للدكتور يوسف مراد

أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة

الحياة نشاط وحركة؛ حركة انتقال من حالة إلى أخرى أكثر وضوحًا من سابقتها، أي أن الحياة إفصاح، وتبيان، وتعبير.

ولفظ (التعبير) يتضمن عدة معان: معنى الإظهار والتوضيح، ومعنى الانتقال من جنب إلى الجانب الآخر، ثم معنى الانتقال بسرعة دون إقامة طويلة في مكان ما، بل مواصلة السير من أسفل الوادي إلى أعلى الجبل…

وكما أن الحياة لا يمكن أن تقوم بدون نشاط وحركة، فهي كذلك في حاجة إلى تعبير مستمر… وكما أن الشجرة لا تكتمل إلا بأزهارها وثمارها، فكذلك الحياة لا تكتمل إلا بتعبيراتها المتواصلة.

وسيل التعبيرات قد يختلف نوعًا وغزارة باختلاف الأعمال والظروف – وقد تتحول التعبيرات من صادقة إلى زائفة تصدر عن ضغط، أو نفاق، أو خوف، بدلاً من أن تكون دليل الانطلاق، والأصالة، والابتكار.

وأكثر فترات الحياة غزارة في تعبيراتها الصادقة فترة الطفولة. ففي هذه المرحلة تكون عمليات النمو والبناء على أعلى درجة من النشاط، وتبدأ تظهر الملامح الأولى لعدد كبير من القدرات والاستعدادات.

ويتوقف نمو بعض القدرات دون غيرها على استثمار البيئة لها، وتوافر العوامل الملائمة لتنشيطها وازدهارها.

ومن طبيعة الطفل أن يبذل أقصى جهده لتحقيق إمكانياته مدفوعًا في هذا بقواه الحيوية المتدفقة. فسلوكه على اختلاف ألوانه ليس إلا تعبيرًا وإفصاحًا عن إمكانياته الناشئة. ويتميز تعبير الطفل بتلقائيته، أي بصدوره أصلاً عن طبيعة الطفل الداخلية لا لمجرد رد فعل لمنبه خارجي، وإن كان المنبه الخارجي يؤدي دور الاستثارة أحيانًا، غير أن صورة التعبير ودلالته الخاصة، تحمل طابع الطفل لا طابع البيئة الخارجية.

وبقدر ما يمتاز به تعبير الطفل من تلقائية، تكون درجة أصالته وصدقه. فالتعبير التلقائي صادق لأنه لا يصور لنا فقط طبيعة الطفل الراهنة وما هو عليه من ميول ودوافع، بل لما له من دلالة تنبؤية عما يريد أن يكون عليه الطفل في المستقبل. وهذه الإرادة لا شعورية في بادئ الأمر فهو لا يكتشف إلا تدريجيًا أن في إمكانه أن يصبح صانع مصيره بنفسه.

ولكن لا بد، للوصول إلى هذا المستوى في الشعور بالذات، من مساهمة البيئة… لا بد للوالدين ولجميع من يشتركون في تنشئة الطفل من أن يتعلموا لغة الطفل، أقصد أن يحاولوا فهم التعبيرات المختلفة الصادرة عنه، وأن يكتشفوا عن الدلالة التنبؤية لهذه التعبيرات لمساعدة الطفل على تحقيق ذاته.

وتحقيق الذات، خاصة في مرحلة الطفولة، مصدر سعادة كبيرة لأنه عمل من أعمال الخلق والابتكار. والسعادة التي يتمتع بها الإنسان أثناء طفولته تصبح فيما بعد معيار كل سعادة ينالها في المستقبل. فالطفولة هي التي تطبع بصبغتها الخاصة -سواء كانت سعيدة أو تعيسة- الحياة كلها. والطفل التعيس البائس لا يكون كذلك إلا رغم أنفه، وعندما تصاب قواه الحيوية بالصد والهزيمة.

وعلى ذلك يمكن القول بأن أي لون من ألوان السعادة التي ينشدها البالغ ليس إلا عودة بشكل من الأشكال إلى حالة الطفل الذي يستسلم للقوى الحيوية التي تحمله، فيعبر عن أنشودتها المرحة بتعبيراته التلقائية من لعب، ورقص، ورسم، وسائر الحركات الإيقاعية التي يقوم بها فرحًا مطمئنًا.

فالسعادة لا تتحقق إلا عن طريق التعبير التلقائي عن القوى الخالقة، التي يتمتع بها -بدرجة- كل إنسان. وبقدر ما يحتفظ المرء بتلقائية الطفولية تكون قابليته للشعور بالسعادة. وسر كبار الفنانين الذين خلدوا أسماءهم في ميادين الأدب، والموسيقى، والتصوير، وغيرها من الفنون الجميلة هو احتفاظهم بخصائص الطفولة من تلقائية، وطموح نحو المطلق. وقد صدق أحد فلاسفة الهند عندما قال بأن (الفنان ليس نوعًا خاصًا من الإنسان، بل كل إنسان هو فنان من نوع خاص!)..

وفي ضوء ما سبق يمكن رسم خطة جديدة لتربية الصغار والكبار: تربية الصغار لكي يصبحوا فيما بعد كبارًا يتقنون فن الحياة الخالقة السعيدة، وتربية الكبار لكي يضمنوا للصغار الذين يتولون تربيتهم أسباب النمو الصالح الكفيل بأن يحقق لهم أكبر قدر من الإمكانيات.

فقد ركز المربون جل اهتمامهم في التربية العقلية بادئ الأمر ثم تنبهوا إلى ضرورة العناية بالجسم فانتقل الاهتمام من ميدان العقل إلى ميدان الجسم، ولم يعن بالتربية الفنية إلا أخيرًا فقط، وفي حدود ضيقة جدًا إذ اعتبر النشاط الفني مجرد هواية قد تحل محلها هواية أخرى دون المساس بتوازن الشخصية وتكاملها.

والواقع أن التربية الفنية يجب أن توضع في مرتبة التربية العقلية والجسمية، وأن تعتبر أساسًا في بناء الشخصية، وأن يستمر النشاط الفني طول العمر لا أن يكون مقصورًا على سن الطفولة والمراهقة. يجب أن نفهم أن الثقافة الفنية، وما يتبعها من تذوق لكل شيء جميل، ليست مقصورة على فئة من الناس دون غيرهم، بل في استطاعة كل إنسان مهما يبدو ساذجًا أن يشعر بالجمال، بل ربما لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يشعر بالجمال الحقيقي لا المزيف، إلا بقدر سذاجته؛ هذه السذاجة التي تطبع برونقها الطفولة السعيدة وتعبيراتها التلقائية.

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *