للدكتور مصطفى فهمي

أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس

قد يكون الخجل ظاهرة طبيعية وقتية، وقد يكون ظاهرة مرضية، ولكنك في الحالتين تستطيع التغلب عليه

الخجل ظاهرة طبيعية تظهر في فترات معينة من العمر، وتحت ظروف خاصة في حياة الإنسان. ذلك أن من خصائص النمو الاجتماعي أن يمر الأطفال عامة بفترة من الشعور بالخجل، وخاصة عن الاختلاط بالغرباء. كذلك يعتري المراهق (والمراهقة) الخجل بسبب بعض المشاعر التي يتعرض لها في هذا الدور، والتي يمكن إرجاعها إلى التغيرات الجسمانية التي تسبق فترة البلوغ بسبب نشاط الغدد، وخاصة الغدد الصماء، ولهذا النشاط آثاره في زيادة الحساسية والخجل عند المراهقين.

ومعنى هذا أن الفرد في فترات معينة من النمو، يتسم سلوكه بالخجل ثم يتخلص منه بتفاعله الاجتماعي في السنوات التالية، إلا أننا نلاحظ في بعض الحالات استمرار الالتجاء إلى الخجل كوسيلة للهروب من الاحتكاك الضروري بالحياة الاجتماعية، فيتحول الخجل عندئذ إلى عادة قد تتطور إلى أحاسيس مرضية كالشعور بالاضطهاد أو الانعزالية والملاحظة البسيطة تجعلنا ندرك أن من الناس من هو أشد تعرضًا للحساسية عن غيره، فالخجل الشديد، والانطواء يجعلان الفرد شديد الإحساس بنفسه. كما أن الشخص الذي يرسم لنفسه مستويات عالية يريد أن يعيش فيها يكون أكثر تعرضًا للخجل والحساسية من غيره. فأي شخص يحاول اكتساب مهارة ما، أو التصرف في موقف اجتماعي معين، معرض لأن يكون خجولاً شديد الإحساس بنفسه وخاصة إذا أصابه بعض الفشل في أول خبرته.

ولا شك أننا جميعًا نتعرض لمثل هذه المواقف في بعض الأحيان، لذلك فإنه من الخطأ أن يرى بعض الناس أنهم هم وحدهم الذين يضايقهم ذلك الإحساس..

على أن استمرار هذه الظاهرة حتى منتصف العمر، يعتبر شذوذًا يجب علاجه، وخاصة إذا وصلت الدرجة بالفرد إلى الرغبة في الابتعاد عن الحياة الاجتماعية العادية لإحساسه بالألم من معاشرة الغير، فأمثال هذا الفرد يجب أن يستعينوا بالاختصاصيين النفسيين إذا لم يستطيعوا أن يتخلصوا من هذا النقص بأنفسهم، بأن يعتادوا مواجهة الأحداث التي تتميز بها حياتهم.

أهم أسباب الخجل

ومن أهم الأسباب التي تؤدي إلى الخجل ما يتعرض له الفرد في حياته المبكرة من خبرات قد تكون سببًا في تركيز الخجل أو خلقه أو إطالة فترته إلى أكثر من الحد الطبيعي. ونذكر من هذه الخبرات، على سبيل المثال:

• أن تضع الأسرة الطفل موضع الاهتمام أمام الغرباء، أو أن تظهره بمظهر الطفل الكامل، فإذا تعرض للفشل بسبب هذه الصورة التي رسمتها له الأسرة ترتب على ذلك تعرضه للخجل كوسيلة للهروب من المواقف التي اضطر إلى وقوفها..

• أن يتكرر مدح الطفل وتعظيمه أمام الغرباء، أو تتكرر عند التعليق على سلوكه العبارة المشهورة (سيحبك الناس إذا فعلت كذا…) وهو مستوى يجد الطفل، بطبيعته، أنه لا يستطيع أن يعيش فيه، فيلجأ للخجل كستار يحتمي به من فشله في الوصول إلى المستوى الذي تدفعه الأسرة لبلوغه..

• إغاظة الطفل إلى درجة كبيرة بوساطة الكبار الذين ينقصهم الفهم الصحيح لطبيعة الطفولة، مما قد يدفع الطفل إلى الابتعاد تمامًا عن كل أنواع الاحتكاك الاجتماعي، إذ يرى في ذلك ما يتعارض مع إثبات ذاته..

• قد يستجيب الطفل استجابات عميقة لبعض الأحداث الاجتماعية أو الوجدانية التي تمر بالأسرة، كفقد أحد الوالدين، أو ميلاد طفل جديد يصبح موضع العناية ويسلب الطفل الأول ما كان يستمتع به من عطف ورعاية دون أن يعد إعدادًا طيبًا ليقتسم مع المولود الجديد عناية الأم ورعايتها. ففي مثل هذه الحالات يصبح التحقير أو الضغط أو غيرهما من الوسائل، ذات عواقب وخيمة تخلق من الطفل شخصًا غير سوي. ولا وسيلة لتخليص الطفل من هذه العواقب الوخيمة إلا بتخفيف حدة التوتر الداخلي، ذلك التوتر الذي تكون نتيجته غالبًا الخجل الشديد، والرغبة في اعتزال المجتمع.

كانت تتلهف على العطف!

والحالة التالية توضح بعض العوامل الآنفة الذكر وكيف تضافرت على خلق الخجل:

طفلة عاشت سنوات حياتها الأولى محط أنظار الجميع، مدللة من أفراد الأسرة. فلما بلغت من العمر السنتين ونصف السنة، تعرضت لكارثتين وجدانيتين في ظرف ثلاثة أشهر: فقد ذهب أبوها للخدمة العسكرية فحرمت اهتمامه، ورزقت أمها بطفلة جديدة أصبحت موضع عنايتها ورعايتها، ففقدت حنانها..

ولما بلغت المولودة الجديدة الشهر السادس كان من الواضح أنها أجمل من أختها، وهنا بدأت تصدر عن الطفلة أنواع من السلوك غير المألوف كي تجذب إليها الأنظار، منها أنها كانت تطيل فترة بقائها في دورة المياه، أو تمتنع عن الأكل، أو تتعمد الذهاب إلى مخدعها في ساعة مبكرة… ولكن هذه الوسائل فشلت في حمل الأم على الاهتمام بها، ومن ثم أقلعت عنها الطفلة ولجأت إلى التعلق بالآخرين وخاصة من الكبار، فكانت تجالسهم، وتحادثهم، وتداعبهم لتجذب انتباههم، ولكن عندما بلغت الأخت الجديدة سنًا تستطيع فيها أن تجتذب اهتمام الكبار، لجأت صاحبتنا إلى الصمت المطبق واعتراها الخجل الشديد وراحت تعتزل المجتمعات، بعد أن فشلت في جعل الناس يهتمون بها!

ولاحظت الأم وضيوفها ذلك على الطفلة ولكنهم لم يفعلوا شيئًا ليخففوا عن الطفلة آلامها، فزادت عزلتها، بل كانت تخفي نفسها خجلاً من الزوار الذين يترددون على الدار!

وفي مثل هذه الحالات يلجأ الأطفال عادة إلى العدوان على الأخت أو الأخ المنافس كوسيلة للتعويض، أو يستعملون وسائل الإيذاء البدني كنتيجة طبيعية لرغبة ملحة في التخلص من هذا الدخيل. ولكن صاحبة هذه الحالة لم تلجأ إلى هذه الطريقة، بل على العكس راحت تتظاهر بأنها تشعر بالارتياح لمرافقة أختها في حجرتها وذلك كي تحصل على رضاء أمها، أو لتفوز بكلمة تشجيع أو إعجاب.

وعندما بدأت الطفلة تختفي من المجتمعات بسبب ما تشعر به من الخجل الشديد أثار هذا السلوك اهتمام الأم، فأخذت تستعمل أساليب الضغط المختلفة لحملها على الاختلاط، وعلى محادثة الزوار، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا أن ازدادت الطفلة حساسية وشعورًا بعدم التوافق الاجتماعي، ووصلت إلى درجة كانت تفضل فيها الصمت، ثم تطور الأمر فأصبحت تخجل حتى من أمها!. ولم تشف الطفلة من الخجل إلا بعد أن استشارت الأم الاختصاصي النفسي، فأشار عليها باتباع أسلوب معين في معاملة الطفلة..

ومن هذا المثل نتبين أن الخجل في هذه الحالة يرجع في أساسه إلى بعض الأحداث الاجتماعية التي حدثت في الأسرة والتي كان لها أثر بالغ في نفسية الطفلة.

كيف شفيت من الخجل؟

وفيما يلي نسوق بعض الوسائل التي اتبعتها الأم -بعد مشاورة الاختصاصي النفسي- لعلاج الطفلة مما كانت تحسه من خجل، وهي تعتبر في جملتها نصائح عامة يمكن تطبيقها لمحاربة الخجل عند الأطفال:

أولاً- كلما حضر إلى منزلهم زوار، احتضنت الأم الطفلة في هدوء واشتركت بها معهم في أحاديث عامة ليست الطفلة محورها، وكان في ذلك نوع من إشعار الطفلة بأنها لم تعد فريسة للفشل الاجتماعي، ومن ثم قل خوفها من أمها، كما تشجعت على تبادل عبارات التحية مع الناس.

ثانيًا- وضعت الأم خطة دقيقة لتعطي الطفلة قسطًا من الاهتمام يكفي لإشعارها بأنها ليست منبوذة اجتماعيًا، وعهدت إلى الطفلة بأشياء تعاونها فيها، وكان لهذا التعاون الفضل في إجاد نوع من الزمالة المحببة، زادت من فرصة التحدث إلى أمها بشكل طبيعي. وقلت بمرور الأيام الفترات التي تشعر فيها باستحالة التحدث إلى أمها، وحل محل ذلك شعور بالارتياح إلى المحادثة.

ثالثًا- تحدثت الأم مع زوارها ممن وجدت منهم رغبة في التعاون على مساعدة الطفلة للخروج من هذا الوضع، فعاونوها على جذب الطفلة بهدوء إلى موضوعات المناقشة والحديث. وقد بدأ ذلك بالأحاديث التي لم تكن تحتاج من الطفلة لردود معينة أن شعورها بالاطمئنان أخذ يزداد، وأنها لم تعد غريبة عن هؤلاء الضيوف وأنها تستطيع أن تتحدث إليهم دون حرج.

وبعد عامين من اتباع هذا النظام الموجه، خرجت الطفلة من خجلها وأصبحت تمارس أنواع التحيات الاجتماعية من سلام، وتحية، وتوديع، وبهذا استطاعت أن تشعر بها -ولو أنه ليس لها ما يؤهلها لاجتذاب انتباه الناس إليها- إلا أنها تستطيع أن تنجح في نوع أو آخر من أنواع الاحتكاك الاجتماعي.

هذا مثل من أمثلة الخجل عن الأطفال أوضحنا أسبابه، والطريقة التي عالجته بها الأسرة، وهي تقوم في أساسها على استئصال أسباب الشعور بفقد المركز الاجتماعي، أي على إعادة الثقة بالنفس.

الخجل عند الكبار

أما الخجل عند الكبار فيتميز بالحساسية الزائدة، والشعور بالنقص، والتردد، كما أن بعض الأفراد قد يصيبهم نوع من شلل الكلام أو الحركة بسبب الخجل الشديد بينما يصبح أفراد آخرون في حالة نشاط زائد عندما يزداد إحساسهم بأنفسهم.

ونستطيع أن نوضح بعض هذه الأعراض من واقع ما قاله أحد المترددين على إحدى العيادات النفسية:

(إن ميلي الشديد للخجل يجعلني شديد الإحساس بنفسي كلما اضطرتني الظروف لأن أسير بين صفوف الناس في أي مكان، إذ أعتقد أنهم يرصدون كل صغيرة من تصرفاتي. وفي الحالات الشديدة أشعر بقشعريرة باردة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي. فإذا طلب إليَّ أن أتحدث إلى جماعة من الناس لم أستطيع دون الرجوع لورقة، وكثيرًا ما يتعذر عليّ قراءة ما فيها بسبب رعشة يدي، وهنا أشعر بصوتي يخرج في نبرات غريبة على سمعي وكأنما أسمع صوتًا لا أعرفه، فأراه حادًا ضعيف النبرات، مكبوتًا، وناهيك بضربات قلبي الشديدة)!

دع الخجل

ولمن يشعر بالخجل تقدم النصائح التالية:

• واجه الموقف متنبهًا للموقف ذاته لا لنفسك، لأن الإحساس بالنفس أو الخجل نوع من الانسحاب من الموقف.

• كن أكثر إيمانًا وثقة بشخصيتك، ونشاطك، والغرض من هذا النشاط، فإن هذا الإيمان من شأنه أن يقلل من تعرضك للخجل.

• إن نجاحك في عمل تعمله يخفف من حدة الحساسية والخجل، لأنه يجعلك موضع إعجاب الآخرين، فأتقن ما تعمل، وانجح فيه، فهذا يساعدك على التغلب على الخجل.

• تأكد أن من تشعر بالخجل في حضرتهم لزيادة حساسيتك بنفسك ربما لا يفكرون فيك أبدًا، بل يفكرون مثلك في أنفسهم!

• إن الفشل في التوافق الاجتماعي يرجع أولًا وقبل كل شيء إلى نقص النشاط، وعلى المرء، لكي يتخلص من ذلك، أن يكون نشطًا، كثير الحركة، وأن يكون سريع الهجوم في المواقف الاجتماعية، غير متردد.

• إن اعتقادك بأن الخجل ظاهرة يتعرض لها جميع الناس تجعلك أكثر ثقة بنفسك، فلا تشعر بأنك شاذ، ومن ثم يقل شعورك بالخجل.

• إن الخجل والحساسية يسيران جنبًا إلى جنب مع الشعور بالنقص، فادرس سبب هذا الشعور، وغير موقفك منه بأن تحاول أن تبرره، أو أن تجد له سببًا يرضي نفسك، فإن هذا يزيد من انتباهك للمواقف الاجتماعية، أي بمعنى آخر: غير موقفك وشعورك نحو ما تعتقد أنه من نقائصك!

• استخدم كل الطرق الممكنة لتمر بخبرات ناجحة في سلوكك الاجتماعي، وهو سلوك يجب أن يتغير باختلاف من تتعامل معهم، ولكنه في النهاية يزيدك ثقة بنفسك ويبعد عنك الخجل.

• الخجل والإحساس بالنفس ظاهرة طبيعية في الفترة ما قبل سن العشرين، وهي تزول عند تمام النضج، ومعنى هذا أن الخجل في هذه الفترة ظاهرة وقتية.

• إن إحساس الفرد بنفسه، وخجله الزائد، قد يكون خطوة نحو كراهية شديدة، وبغض للمجتمع، وهما قد يرجعان إلى فقدان العطف أو الثقة بالناس، فثق بالغير، وتأكد من عطفهم عليك تتخلص منهما.

وخلاصة القول أنه كلما ازداد وضوح المفاهيم السابقة، والتوصيات السالفة في ذهنك، وأكثرت من التدرب عليها ازددت قدرة على التغلب على الخجل والحساسية الشديدة.

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *