للأستاذ عبد المنعم الزيادي
في يوم واحد لقيت مهندسًا زراعيًا اعتزم أن ينشئ مكتبة عامة… ومتخرجًا في كلية التجارة قد افتتح كشكًا لبيع السجائر والحلوى، والمرطبات وطالبًا بليسانس الآداب يفكر في افتتاح محل لبيع المأكولات الشعبية…
وأثلجت فؤادي هذه الروح المتوثبة في شبابنا الذي أصبح يعزف عن استجداء العمل الرتيب الذي يضمن له دخلًا، مهما يكن محدودًا، ويلقى بنفسه في خضم العمل الحر الذي يكافأ فيه على قدر ما يبذل من جهد، ومثابرة..
ولكني برغم ما شملني من غبطة، جال بخاطري ما حفزني على التوجس، وحملني على التشكك، فعدت أسأل كلا من الثلاثة: (ما هدفك)؟
قال الأول: (أيام تلمذتي كنت أجد عناء في شراء الكتب الجامعية لفداحة أثمانها، فكنت أتسوق هذه الكتب من الطلبة الذين لم يعودوا بحاجة إليها، فأشتريها (نصف عمر) بثمن أقل، حتى إذا انتهيت من العام الدراسي بنجاح، عدت إلى بيعها لراغبي الشراء الذين تبهظهم أثمان الكتب الجديدة أمثالي… ولم أكن في هذا فريدًا، بل كان هناك مئات الطلبة ممن هم في مثل حالتي، وكانوا يفعلون مثلما أفعل، أو ينشدون أن يفعلوا مثلما أفعل… فلما تخرجت عوّلت على أن أمهد للطلبة الذين يبهظم شراء الكتب الجديدة سبيل الحصول على هذه الكتب (نصف عمر) بثمن في متناول اليد… سأشتري الكتب الجامعية من راغبي البيع لأبيعها لراغبي الشراء، وهم كثيرون، بثمن معتدل، إن هدفي أن أجنب الطلبة ما عانيت منه وأنا طالب.
وقال الثاني: (لقد افتتحت (الكشك) وأنا لم أزل طالبًا لأتدرب فيه عمليًا على التجارة، وقررت أن أحتفظ به بعد تخرجي ليكون حقلًا للتجارب أقفز منه إلى محل أكبر، وربح أوفر، مستعينًا في ذلك بدراستي العلمية وبخبرتي العملية).
وقال الثالث: (ما كرهت في حياتي قط قدر المظاهر الكاذبة التي ليس وراءها إلا الفقر!… لقد أنهيت إلى كثير من زملائي باعتزامي افتتاح محل لبيع الفول والطعمية فهزأوا مني، وجعلوني هدفًا لسخريتهم، وأنا أعلم أن آباءهم الموظفين لا يكسبون معشار ما يكسب (الجرسون) وسائق التاكسي، وصاحب مطعم الفول!.. إنني أريد أن أحدث ثورة في عقلية الشباب الذين ما زالوا ينظرون إلى أنواع معينة من العمل الشريف على أنها أعمال مهينة مُحِطّة!).
وازداد صدري انشراحًا… فقد كان كل منهم يرى هدفه في الحياة تمامًا… كان الأول ينشد خدمة فئة كبيرة من الشبان. فئة الطلاب… وكان الثاني ينشد الكسب الذي هو خليق به لأنه تؤهله له دراسته وتجاربه… وكان الثالث ينشد أن يقيم من نفسه مثلًا يُحتذى للشباب.
وازددت غبطة لأن هدف كل منهم كل فعلًا هدفًا يستحق السعي إليه… كان هدفًا قائمًا على أساس متين… هدفًا يقوم على رسالة يريد أن يحققها في حياته لكي تجعل لحياته طعمًا ومعنى…
إن رؤية الهدف هي نصف الطريق إليه، فمتى لاح لك هدفك واضحًا مستبينًا وسعك أن تُقدّر بعدك عنه، والجهد اللازم لبلوغه، والسبل التي تركبها إليه.
قد يبدو لك هذا كلامًا بديهيًا أو معادًا، ولكن ما قولك في هذا العدد الكبير من الناس الذين بلغتهم هو الزواج نفسه!… والتي تعزف عن الزواج ابتغاء العمل خليقة أن تخرج على أنوثتها وطبيعتها لتصون الهدف الهزيل الذي نشدته، وهو العمل لوجه العمل!
والذي يتمثل أمامه هدفًا أقدرُ من الذي افتقد الهدف على احتمال معاكسات الأقدار، والصبر على المكاره، فهو يؤمن بأن بعد العسر يسرًا، وأن بعد الكرب الفرج.. ذلك أنه حين سعى للهدف لم يغفل ما قد يلقاه في الطريق من عقبات، وجعل في اعتباره أن يخطئ أحيانًا فيكتسب من الخطأ علمًا، وأن يتألم أحيانًا، فيزداد على الألم منعة، وأن يتعثر أحيانًا فيفيد من العثار خبرة.
ثم انظر إلى الذين افتقدوا أهدافهم… هذا شاب رسب في الامتحان فأظلمت الدنيا في عينيه وأصبح الموت إليه أحب.. وهذا طالب وظيفة امتنعت عليه فترة فوقع فريسة لليأس… وذاك تأخر عليه الدور في الترقية فأوشك الغم أن يصيبه بالمرض وهذا تدلَّلَت عليه فتاته فأسلم نفسه للشقاء… وذاك تأزمت حالة المالية حينًا فتزلزل كيانه…
هذه هي العثرات التي يكتسب منها ذو الهدف عزمًا… وهذه هي المكاره التي يفيد منها صلابة وقوة… أنه لا يتجنبها، ولا يهرب منها، بل يواجهها ويخوضها، ثم يخلفها وراءه ويمضي قدمًا نحو الهدف… إنه يعلم أن هذه العقبات لم تغير من الهدف شيئًا.. إنها لم تطمس معالمه، ولم تمحه من نظره… إنه ماثل هناك أمامه عبر الطريق، ولن تغير هذه العقبات من الأمر شيئًا، بل هي على العكس تؤججه حماسة وتصميمًا.
وهل يكفي أن يكون لك هدف أي هدف؟!
كلا، فكما أنه من أسوأ الأمور أن يختلط الهدف بالوسيلة، أو أن تغدو الوسيلة هدفًا، كذلك من أبعث الأمور على التعاسة أن تتخذ هدفًا لا يمكن تحقيقه… أو تتخذه بدافع التقليد الأعمى، أو بدافع البريق الذي يكسوه!
إن ما يسعك أن تحققه قد لا يسع إنسانًا آخر أن يحققه.. فلك ميولك، وقدراتك، وذوقك واتجاهاتك الذهنية- ما هو موروث منها وما هو مكتسب… ألا تذكر، حيث كنت في المدرسة، كيف كان بعض الطلبة بارعين في اللغات، وبعضهم الآخر بارعين في الرياضيات؟ فالذي افتقد البراعة الرياضية لا يأمل أن يكون مهندسًا وإلا كان واهمًا، وكذلك الذي افتقد البراعة في اللغة لا يأمل أن يكون كاتبًا أو شاعرًا وإلا كان يُشيّد هدفًا على الهواء!
وقد تختار مهنة الطب هدفًا لكسب تنشده من ورائها، ولكنك لا تتمتع بالجلد، والصبر، والقدرة التي لا بد من توفرها لدارس الطب… وليس معنى ذلك، إذا كان الكسب هو هدفك أنك لن تستطيع أن تبلغه ما دمت فعلا تصلح لمهنة الطب… كلا، فمتى صنعت لنفسك هدفًا يتفق مع قدراتك فربما كسبت من استغلال هذه القدرات أكثر مما يكسب الطبيب… ربما كنت أهلًا لأن تصبح تاجرًا، أو رجل أعمال، ومبتكرًا، أو كاتبًا مشهورًا، ولكن رغبتك في أن تحاكي هذا أو ذاك ممن تؤهلهم قدراتهم لمهنة الطب قد حجبت عنك قدراتك الخاصة.
أو قد يجذبك بريق مهنة الصحافة مثلًا فتنشد أن تكون صحفيًا ذائع الصيت، وليست لك على ذلك القدرة، في حين أنك لو تخيرت الهدف الذي يناسب قدرتك لطارت شهرتك وذاعت.
فسائل نفسك، أتراني قديرًا على تحقيق هذا الهدف الذي اتخذته لنفسي؟.. ألا يجوز أنني أحسد فلانًا، ولذلك اتخذت لنفسي هدفًا شبيهًا بهدفه؟.. هل أنا واثق أنني أمضي إلى هدف أنا خليق بتحقيقه، ولست أمضي إلى بريق لا أخطو إليه خطوة حتى يتباعد خطوة؟
وكيف تختار لك هدفًا إذا لم يكن لك هدف؟
إن هذا يقتضي منك أن تقوم بعميلة جرد لنفسك… جرد لميولك وقدراتك… جرد لرغباتك ومطامحك… جرد لعواطفك وإحساساتك، فأسمى الأهداف هدف أملاه إحساس نبيل، وساندته رغبة قوية، وأيدته قدرة قادرة…
وقد تختار هدفك ولكن الظروف تقف حائلًا دونك والطريق المفضية إليه… قد تنشد أن تغدو كاتبًا ولكن (لقمة العيش) تحتم عليك أن تغدو مدرسًا!… أو قد يكون هدفك أن تغدو مصورًا ولكن القوت يحتم عليك أن تصبح (صرافًا) فكيف السبيل لتحقيق الهدف إذن؟
السبيل عندئذٍ هو وقت فراغك!… أي أن تتخذ من العمل الذي ترغب أن يصبح عملك هواية تمارسها متى فرغت لنفسك… وما أكثر الذين أنضجوا قدراتهم بالهواية أولًا حتى إذا سنحت الفرصة حولوا الهواية إلى عمل، وحققوا بذلك أهدافهم.. (ديموستين) خطيب أثينا كان يتدرب على الخطابة وهو واقف على شاطئ البحر بعيدًا عن الأعين… (فورد) كان يجرب تسيير مركبة لأول مرة بدون خيل في (اسطبل) خرب بمزرعة أبيه… طه حسين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم ظلوا في الوظيفة البعيدة جدًا عن أهدافهم، حتى سنحت لهم الفرص لتصبح هواياتهم هي أعمالهم… ولكن الهدف لم يغب عن نواظرهم.
إنك متى جعلت لنفسك هدفًا فلن يضيرك من أين تبدأ أنك ستبدأ قطعًا أيًا كانت نقطة البداية، وبالغًا مبلغ البعد بينها وبين الهدف… إن تمثل الهدف سيشحذ عزيمتك، ويلهب همتك ويفتق لك السبل..
ولكن… تخير هدفك أولًا.
-نُشر أولًا بموقع حياتك.
لا تعليق