للدكتور أبو مدين الشافعي

الاختصاصي النفسي

(يعتقد الآباء أن النقد وسيلة الإصلاح، والواقع أن النقد

يولد الشعور بالنقص، وهذا هو أهم سبب للخجل…).

لا يمكننا أن نتحدث عن الخجل دون الإشارة إلى ألوان الطبع.. فهناك أشخاص تغلب عليهم العاطفة ويتأثر سلوكهم كله بالمواقف العاطفية.. وآخرون يتصفون بحدة الانفعال، ويتسمون بالسلوك العدائي العنيف… وثمة أشخاص ميالون إلى الانقياد للآخرين والتأثر بهم والخضوع لإيحائهم؛ وهؤلاء لا يكوِّنون رأيًا بالسهولة المعهودة في الحالات الطبيعية، وتتجلى فيهم الحيرة والتردد، ويظهرون دائمًا بمظهر الأطفال الضعاف..

ولا نستطيع حصر ألوان الطبع المختلفة، فليس هناك نفس واحدة، ولكن هناك نفوسًا تتفاوت في سلوكها، وفي قواها أو ضعفها، كما تتفاوت الأجسام والوجوه؛ ولذلك كان من الأصح أن نسمي العلم الذي يدرس الموضوع (علم النفوس) بدلًا من علم النفس.

وقد اختصت مدارس ببحث الطبائع وتحديد خصائصها لتصنيف الناس، وفهم اتجاهاتهم واستغلالها في اكتشاف المواهب والاستعدادات. وهناك طريقان رئيسيان للوصول إلى فهم النفوس والوقوف على مواهبها أو عيوبها: أولهما هو الفطرة والبديهة والإلهام؛ وهذا هو الطريق الذي اتبع منذ القدم؛ وهو قائم على خبرة العالم النفسي وعلى فطنته… وأما الطريق الثاني فهو الطريق العلمي القياسي الذي يحاول أن يستخدم بعض القواعد والقوانين الحسابية التي تستنتج وتقدر وتستخلص الطبع، كما نستخلص النتيجة الرياضية والحل الحسابي.. وقد أكد علماء لهم مكانتهم مثل (أندريه لوجال) (André Le Gall) أن الفصل بين الطريقين غير ممكن، بل لا بد من الجمع بينهما.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرس موضوعًا مثل الخجل عند المراهقين ونصل إلى نتائج يفهمها الناس وتفيدهم في حياتهم اليومية. وموضوع الخجل موضوع مهم، لأنه يضيع على الكثيرين فرصًا طيبة، ويحرمهم من التمتع بمواهبهم التي تظل مختفية وراء ستار الخجل الأحمر- وأصفه بالأحمر إشارة إلى الحمرة التي تغمر وجه الشاب الخجول- مخبوءة وراء مظهر الضعف، الذي يتجلى في الارتباك واللعثمة.

والخطير في موضوع الخجل هو موقف الوالد من ابنه الخجول فهو يحمله مسئولية سلوكه، ويتهمه بالتقصير ويدفعه بالنقد والتأنيب إلى التخلي عن خجله، كما لو كان مخيرًا قبل الوقوع فيه! والمؤلم في هذا الموقف الشاذ الذي يقفه الآباء من أبنائهم أنهم هم الذين فشلوا في تربيتهم، وهم الذين هيئوا لهم أسباب الخجل. وقد يحتج بعض الآباء ويدعون أنهم لم يكونوا أبدًا مشجعين على مثل هذا الموقف؛ فنرد عليهم آسفين أن الخجل من صنع الأبوين، وهما المسئولان عن هذا العَرَض الذي يشل إرادة الشباب، ويعرضه للفشل في الدراسة، وفي العمل، وفي الزواج؛ وبذلك يقوض الخجل الحياة كلها، نتيجة شعور الشاب بقيمته الداخلية، والصراع المستمر بين القدرة والعجز.

ولا أكون مغاليًا إذا قلت أن بعض حالات الخجل أودت ببعض الشباب إلى الانتحار، خصوصًا بعد أن تدخلت العاطفة ووجد الشاب نفسه محصورًا بين الخجل والحب، وفشل في الوصول إلى مطلبه من امرأة مالت إليه ولم يستطيع تحقيق رغباتها لخجله أو ضعفه..

 

كيف يمكن للآباء خلق الخجل عند الشاب؟ هذا سؤال يحتاج من الآباء إلى شيء من الهدوء لقبول هذا التصريح بنية حسنة، فهو صادر من أناس بحثوا واستقصوا قبل التصريح، ولا يبتغون إلا القضاء على هذا الداء الذي يضيع على الفرد مزايا عدة، ويحرم الأمة من مواهب قيمة…

إن جهلنا بالتطورات النفسية للطفل تعرضنا لارتكاب أخطاء تبدو بسيطة ولكنها في الحقيقة خطيرة، وتسبب الضرر للشخصية النامية.

