(إن إدراكنا للأشياء يتأثر بقيمة الشيء بالنسبة لنا،

كما يتأثر بدوافعنا، وتوقعاتنا، ومخاوفنا، وحاجاتنا، واتجاهاتنا، ونوع شخصيتنا)

كيف تدرك العالم الذي حولك؟

للدكتور محمد عماد الدين إسماعيل

مدرس الصحة النفسية بكلية التربية بجامعة عين شمس

قد يبدو هذا السؤال غريبًا نوعًا ما، فأغلبية الناس قد لا يرون أن هناك اختلافًا أساسيًا بين الأفراد بعضهم وبعض في إدراك العالم المحيط بهم… ولذا فقد يجيب البعض على هذا السؤال فورًا بقولهم (إنني أدرك العالم الذي حولي كما تقع صور هذا العالم على حواسي).. ولكن الواقع أن المسألة ليست بهذه البساطة. إن هناك عوامل كثيرة تجعل هذه الصور التي تقع على حواسنا تختلف من شخص لآخر إلى حد كبير، كما تجعلها تختلف عند الفرد الواحد من وقت لآخر بحيث لا نستطيع أن نقول أبدًا أن إدراكنا للعالم المحيط عبارة عن صورة (فوتوغرافية) لهذا العالم.

وسوف نوضح لك هذا بأمثلة كثيرة من التجارب العلمية والمشاهدات اليومية حتى تتحقق بنفسك من صحة هذا الكلام…

وها هي حقيقة بسيطة نذكرها لك: هل تعلم أنك إذا رأيت شخصًا على بعد خمسة أمتار مثلًا ثم رأيته على بعد عشرة أمتار فإن صورته المطبوعة على شبكية العين ينقص حجمها في المرة الثانية إلى نصف حجمها في المرة الأولى ومع ذلك فإنك تدرك هذا الشخص في نفس الحجم في المرة الأولى والمرة الثانية؟!

ذلك أن خبراتك عن هذا الشخص، باعتبار أن له طولًا معينًا، وحجمًا معينًا وهكذا، تعدل الصورة المرسومة على الشبكية بحيث لا تصبح هي العامل الوحيد الذي يحدد عملية الإدراك!

كذلك إذا كنت تجلس عند إحدى زوايا المائدة ونظرت إلى سطحها فإن الصورة التي تنطبع على شبكية العين لسطح المائدة هي صورة (معين) (أي بهذا الشكل ) ولكنك مع ذلك لا تدرك سطح المائدة كشكل معين، بل كشكل مستطيل، ذلك أنك في خبراتك مع المائدة واستخدامك لها قد حصلت على معلومات هامة هي التي تقرر مدى نجاحك في استخدام هذه المائدة استخدامًا فعليًا مفيدًا في المستقبل، ومن هذه المعلومات أن المائدة مستطيلة، وليست معينة الشكل ومن ثم فإنك لا تدرك المائدة على أساس الصورة المطبوعة على الشبكية بل تدركها بالشكل الذي يفيدك في حياتك العملية.

فإدراكنا إذن للأشياء، والأشكال، والحجوم، بل للألوان أيضًا لا يتحدد بناء على ما يقع على العين من أضواء، بل يتحدد بناء على فائدة هذا الإدراك، وبناء على استخدامنا العملي للأشياء.

ولقد قام أحد العلماء بتجربة طريفة أثبت بها صحة هذا الكلام، إذ لبس منظارًا يقلب الأشياء واستمر على هذا النحو مدة طويلة وقد لاقى صعوبات كثيرة في البداية طبعًا، إلى أن تكيف لهذا الوضع الجديد وأصبح يستخدم الأشياء على هذا النحو بنجاح كبير… ثم عندما خلع هذا المنظار وقع في نفس الصعوبة التي وقع فيها أولًا، إذ أنه تعود على استخدام الأشياء وهي مقلوبة الوضع حتى أصبح من المتعذر عليه أن يستخدمها وهي مستوية في أماكنها، واستغرق وقتًا طويلًا حتى انتظمت الأشياء في إدراكه مرة ثانية!

والواقع أننا نعتقد أن إدراكنا للأشياء على هذا النحو أمر طبيعي وأننا قد ولدنا كذلك لأننا نسينا الخبرات الطويلة الماضية التي مررنا بها في طفولتنا، والتي كانت سببًا في أن الأشياء قد اتخذت في إدراكنا الوضع الذي هي عليه الآن، والذي يخالف في كثير من الأحيان ما هو مطبوع على شبكية العين… وليس أدل على ذلك من أن الأشخاص الذين ولدوا مكفوفين ثم استطاعوا أن يبصروا في سن متأخرة، يقررون جميعًا أنهم لاقوا صعوبات جمة في توجيه أنفسهم عن طريق البصر في أول الأمر، وأن الأشياء التي كانوا يعرفون أماكنها وكيف يصلون إليها وهم مكفوفون لم يكن الوصول إليها بهذه السهولة عندما أبصروا، إذ أن المجال البصري في البداية كان بالنسبة لهم على درجة كبيرة جدًا من عدم الانتظام، فلم يكن في استطاعتهم أن يقدروا المسافات، أو الحجوم، أو يميزوا الأشكال وأنهم لكي يصلوا إلى درجة نجاح المبصر في هذه النواحي، كان عليهم أولًا أن يقضوا مدة طويلة في التجريب والمحاولة والخطأ كما لو كانوا أطفالاً في الشهر الأول من حياتهم، من هذه الناحية!

ولعل من الواضح أننا حتى الآن لم نتحدث إلا عن خبرات مشتركة بين معظم الأفراد عن العالم المادي المحيط مما يجعل إدراكنا لهذا العالم تقريبًا، على نسق واحد… وهذا هو الأساس دائمًا سواء فيما يتعلق بالعالم المادي، أو العالم المعنوي…

فالأفراد ذوو الخبرات المشتركة أو المصالح المشتركة، أو الأهداف المشتركة ينظرون إلى الأمور نظرة متفقة… نرى ذلك عند الساسة، وعند الشعوب، وعند الطبقات، عند الحاكم والمحكوم، عند العامل وصاحب العمل، عند المستعمر والمستعبَد، وهكذا…

أما اذا اختلفت قيمة الشيء المدرك وفائدته بالنسبة للأفراد، فإننا نبدأ نلاحظ الفروق الفردية في عملية الإدراك، ويبدأ الأفراد يختلفون في إدراكهم للأشياء، لما نجد الفرد الواحد يختلف في إدراكه من وقت لآخر حسب حالته النفسية… ويحدث هذا له في الأمور التي قد لا يتبادر إلى الذهن أننا يمكن أن نختلف في إدراكنا لها…

هل تتصور أننا قد نختلف في إدراكنا لحجم قطعة النقد تبعًا لحالتنا المادية، وكذلك تبعًا لقيمة القطعة بالنسبة لنا!؟ لقد أجريت تجربة طريفة على مجموعتين مختلفتين من الأطفال، الأولى فقيرة، والثانية غنية… وتتلخص التجربة في أنه كان يطلب من كل طفل أن يسقط على شاشة بيضاء شعاعًا صادرًا من (فانوس سحري)، وأن يعدل هذا الشعاع بحيث يصبح حجمه في حجم قطع نقدية من فئات مختلفة… وقد وجد أن كلا من المجموعتين تتصور القطع ذات القيمة الكبيرة أكبر من حجمها بكثير، في حين لا يبدو هذا التصور بالنسبة للقطع ذات القيمة الصغيرة!.. كما وجد، من ناحية أخرى، أن مجموعة الأطفال الفقراء تضخم حجم النقود في التجربة أكثر مما تضخمه المجموعة الغنية بكثير!… ومعنى ذلك أن النقود في إدراك الفقير أكبر حجمًا على وجه العموم منها في إدراك الغني، ذلك أن حاجة الفقير للنقود أشد!

وليس الأمر مقصورًا على الأطفال وحدهم بل إن الكبار أيضًا يقعون في نفس الخطأ، وقد حدث بالنسبة لكاتب هذا المقال أثناء وجوده في الولايات المتحدة حادث طريف… ذلك أنه كان يظن طول الوقت أن الورقة من فئة الخمسة الدولارات أكبر من الورقة التي من فئة الدولار الواحد، وكان مقتنعًا بهذا طول الوقت حتى أنه قام برهان مع أحد أصدقائه لإثبات هذه الحقيقة وكان أن خسر الرهان… ورقة من فئة الخمسة دولارات!

ومما يذكره الكاتب أيضًا أن إحدى الزوجات كانت تقدر حماتها تقديرًا كبيرًا، أو بالأحرى كانت تخشاها إلى حد كبير. وفي يوم من الأيام كانت تصف هذه الحماة لأحد أصدقاء زوجها فذكرت عنها أنها من النوع الضخم، الطويل، العريض، وأنها أكثر طولاً من زوجها نفسه!.. ولقد أثار هذا الكلام دهشة الزوج إلى الحد الذي دعاه إلى تحقيقه، ولشد ما كانت دهشة الزوجة عندما رأت أن حماتها أقصر من زوجها بكثير!

وتستطيع أن تؤكد هذا الكلام بسهولة بالنسبة للأطفال الذين يتأثر إدراكهم بسهولة بقيمة الشيء عندهم… اطلب من طفل في سن السادسة أو الخامسة أن يرسم لك الفصل وفيه المدرس تجد أنه في الغالب يرسم التلاميذ صغارا جدًا، في حين يرسم المدرس في حجم عشرة أطفال على الأقل!

ولا يتأثر إدراكنا للأشياء بقيمة الشيء بالنسبة لنا وحسب، بل يتأثر أيضًا بدوافعنا وتوقعاتنا، ومخاوفنا، وحاجاتنا واتجاهاتنا، ونوع شخصيتنا، وغير ذلك من النواحي النفسية، وفي أمثالنا كما في ملاحظاتنا العرضية لما يحدث لنا في حياتنا اليومية ما يؤيد ذلك، فضلًا عن إتيانه بالدليل القاطع عن طريق التجارب العلمية…

فنحن نقول مثلًا (القرد في عين أمه غزال)، ونقول أيضًا (الجعان يحلم بسوق العيش)، ونقول كذلك (اللي يخاف من العفريت يطلع له)، وفي الأدب العربي يقول الشاعر (وعين الرضا عن كل عيب كليلة).

بل أن لكل منا في حياته اليومية ما يؤيد هذا الكلام، إذ كم من مرة مثلًا كنت تنتظر صديقًا عزيزًا عليك وأخطأت فظننت كل قادم هو ذلك الصديق العزيز؟! وفي أيام الغارات الجوية: هل أدركت أي صوت من الأصوات المفاجئة على أنه شيء آخر سوى طلقة مدفع أو صوت قنبلة؟ حتى وإن كان ذلك الصوت هو صراخ طفلك البريء النائم في الحجرة المجاورة؟

وإذا كان هذا الكلام يصدق على إدراكنا للأشياء المادية فإنه في المواقف الاجتماعية التي تحتمل دائمًا أكثر من معنى واحد يكون واضحًا كل الوضوح بحيث تستطيع أن تقول إن الذي يحدد إدراكنا للمواقف الاجتماعية هو حالاتنا النفسية أولًا…

– نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *