أستأذن من الكاتبة إليف شفق في استعارة مصطلح “الكفر الحلو” الذي استخدمته في روايتها قواعد العشق الأربعون لوصف عبادة البسطاء لله، وإسباغ هذا المصطلح على أمر آخر ألا وهو الحب. ومن المفهوم أن يقال عن الحب أنه “حلو”، لكن كيف يكون “كفرا”؟ مبدئيا دعونا نتفق أن المعني بالحب هنا هو العشقُ المُغرقُ نادر الحدوث، والذي يتميز عن غيره من المشاعر القلبية بخلوه من الأسباب كافة، لأنه ذاتي الوجود يحمل سببه في جوهره نفسه، ولا يمكن تفسيره بأي سبب، أما الحب المتصل بالأسباب فهو زائل بزوالها، وهو ليس موضوع حديثنا الآن.
التّأليه بدلَ التّوليه:
لقد عُلّمنا في هذا العصر أن نبحث عن الحب بحثاً محموماً كمن يبحث عن كنز ضائع، أن نترقبه عند وصولنا إلى عتبة المراهقة، أن نتحراه في علاقاتنا الزوجية بين الفينة والأخرى لنتأكد من وجوده، أن نتحسر عليه في غيابه ونمنح أنفسنا الحق في البحث عنه قبل فوات الأوان. تغلغلت فينا هذه الفكرة عبر سواقٍ من الأدب والفن والغناء والسينما، حيث قدست تلك الأعمال الحبَّ، وجعلته غاية الحياة ومنتهاها، فمن وجده فقد فاز فوزا عظيما، ومن فقده باء بخسران كبير.
لقد قدّر البشر الحب دوما، لكن الانتشار غير المسبوق لهذه العقيدة في هذا العصر، وتغولها الشديد إلى درجة تحولها لغاية الحياة ومحورها مبنيٌ على أصل نفسي روحاني، مَثّل فلسفة هذه الأعمال الأدبية والفنية، والتي طرحت الحب بديلًا روحانيّا وحيدا في عالم مجنون فقدَ إيمانه بالخالق، وأعلن إلحاده، واستغنى عن التصديق بالأديان. فالإنسان يُخلق وتخلق معه أسئلته الوجودية الكبرى: من أنا؟ من أين أنا؟ لم خلقت؟ لماذا أعيش؟ ما هو الخطأ؟ ما هو الصواب؟ من يحددهما؟ إلى أين سأنتهي؟ هل من فردوس؟ هل من جحيم؟
أسئلة تلح علينا ليل نهار، وتولد قلقا كبيرا نجد أنفسنا قذفنا إليه في اللحظة التي بدأ فيها الوعي يتمطى في دواخلنا، أسئلةٌ صعبة ومقلقة، وإجاباتها تحتاج للكثير من الصبر والبذل والطاقة النفسية، خاصة في المجتمعات غير المؤمنة، وتفرضُ لاحقا الاستسلام لتبعات الأجوبة من تكليف وحلال وحرام. ويظل هذا القلق العظيم مرافقا للإنسان حتى تحل عليه في لحظة مفاجئة صاعقة العشق القاصمة، فتشل عقله، وتعطل تفكيره، وتدخل وعيه طوعا في قمقم صغير اسمه المعشوق.
فجأة يختفي هذا القلق وهذا البحث الحثيث عن مجهول غيبي لا نملك أن نراه أو نسمعه أو نعرف ماذا يريد منا! فجأة ينتقل مركز قلقنا إلى معشوق موجود أمامنا، نراه ونسمعه ونحسه ونفهمه، ونعلم ما يريد وما لا يريد، وما يستحسن وما يستقبح، وما عواقب غضبه وما عواقب رضاه، معشوقً خلّصنا بلمح البصر من كل المعضلات الوجودية الكبرى، ليقدم لنا في لمحة خاطفة الإجابة على كل الأسئلة التي أرقت مضاجعنا طويلا، فمن أنا؟ أنا العاشق لفلان وهذه هوية وجودي، ومن أين أتيت؟ لم يعد مهما فالمهم أني أتيت إليه، ولم خلقت؟ خلقت لأعشقه، وكيف يجب علي أن أعيش؟ كما يريد هو، وما هو الخطأ؟ ما يراه خطأً، وما هو الصواب؟ هو ما يراه صوابا؟ وهل من فردوس؟ فردوسي قربه، وهل من جحيم؟ جحيمي صده وفراقه!
جحيمٌ نرضى به مهما أمعن المعشوق في تعذيبنا، فله المشيئة وحده ولا نملك الاعتراض عليها، بل ونرضى بها ونستزيد، وأما الفردوس فوصاله ورضاه الذي لو شاء لأنعم به علينا، لندخل في غيبوبة من السرور عن كل ما في هذا الوجود. وهذا الجحيم وهذا الفردوس هما مرئيان لنا، محسوسان، نؤمن بهما إيمان اليقين، إيمانا يخلصنا من الحاجة للإيمان بجحيم وفردوس غيْبِيّين. وأما منزل المعشوق فيغدو الكعبة التي نحج إليها، وكلامه هو النص المقدس الذي نعيده ونكرره، ونحفظه عن ظهر قلب، وجمالُه وأفعالُه وذكرياتُنا معه هي الذِّكر الذي تلهج به ألسنتنا. إيمانٌ متكامل الأركان تامُّ العقيدة والطقوس بإلهٍ جديد!
وفي شرعة هذا الإيمان يصير ميزان الصواب والخطأ متعلقا بالمحبوب، فتستحيل الأعمال النبيلة شرورا عظيمة لو أثارت غضب الحبيب، بينما قد تتحول الكبائر إلى ملاحم بطولية إذا ارتكبت في سبيل رضاه، حتى وإن وصلت إلى الزنا والقتل والسرقة وظلم الآخرين. وهكذا نرى أننا نستبدل بشريعتنا السماوية شيئا فشيئا شرعة الحب التي يصوغها المحبوب، ونستبدل بالإله شيئا فشيئا معشوقنا الأوحد، لأن وجوده الطاغي يهيمن على كل تجليات وجودنا، قلبا وفكرا وجسدا. يصبح معشوقنا إلهنا الذي أنقذنا من التخبط في هذه الحياة المبهمة حين قدم لنا اليقين الذي كنا نتعطش له، وألغى ريبتنا في عبثية هذا الكون الواسع، ثم أشبع لنا كل حاجاتنا الروحية بإيماننا به وحده، وبما نمارسه لأجله من طقوس الحج والذكر والعبادة والطاعة. هو كفرٌ حلو بكل مقومات الكفر، لأنه إذا ما استبد بنا أنسانا إيماننا الحقيقي لو كنا مؤمنين، أو أغنانا عن البحث عنه لوكنا في طور البحث.المحبوب معبوداً في الشعر والأدب والفن:
وعبادة المحبوب أو حبه حتى العبادة ليس أمرا جديدا على الثقافة العربية، فابن زيدون قال في محبوبته:
سلني حياتي أهبها، فلست أملك ردكالدهر عبديَ لما، أصبحتُ في الحب عبدك
وابن برد أنشد:
عبد أني إليك بالأشواق، لتلاقٍ وكيف لي بالتلاقي
أما أكثر قصائد الشعر العربي صراحة في التعبير عن هذه الفكرة فهي قصيدة “خالقة” للشاعر بدوي الجبل، حيث شبه الحبيب بالخالق الذي يصوره كيف يشاء في أبياته:
مـن نُعمياتـك لــي ألــف منـوّعـة، وكــلّ واحــدةٍ دنـيـا مــن الـنــورخلقتني من صبابات مدلهة، ظمأى الحنين إلى دلّ وتغريرفكيف اغفلت قلبي من تجلّده، لمّا تولّيت إبداعي وتصويري ؟وكيف تشكين من حبّي غوايته، وأنت كوّنت تفكيري وتعبيري؟ وهل تريدين روحي هدأة وونى، فكيف أنشأت روحي من أعاصير؟
ولا تخفى عنا قصص الحب الشهيرة في التاريخ العربي، تلك التي يعيش فيها العشاق ويموتون لأجله المعشوقة، حيث يكون العشق قضية حياتهم الكبرى، ولا يُعرفون إلا به، كعنتر عبلة ومجنون ليلى وجميل بثينة وغيرهم.
والحالة في الأغاني العربية والأجنبية، القديمة منها والحديثة ابتداء بأغاني عبد الحليم وانتهاء بأغاني الجيل الجديد واحدة، فكل كلماتها تدور في ذات الفلك، فتقدس الحبَّ وتؤله المحبوب، بل إن الأفلام الرومنسية التي تنتهي بتلاقي الحبيبين تعطي المشاهد انطباعا بأن العاشق قد وصل أخيرا إلى غاية حياته الكبرى. ويحضرني هنا مشهد جاك وروز على اللوح الخشبي في فيلم تيتانيك، عندما أخبر جاك محبوبته أنه غير نادم أبدا على ركوب السفينة، لأنه تعرّف إليها ووقع في حبها. هو لن يندم حتى لو جاءه الموت كما يقول، لأنه توصل في آخر لحظات حياته إلى فهم غاية وجوده ألا وهو حبه لروز.
كيف ننقذ أنفسنا من هذا الكفر الحلو؟
هو كفرٌ من نوعٍ آخر إذن لأنه يشغل الإنسان عن إلهه الحق، ويعطل بوصلة أفعاله التي من الواجب أن يبتغي منها رضى الله وحده لا رضى عبد من عباده. وقد يستشري هذا الكفر في البلاد غير المسلمة التي تجد في الحب بديلا روحانيا يعطي للحياة غاية، ويروي حاجة الإنسان للإله، يساعدُه على هذا الانتشار الفراغُ الروحي وطغيانُ المادية. أما نحن المسلمين فقد يدخل قلوبنا هذا الكفر الحلو بشكل خفي حين نعشق، فنشرك مع الله إلها غيره دون أن نشعر، ومن ذلك يجب أن نحذر، ولكن ذلك لا يعني ازدراء الحب، بل هو من أجمل ما ينعم الله به على قلوب عباده، ولكنه يعني أن علينا أن نصل حبنا للمحبوب بحبنا لله، لكي نجعل حبنا منزها عن هذا الكفر الحلو “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ“.
فحبنا لخالق الحبيب هو الأصل، وهو من نناجيه في حبنا هذا، فنسأله الوصال ونعوذ منه من هجر المحبوب، ونتقيه في كل فعل نفعله، فما يرضاه الله في الحب نرضاه وما يبغضه نبغضه حتى لو خالف رضى المحبوب، وهكذا تكون شرعة الله هي بوصلتنا وليس شرعة الحب العمياء، وتكون جنة الله هي الجنة الحق، وناره هي النار الحق، ولا مكان في قلوبنا إلا له وحده ولكلِّ من هو متصل به، وهكذا نعيش الحب الحقيقي كما ينبغي له أن يكون بعد أن تمتلئ قلوبنا بالإيمان.. بالإيمان الحقيقي الحلو!
لا تعليق