فالقسوة الزائدة عن الحد التي يلجأ إليها بعض الآباء بنية تهذيب الطفل إنما تمنع الجرأة الطبيعية، وتكسر الإرادة، فيصبح الشاب هيابًا يخاف كل شيء، وكل شخص، بل إنه في بعض الأحيان يخاف نفسه، ويخشى أن يطالب بحقه، وقد يقسو على نفسه، ويحرمها من كثير من الأشياء خوفًا من ضميره…

ولا يفوتني أن أشير إلى الخجل الذي يستولى على أشخاص يشعرون بالقوة تصرخ في أعماق نفوسهم، فإذا خجلهم ينقلب إلى تهور واندفاع، كأنما يخشون أن يمنعهم الخجل من الاستمرار في أعمالهم… فكأنهم أغمضوا أعينهم ورموا بأنفسهم في مغامرة خطيرة ليثبتوا لأنفسهم والناس أنهم أقوياء.. فبعض الخجولين يتجهون إلى العنف مداراة للخجل أو علاجًا له…

ويعتقد بعض الآباء أن كثرة النقد وسيلة من وسائل الإصلاح والتربية؛ والواقع أن الإسراف في النقد يولد في نفس الشاب الشعور بالنقص، وهذا هو أهم سبب للخجل، والتردد، والإحجام عن المطالبة بالحق، والدفاع عن النفس.. والناس لا يرحم بعضهم البعض. فإذا لمس شخص في آخر شعورًا بالنقص، فإنه يحاول استغلاله، ويخضعه لرغباته خضوعًا مطلقًا.

ومهما نحاول، فلن نستطيع حصر الأسباب التي تؤدي للخجل.. فالخجل هو نتيجة الضعف النفسي.. والخلاف العائلي بين الأبوين يولد في نفس بعض الأطفال الهم والحزن، وهذان يهدمان في نفسه كل شعور بالقيمة، ويطفئان الرغبة في الحياة، فتنطفئ معها الرغبة في الكفاح والاندماج في الناس على أساس المساواة، والتعاون، والأخذ، والإعطاء.. ولا يتفطن الآباء والمربون إلى النفس تفطنهم للجسم. فإن أقل برد يطرأ على الجسم يجعل الأمهات يسرعن للطبيب، ويسهرن الليل لحماية الشاب من برده ومن زكامه..

ولكننا نشجع الخوف، ونربي الخضوع ونحطم الإرادة إرضاء لسيطرة الأب لأنه أب!.. ويؤدي ذلك كله إلى نفس ضعيفة لا تقدر على مواجهة أي موقف يدعو إلى شيء من الجرأة، أو من الكفاح، أو الابتكار.. إننا نخلق في أطفالنا الخوف من الحياة لشدة خوفنا عليهم.. وقد يقف الآباء وأحيانًا الأمهات أمام أبواب المدارس، والجامعات، والمصالح ليساعدوا أبناءهم على الدفاع عن أنفسهم أو يتولوا عنهم طلب حقوقهم، ذلك لأن الشاب لا يحسن الكلام مع الرؤساء ولا يجرؤ على مقابلة مديره… فهل يعجب الأهل بعد هذا حين يلاحظون على أبنائهم ابتعادهم عن الناس، وخوفًا من المرأة، وهروبًا عامًا من الحياة، وفشلًا متواصلًا في العمل؟!

ويفكر الأب تفكيرًا عميقًا في الأمر، ويتدخل الأهل، ويصبح الشاب الخجول همَّ العائلة، ويصبح موضع البحث أمام لجان الخالات، والعمات، والأهل والخلان… وينتهي البحث أحيانًا بقرار إدخاله الجيش ليتربى ويصبح رجلًا؛ بدلًا من أن يكون رجلًا ليدافع عن بلاده ويفيد من تربية الجيش!.

 

يجب أن تربى الثقة في نفس الشاب بجعله مسئولًا عن نفسه والكف عن إشعاره بالعجز، واستمرار معاملته كطفل ضعيف لا يعرف شيئًا.. إن الأخطار تهددنا في كل لحظة، ومهما نفعل لا نستطيع أن نبعد كل الأخطار، ولابد من أن يجد الشاب يومًا نفسه وحيدًا أمام بعض المشكلات التي لا يستطيع إشراك أمه أو أبيه في حلها..

إن تعلق الأم الزائد عن الحد بابنها الشاب يجعله عاطفيًا، ويبعده عن مواجهة الحقائق مواجهة صريحة، ويوحي إليه دائمًا أنه لا يزال طفلًا يعول دائمًا على أمه.. وقد رأيت شابًا يشعر بالصداع والخوف كلما ابتعد عن أمه، ولا يمكن أن يتصور، حتى في الخيال، ابتعاده عنها، ولا ينقصه إلا البكاء، كما يفعل ابن السنة أو السنتين!.

هذه حالات شائعة تتجلى في الشباب الخجول، القلق، الخائف، المنطوي على نفسه، المتردد، المحروم من تقدير الناس لعدم تقديره لنفسه.

يجب أن نحارب الخجل منذ الطفولة، ويجب على الشاب الخجول أن يعرف أصل مرضه، ويحاول الابتعاد عن كل الوسائل التي تجعله يسلك كالطفل مثل التعويل الكلي على الأبوين، فإن ذلك يحرمه من الحرية، ويجعله يؤثر العمل الحكومي المستقر حتى ولو كان قادرًا بموهبة على التمتع بالاستقلال، وفرض الذات، والوصول إلى العمل الفني المغذي للشخصية.

-نُشر أولًا يموقع حياتك.

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *