المزيد من الاستقرار العاطفي، والتفكير المعقول في مصلحتهن الذاتية.

والإشفاق على الذات يعتبر من أعظم العوامل المسببة لتعذيب الذات، وذلك أن في إشفاقنا على ذواتنا مدعاة لتضخيم هذه الذات وإضفاء الأهمية الكبرى على أنفسنا… أو على الأقل الاعتقاد بأننا نفعل ذلك، فإذا انسقنا بعد هذا في توبيخ أنفسنا وإدانتها بسبب أو بدون سبب فسرعان ما يكتشفنا أصدقاؤنا!

إنه من المستحيل أن يكف الفرد، مهما يبلغ من رجاحة العقل أو الشجاعة، عن قول ما يزيد من إحساسه بالذنب أو فعله! فليس هناك إنسان كامل. كلنا نرتكب الكثير من الأخطاء. ولكن هل نفيد من هذه الأخطاء؟ وهل نستخلص منها العبر الكفيلة بتوجيهنا إلى حياة أفضل؟.. هذا هو بيت القصيد!

وبعد… فلعلك تسلم الآن بأن إصرارنا على تعذيب أنفسنا لا جدوى منه، ولا فائدة ترجى على الإطلاق!

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *