للأستاذ زكي المهندس
عميد كلية دار العلوم سابقًا وعضو مجمع اللغة العربية
في هذا المكان من كل عدد، يجلس إليكم –أيها الشباب- المربي الكبير كاتب المقال، ليحدثكم حديث الوالد العطوف الواعي عن حياتكم، ويدلكم على أمثل السبل لأن تجعلوا منها حياة ناجحة.
أيها الأبناء
إن أحلام النوم ظاهرة مألوفة لنا جميعًا. فكلنا يحلم، وكلنا يحب أن تكون أحلامه سارة تبشرنا بدفع شر عنا، أو جلب خير إلينا… إننا في هذه الأحلام نرى صورًا ومشاهد عجيبة، ونقوم بأعمال متنوعة، ونغشى أمكنة مختلفة؛ فنحن نخوض البحار، ونجوب القفار، ونقتحم كل منيع ونغزو كل مجهول… ونحن نخاصم ونوادع، ونفرح ونحزن ونغضب ونقلق، وننجح ونفشل وهكذا تتألف من أحلامنا روايات ومسرحيات يكون الحالم بطلها الأول وفارسها المغوار..
ولقد حاول الناس في كل زمان ومكان أن يفسروا هذه الأحلام، ويحلوا رموزها، ويكشفوا عن دلالاتها ومغازيها وكانوا ينجحون حينًا، ويخفقون أحيانًا، ذلك أن العناصر التي تتألف منها هذه الأحلام كثيرًا ما تكون مراوغة مفلاتة لا تبدو إلا في صورة تنكرية أو وجوه مقنعة، أو رموز خفية الدلالة لا يستطاع تأويلها… على أن الرأي السائد الآن أن هذه الأحلام أو كثيرًا منها، إنما هي تعبير عما تكنه نفوسنا من رغبات مكبوتة، ونزعات مقهورة راسبة في أعماقنا.
ففي النوم يغفو عقلنا الواعي، وتضعف سيطرته، فتتاح لهذه الرغبات والنزعات فرصة للظهور حرة طليقة من كل قيد ومن كل رقيب. أما في فترات اليقظة فنحن خاضعون لسيطرة الشعور الذي يستمد سلطانه من المنطق، والعرف، والعادة، والآراء والبيئة التي تحيط بنا. ولكن لهذه الأحلام على أي حال أهمية عظمى في دراسة العقل البشري والكشف عن اتجاهاته ونزعاته.
أيها الشباب
وإذا كان للنوم أحلام، فإن لليقظة أحلامها كذلك. فمن المألوف لنا جميعًا أننا في فترات من يقظتنا يطيب لنا أن نسترسل في خيالاتنا، تخلصًا من عالم الحقيقة التي تواجهنا، والأحداث الواقعة التي تحيط بنا. فالفتى الذي يتصور أنه نجم لامع من نجوم (السينما) تهتف باسمه الجماهير، وترنو إليه الأبصار… والفتى الذي يتخيل أنه من أصحاب الأعمال، وأنه جالس إلى مكتبه وبين يديه عدد من (التليفونات) يرد بها على عملائه… والشاب الذي يحلم بأنه قائد من قادة التحرير قهر عدوه ورده على عاقبيه خاسرًا محسورًا… والفتاة التي تتصور نفسها عروسًا مجلوة في حفلة زفافها وبجانبها فارس أحلامها، وحولها وصيفات الشرف يمسكن بأطراف ثوبها الفضفاض… كل أولئك يحلمون أحلام اليقظة، وينتقلون بخيالهم إلى حياة كلها متعة ولذة؛ حياة هينة سهلة لا تقوم فيها عقبات، ولا تعترضها عوارض؛ حياة لا تكلفهم شيئًا ولكنها تحقق أحلامهم، وتملأ نفوسهم بالغبطة والسعادة؛ حياة طيعة يصرفونها على ما شاءت لهم أهواؤهم.
وأكثر ما تكون هذه الأحلام، والأخيلة في وقت الشباب حيث الخيال الخصب والعواطف المشبوبة المرهفة، والآمال الجامحة المتنوعة.
حقًا –أيها الأبناء- إن الشباب يحس إحساسًا قويًا بالفرق الشاسع بين حياته كما هي وبينها كما يشتهي أن تكون. إنه يشعر بأن الحياة التي يحياها فعلاً لا تستطيع أن تلبي جميع مطالبه، لا تستطيع أن تستجيب لكل مشتهياته؛ وهو من أجل هذا يطلق العنان لخياله يسبح في تلك الأجواء الحرة الطليقة الخالية من الحدود كي يحقق فيها ما عجز عن تحقيقه في حياة الواقع والحقيقة. تلك طبيعة الشباب، أما نحن الشيوخ فإن لنا من تجاربنا الواقعية، ومن تفكيرنا المنطقي ما يضبط من أحلامنا، ويدنينا من الحقيقة. إن الخيال والعاطفة يقودان الشباب، ولكن العقل والمنطق يقودان الرجولة..
والآن يجب أن نقف هنا ونتساءل: أليس لهذه الظاهرة العجيبة التي يشترك فيها كل الشباب من دلالة؟ أوليس لهذه الأخيلة الجامحة من فائدة أو غاية؟ إن الطبيعة لا تصنع شيئًا عبثًا، ولا تضيع نشاطها هدرًا، فما الغاية التي ترمي إليها الطبيعة بهذا النشاط العقلي الذي يؤدي إلى حلم اليقظة؟
لقد دلت البحوث والدراسات على أن أحلام اليقظة هي كأحلام النوم عملية تنفيس وتعويض. إن حياتنا تصبح مقفرة مجدبة لا لون لها، ولا لذة فيها، إن تجردت عن الخيال، واعتمدت كل الاعتماد على الحقيقة والواقع. إن الأمل نوع من الخيال، وكيف تستقيم حياة بغير أمل أو طموح؟ إنه يبدو أن في حياة كل منا نقطًا من الفراغ يجب أن يملأها الخيال وتشغلها الأحلام، كي يمكن أن تسير الحياة الإنسانية في اتزان وتوافق.
ثم إن هذه الأحلام تعوضنا في الخيال عما فقدناه، أو أعوزنا إدراكه في حياتنا الواقعة. فالفتى الذي جانبه التوفيق في حياته لقصور في استعداده ومواهبه، أو لعيوب طبيعية فيه، أو لظرف خاص لا قبل له بتغييره، يستطيع أن يعوض عن كل ذلك باصطناع حياة أخرى خيالية يستعيد فيها كل ما فقد، ويجد فيها السلوى والعزاء.
ولا أظنني مبالغًا إذا ذكرت أن هذه الأحلام قد لعبت دورها الكبير في التقدم الإنساني. ومن يدري؟ فلعل كثيرًا من هذه المخترعات والمستكشفات التي نشهد اليوم آثارها قد بدأت أول ما بدأت في صورة أخيلة وأحلام، ثم أخذت على التدريج تتبلور وتتركز حتى انتهت إلى حقائق واقعة، بفضل ما بذله أصحابها من جهد دائب وعمل ناصب ومثابرة وتضحية!
نعم، لعل حلم اليقظة قد ملك زمام (جيمس وط) حين رأى غطاء القدر يعلو ويهبط… ولعل خيال (نيوتن) قد لعب دوره العظيم حين رأى تفاحة تسقط من شجرة… ولعل (جاليليو) قد استرسل في أحلامه حين رأى قنديلًا في كنيسة (بيزا) يتأرجح ويتذبذب… إننا لا نستبعد أن تكون هذه الأحلام هي البذور الأولى التي جني العالم منها قوة البخار وقانون الجاذبية، وقياس الزمن.
وربما كان أثر هذه الأحلام في الميدان الأدبي أوضح وأجلى، فإن مؤلفي الروايات والمسرحيات والقصص، وأهل الفن في التصوير والرسم والنحت، يتخذون من أحلام يقظتهم مادة لفنهم، ثم يضفون عليها، بوسائلهم الفنية، نوعًا من التماسك والوحدة يبرز جمالها وروعتها، ويجعلها أدنى إلى الحقيقة والواقع منها إلى الخيال، وهم بهذا يستطيعون أن يسدوا تلك الفجوة القائمة بين حلم اليقظة الجامح المشتت، وبين الإنتاج الفني الأصيل…. ومن المحتمل كثيرًا أن تلك الروايات والمسرحيات التي نشهدها على الشاشة أو في المسرح ما كانت لتثير اهتمامنا لولا أنها متصلة، من بعد أو قرب، بأحلام يقظتنا… ومن ثم نرى أن وسائل الإخراج والنشر الحديثة قد أضفت على أحلام اليقظة أهمية عظمى وأنزلتها منزلة اجتماعية هامة.
استمعوا –أيها الشباب- إلى العلامة (ديوي) يقول في هذا الصدد: (يمتلك الناس أفكارًا وعواطف وأحلامًا عظيمة فهم يرسمونها ويمثلونها وينظمونها شعرًا أو يرسلونها كلامًا بليغًا، أو يصوغونها ألحانًا، وهم يؤلفون منها كتبًا، ويضعون فيها روايات وأقاصيص ومقالات هذا هو الحافز الذي لا يقاوم في الطبيعة الإنسانية).
* * *
ليست المشكلة إذن في أحلام اليقظة ذاتها، ولكن في ضبطها وحسن استخدامها، وتوجيهها التوجيه الصالح… فإن الإسراف في هذه الأحلام من شأنه أن يجعل الشباب خياليًا محبًا للأوهام.
حقًا إن شرود الذهن خليق بأن يفوت على الإنسان فرصًا عظيمة، ويشل من إرادته وحيويته وقد يعرضه لأخطار جمة.
يجب ألا تنسوا –أيها الفتيان- أن الحياة المثمرة الناجحة تتطلب تركيزًا في الانتباه، وعناية تامة بالواقع، وملاحظة دقيقة للأشياء والأحداث، وليس أضر على حياة الشباب من أن يعيش حياته على أخيلة مجردة بعيدًا عن الحياة الواقعة. من أجل هذا يجب أن نصطنع كل وسيلة تضبط من أحلامنا، وتدنينا من الحقيقة والواقع، وتجعل الوسيلة إلى تحقيق آمالنا وسيلة حيوية مقرونة بالرجاء والثقة.
ولعل فيما أذكره الآن من توجيهات ما يعينكم على ضبط أحلامكم:
أولاً: يجب أن تفرقوا بين الحلم الصادق والوهم الكاذب.
إن الأول هو الذي يقوم على أساس من كفايتنا وثقافتنا، هو الذي نستطيع بجهودنا وعزائمنا أن نحوله من حلم إلى حقيقة ومن خيال إلى واقع. أما هؤلاء الشبان الذين يسبحون بخيالهم في بحر (اللانهائية) فهم يعيشون حياتهم في أوهام كاذبة قلما تصل إلى شاطئ مأمون.
ثانيًا: يجب أن تنتزعوا أحلامكم من صميم الحياة، وتتخذوا منها أبطالاً، وتنسجوا منها آمالاً. إن حياة العظماء في الحاضر والماضي مبسوطة بين أيديكم فادرسوها، واستقوا منها (المثال) الذي تشتهون أن تكونوه. أكثروا من قراءة التراجم لحياة العباقرة والمصلحين. يقول أحد الكتاب: (لو أنني قرأت سيرة نابليون وأنا فتى يافع، لكانت حياتي اتجهت اتجاهًا يختلف كلا الاختلاف عما صارت إليه حتى الآن! فقد كان من المؤكد أن تملأني هذه الحياة العظيمة بأحلام ومطامح أسعى وراءها، وأجد في سبيل إدراكها).
ثالثًا: إذا أحس أحدكم أن تلك الأحلام الجامحة تملك زمامه وتفسد عليه أمره، فليقاومها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولعل خير وسيلة لذلك أن تأخذ نفسك بالعمل المستمر، فلا تترك للخيال فرصة السيطرة عليك. إن كثيرًا من ذوي الخيال المرهف قد استطاعوا أن يعالجوا حالتهم، فجعلوا من العمل اليدوي هوايتهم المفضلة، وجنبوا أنفسهم كثيرًا من المواقف الخيالية. ومهما يكن من أمر فيجب ألا يغيب عنك أن سر النجاح في الحياة مخبوء في هذا التوازي الذي يقوم بين الخيال والحقيقة.
رابعًا: وأخيرًا حاول أن ترسم أو تدون كل خيال جامح تسترسل فيه، فإن هذا يحملك على أن تضفي عليه من عقلك وتفكيرك وتجاربك ما يكسبه شيئًا من التماسك والوحدة يجعله أدنى إلى الحقيقة منه إلى الخيال وبهذا تستطيع أن تمزج أحلامك بالواقع، وأن تبرزها في صورة نافعة للفرد والمجتمع بخيالك وحياتك معًا.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق