للدكتور شيلر آبتون لوتون

أستاذ علم النفس بجامعة نيويورك

 

أطل الرعب من عيني (مستر كويري) وهو مستند إلى المكتب. وكان في أعماق عينيه شيء أهول من الرعب: هناك فزغ ويأس! ومن بين أسنانه قال للطبيب:

– المشكلة يا دكتور أني لا أجد لشيء طعمًا ولا معنى، ولا أستطيع أن أطيق التفكير في مصير بهذه الصورة يتمثل في شيخوخة واهنة… وهذا وحده كاف لكي أعاف الطعام، ويعصيني النوم وأعجز عن الضحك.. أن مجرد تفكيري في النزول كل صباح إلى مكتبي كاف لانقلاب معدتي… وأتمنى أن أفر من كل شيء، وأغدو أفاقًا شريدًا… وقد أشتهي أن أسكر وأظل سكران حتى الموت… وأحسبني شخصًا تافهًا لا خير فيه!

وهز الطبيب رأسه وقال:

– ليس من الحكمة أن تحكم على نفسك يا (مستر كويري).

الواقع أنك لست تافهًا، وإنما أنت مريض.

ويصر مستر كويري على رأيه في نفسه، ويعود الطبيب لهز رأسه ويؤكد له:

– إنك لم تطعن في السن. وحالتك ليست لها علاقة بالشيخوخة كما تظن، كل ما هناك أنك مصاب بنوبة من الذعر. وفي مثل هذه النوبة يكون من الطبيعي جدًا أن تفكر في الفرار، وتساورك رغبة التشرد أو السكر… ولكنها ليست إلا حلولاً من نوع أحلام اليقظة… وعليك أن تتعلم من جديد كيف تطرب وتبتهج وأنت تؤدي أعمالك اليومية… كيف تبتهج بما تعمل فعلًا، لا أن تشغل نفسك بالتفكير في المسرات التي فاتتك بالأمس، وقد لا تعوضها في الغد أبدًا.

– إن هذا يبدو أمرًا هينًا يسيرًا يا دكتور، ولكن لو أنني كان في إمكاني أن أفعل هذا الذي تقول، لما اضطررت أن ألجأ إليك الآن…

وابتسم الطبيب وقال:

– سأريك كيف تصل إلى ذلك.

هل عرفت حالات كهذه؟ ألم تشعر بهذا الشعور شخصيًا؟

لو كنت أمينًا في الإجابة عن السؤالين لكان جوابك عن السؤالين (نعم). فكل الفرق بين (مستر كويري) ومعظم الناس هو شدة درجة رد الفعل عند (مستر كويري)… فشعوره ليس فريدًا في بابه، لأننا جميعًا نشعر بشعور مماثل في فترات متفاوتة…

كل إنسان يمكن أن ينهار عصبيًا إذا عاجلته الأرزاء ولزمته زمنًا.. ولكن: ما هي نقطة الانهيار عندك؟

نقطة الانهيار

والدراسات الحديثة تشير إلى أن كل إنسان يمكن أن ينهار عصبيًا إذا عاجلته الأرزاء، ولزمته زمنًا كافيًا… ولكن: ما هي نقطة الانهيار عندك؟ أي ما هي النقطة التي لا تستطيع بعدها أن تحتمل من غير أن تنوء بالعبء فتنهار أعصابك؟ ومعنى هذا أن تلك النقطة موجودة ولا شك؛ والمهم أن تحددها وتعرف أين هي، وماذا وكم تستطيع أن تحتمل من غير أن تنوء بالعبء..

إن (الانهيار العصبي) أصبح على كل لسان، يتحدث عنه كل إنسان حديث العارف، مع أن الطبيب النفسي يجد فيه حيرة معضلة. والواقع أن الكلمة ليست لغزًا، فكل مغزاها أن الشخص لسبب ما إما أنه لا يريد، أو لا يستطيع أن يواجه مطالب حياته اليومية!

المخاوف وخيبة الأمل

ومن الأسباب المألوفة للانهيار العصبي المخاوف وخيبة الأمل. ومع هذا فما أكثر ما تكون المخاوف أو خيبة الأمل غير ناجمة عن وقائع حقيقية، بل عن تأويل خاطئ للوقائع الحقيقية… وما أشبه ذلك بحالة عسر الهضم تسيء تفسيرها فتحسبها قرحة أو سرطانًا… وسوء التأويل هو سبب معظم مخاوف الناس التي تبدد طمأنينتهم العقلية.

لنضرب مثلًا لذلك حالة (مستر جونز).. وهو رجل يقوم بعمل كتابي (روتيني). فهو قلق جدًا على مستقبله في العمل، بسبب العناصر الشابة النشطة التي دخلت الخدمة لتنافسه. بيد أنه بدلاً من مضاعفة نشاطه، وتقوية مركزه عند صاحب العمل بإظهار مزيد من التفاني في عمله، خارت أعصابه بسبب هذه الظنون والشكوك التي لا أساس لها!

وفي ذات يوم، مر الرئيس على مستر جونز دون أن يبتسم له أو يحييه لشرود ذهنه، فكان ذلك مصدر قلق شديد لجونز الذي ظل ليالي متعاقبة نهبًا للخوف من الفقر والنبذ!…

وصار يتوهم الإهانة المقصودة في كل إشارة تصدر عفوًا، فيزداد توترًا وخوفًا… إلى أن أصبح الانهيار العصبي محتومًا، لأنه ترك مخاوفه الوهمية تلقي به في هوة الأفكار السلبية الهادمة!

انهيار المثل العليا!

وأخطر أنواع خيبة الأمل ما نشأ عن اتضاح بطلان مثلك العليا وزيفها بعد وضعها في بوتقة التطبيق العملي!.. فالناس يتعلقون دائمًا بمثل عليا… والخطر كل الخطر في الاصطدام بين عالم الذهن وعالم الواقع بخشونته وبرودته. وهناك من يصمدون للصدمة ويجتازون الأزمة بسلام، ولكن هناك للأسف من يستولي عليهم اليأس، وهؤلاء هم المرشحون للانهيار العصبي!

ولكل فرد فكرة داخلية عن نفسه. فإذا تآمرت ظروف الحياة على تحطيم تلك الفكرة، استولى عليه الفزع، وثبطت همته، وعجز عن اختطاط سبيل عملي لنفسه.

إننا في ذلك المأزق لا نستطيع أن نواجه أنفسنا، أو نواجه الظروف، لأننا نعجز عن وزن الأمور حق وزنها بنزاهة. وإنما نريد أن نفر من المسئولية، ونغمض أعيننا وننسى كل شيء، أو نلقي الذنب على شخص ما أو شيء ما، أو نتعلق بالرجاء في معجزة تحدث…

التغير المفاجئ

والانهيار العصبي، للعجب الشديد، يمكن أن يحدث نتيجة أي تغير مفاجئ. فربح يانصيب السباق الكبير، أو خسارة كل شيء في تقلبات البورصة يمكن لأيهما أن يؤدي إلى الانهيار…

بل قد يحدث الانهيار نتيجة مجرد التفكير في أزمة مستقبلة مثل زواج الحبيبة من شخص آخر، ويمكن أيضًا أن يقع بعد مرور الأزمة تمامًا..

إن الانهيار العصبي يمكن أن يحدث عند أي أزمة من أزمات الحياة المختلفة، وليست هناك قاعدة ثابتة يمكن بوساطتها أن نحدد متى تقع الأزمة…

وهناك فريق من الناس يظن أنه بمنجاة من صروف الدهر، وهؤلاء يكون رد الفعل لديهم محطمًا مدمرًا حين تنزل بهم النوازل التي لم يتصوروها قط، ولهذا فهم أكثر عرضة للانهيار العصبي من غيرهم، عند أول ضربة… وتتوالى نوبات الانهيار كلما تكررت النوازل التي لم يتصوروا نزولها بهم أبدًا…

صيانة ماء الوجه!

وثمة أنواع أخرى من الانهيار العصبي، هي بمثابة (ستروجه) لمن يصاب بها… مثال ذلك هذا الرسام الفاشل الذي يصاب فجأة بداء عصبي في عينيه، أو حساسية (ارتكاريا) جلدية للألوان كلما تناول الفرشاة ليرسم… فإنه يستطيع أن يملأ الدنيا صراخًا بأنه لولا تلك الحالة لصار ملء الدنيا شهرة ونجاحًا ومجدًا… أو خذ مثلًا آخر، ذلك الأديب الذي يصاب بتقلصات تشنجية كلما أمسك القلم، أو يصاب ببحة مؤلمة كلما حاول الكلام…

إن كليهما ليست لديه رغبة حقيقية في العمل الفني، ولا نجاة لهما من وصمة الفشل إلا بتلك الأعراض العصبية!..

وفي كل موقف مشكل يحتمل الإجابة بلا أو نعم بنفس القوة، نجد أنفسنا في مأزق، فتتوتر أعصابنا، ويتراكم التوتر العصبي والذهني، والانفعالي، بازدياد الحيرة والشك، وأخيرًا يجد التوتر مصرفه في أجسادنا، فتتنكر متاعبنا النفسية في صورة مرض بدني!..

وقد تتجلى هذه الأقنعة الجسمية التي يتنكر فيها التوتر العصبي على صورة خفقان القلب، أو سوء الهضم، أو الإمساك، أو الصدع أو الشلل، أو فقد حاسة ما، أو نوبات صرع… وتعرف هذه الأعراض باسم (الأعراض المحولة)، لأن أسبابها الحقيقية أسباب غير جسمية، بل انفعالية أو عقلية، ثم تحولت إلى أمراض جسمية.

ومن هنا صدق الرأي القائل أن حالات كثيرة من قرحة المعدة يمكن علاجها بالطلاق من الزوجة المنغصة للحياة! وأن ضغط دم رجال المال يرتفع كلما هبطت أسعار البورصة، والعكس صحيح. وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه أهمية (الطب النفسي الجسمي) في عصرنا الحديث..

كيف تتجنب الانهيار العصبي؟

وكيف تتجنب الانهيار العصبي؟.. هناك بضعة قواعد تعينك على اكتساب الصحة النفسية في حياتك اليومية:

• لا تكن مثاليًا، ودع التفكير الحالم البعيد كل البعد عن واقع الحياة.

• دع اتخاذ الرغبة أساسًا للتفكير…

• اكتشف ما أنت أهل للقيام به من الأعمال.

• اشرع في رسم خطة لتحقيق هدفك.

• ابدأ في تنفيذ خطتك عمليًا.

• لا تنظر إلى الغد. اعمل اليوم.

• تذكر أنه لا وجود لشيء اسمه الفشل… وإنما الفشل في الواقع (عمل لم يتم).

• لا تحاول القيام بدور لم تخلق له… سر دائمًا في طريقك الطبيعي تتجنب الفشل.

• ابذل كل جهدك في كل عمل تقوم به، حتى يفارقك شعور الندم والإحساس بالذنب.

• تذكر أنه لا وجود للمصائر المحتومة في الحياة… وإنما هناك اتجاهات وبدايات.

فإذا اتبعت هذه التوجيهات فإنك ستبعد عنك خطر الانهيار العصبي وتجعل نقطة ذلك الانهيار لديك أبعد مما هي الآن بكثير…

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

 

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *