للأستاذ عبد المنعم الزيادي

هل انقضى عصر الخرافات بقدوم عصر الثورة الذي أصبح فيه العلم كالغذاء والهواء؟ كان الواجب أن يكون الجواب بالإيجاب، ولكن الملاحظ المدقق الذي هضم العلم كما يهضم الغذاء وتنفسه كما يتنفس الهواء لا يسعه إلا أن يهز رأسه أسفًا ويقول: لا.

فالخرافات ما زالت قائمة ماثلة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية، الجدي منها والهازل المهم منها والتافه.. بل هي قائمة ماثلة لا في أذهان الذين حرموا العلم أو نالوا منه القليل وحسب، بل كذلك في أذهان الكثيرين ممن بلغوا من العلم غايته –بحكم ما يحملونه من درجات أو إجازات علمية!- غاية ما في الأمر أن الخرافات بالنسبة لهؤلاء اكتسبت طابعًا علميًا، أي أنها اتخذت من العلم مطية ومركبًا!.

كان أجدادنا الذين حرموا نعمة العلم يسوقون الخرافات عن جهل، أما الشبان المتعلمون من أبناء هذا الجيل فيسوقون الخرافات نفسها بعد أن يلبسوها –عن جهل أيضا!- ثوب العلم!

ولنأخذ موضوعًا كالزواج مثلًا… فعلى مر العصور لم يحط موضوع بالخرافات كما أحيط موضوع الزواج… فهل تغيرت الحال بعد انتشار العلم؟ إن نظرة إلى إحصاءات الطلاق في نصف القرن الماضي كفيلة بأن تطلعك على الجواب!.. وأخطر ما في الأمر أن الطلاق –بعد انتشار العلم- اجتاح الحدود التي كان يقبع وراءها بين طبقة الأميين، وغزا طبقة المتعلمين بحيث أوشك انتشاره في الطبقتين أن يكون متعادلًا!

وإذا تساءلت ما السبب، وجدت، لفرط الغرابة، أن العلم هو السبب!.. فالعلم سلاح ذو حدين، فهو قادر على أن يشقي، وقادر على أن يسعد… ولكن ما الذي يشقى ذا العلم؟

الذي يشقيه أن عقله لم يهضم العلم كما تهضم معدته الغذاء… أنه اكتفى من العلم بالسطحيات دون الأعماق، وبالقشور دون اللباب.. أي بمعنى آخر أنه اكتفى بالعلم ذاته كغاية لا وسيلة إلى الحياة… وهذا هو جوهر المشكلة.

وكثيرون هم الذين يحسبون أن العلم شيء والحياة شيء آخر! والواقع أن العلم ما جعل إلا ليسد حاجة الإنسان إلى حياة أرضى، وأرخى، وأسعد، وما لم يؤد العلم هذه الوظيفة فهو بالجهل أشبه، أو هو والجهل يستويان…

ولنعد إلى موضوع الزواج ولنختبر شيئًا من الخرافات العصرية التي أصبحت تحيط به في زمن العلم والنور:

1- المال لا يصنع السعادة الزوجية

هذه خرافة كبيرة كفيلة بأن تورد من يصدقها موارد الشقاء!.. ولعل الأساس (العصري) الذي تقوم عليه هذه الخرافة أن الحب هو كل شيء في صرح الزواج السعيد… ودعنا نسلم جدلًا بأن الحب هو كل شيء… فما هو الحب؟ إن الحب خليط من إحساسات ورغبات وحاجات متعددة تداخلت وتشابكت لتكون عاطفة متجهة نحو الشخص الذي هو موضع الحب… ففي الحب يدخل، على سبيل المثال لا الحصر، حب النفس، وحب التملك والاستحواذ وحب السيطرة والظهور، والحاجة إلى الإحساس بالأمن، والرغبة الجنسية… إلخ.

ولو حاولت التوفيق بين القصور المالي وبين عناصر عاطفة الحب لأعجزك هذا في أكثر الأحيان… فالقصور المالي لا يتفق مع حب النفس مثلًا، ولا مع الحاجة إلى الإحساس بالأمن، ولا مع حب السيطرة والظهور..

وإنما الأغلب أن ما يقصده أكثر الشبان بالحب هو الرغبة الجنسية وحسب… فالمدفوع إلى الزواج بالرغبة الجنسية وحدها –وإن يكن يحسبها حبًا- هو الخليق بأن يغض النظر عن الصلاحية المالية للزواج.. ولكنه لم يلبث أن يفيق –بعد أن يحقق رغبته بالزواج- ليجد ما يكنه من حب وقد تبخر ولم يبق منه إلا القليل الذي لا يغني من جوع ولست أقصد بالصلاحية المالية للزواج الثراء، أو البذخ، أو الترف، وإنما أقصد التقدير الواقعي لما يتكلفه إقامة أسرة، ولما يتطلبه توفير الضروريات لها، وشيء من الكماليات أيضًا.. فلن يرضي أحد الطرفين أبدًا بحياة يتوفر فيها ما يشبع حيوانيته، ويعوزها ما يشعره بإنسانيته!

2- الزوجان شريكان في أعمال المنزل

أكثر الفتيات المتعلمات يفهمن الشركة الزوجية على أنها تتضمن اشتراك الزوج مع الزوجة في كل ميدان وكل اختصاص، حتى في أعمال المنزل ورعاية الطفل… ولا بأس أن يشترك الزوج في أعمال المنزل مدفوعًا برغبته الخاصة، وتقديره للظروف ولكن الخطأ أن تصر الفتيات المتعلمات على أن هذا من حقهن، وأن يتوقعنه وينتظرنه، بحيث إذا لم يقع اعتبرن زواجهن فاشلًا!

والزواج شركة نعم، ولكنها شركة لها مديران، لكل منهما اختصاص، ولا بأس أن تتداخل الاختصاصات إذا تلاقت رغبة الشريكين سلفًا على ذلك، أما إذا لم توجد هذه الرغبة فليس معنى هذا أن الشركة فاشلة.. ذلك أن لكل من الشريكين أصلًا ميدان اختصاص تؤهله له قدراته، واستعداداته ومواهبه.

وإحساس المرأة العصرية بحقوقها –ومنها ما هو مساو لحقوق الرجل- شيء تحمد عليه، ولكن محاولتها انتزاع حقوق أخرى تنطوي على إخراج الرجل عن دوره في الشركة الزوجية ليس قطعًا مما تحمد عليه.

حكمة عشرين عامًا!

فكر فيما تصنعه اليوم على ضوء الحكمة التي ستتوفر الحكمة التي ستتوفر لك في خلال العشرين عامًا القادمة.

ولكن يتسنى لك أن تفعل ذلك ما عليك إلا أن تفكر فيما صنعته منذ عشرين عامًا على ضوء التجربة التي اكتسبتها منذ ذلك الحين!

ولن يستريح الرجل نفسًا في بيت يقوم هو بجانب من عبء تنظيفه والقيام على شئونه المختلفة من طهو، وتنظيف، وتنسيق.. وأحسب أن المرأة –إذا أرخت لغريزتها العنان وتركت مسألة الحقوق جانبًا- لن تستريح نفسًا أيضًا وهي تطالب زوجها بأن يفعل ما يجب أن تفعله هي، وما تؤهلها له طبيعتها، ومواهبها، واستعداداتها.

إن للظروف الاستثنائية تقديرها بطبيعة الحال، ولكنما أنا معني بتبديد اعتقاد رسخ في ذهن كثير من المتعلمات مؤداه أن من حقهن أن يشاركهن أزواجهن في أعمال المنزل..

وقد تحسب –أيها القارئ- أن هذه مسألة تافهة لا تستحق حتى مجرد الإشارة، ولكنك إن اطّلعت على أنواع الرواسب النفسية التي تسببها هذه المسألة وما تدفع إليه من مشكلات قد تقوض صرح الزواج لهالك الأمر!

3- التوافق الجنسي شرط للزوج السعيد

ومن المطايا العلمية التي ركبتها الخرافات، مسألة التوافق الجنسي.. وقد أصبح من الخرافات العصرية الشائعة أن التوافق الجنسي شرط أساسي أولى من شروط الزواج السعيد.

ونعم أن العامل الجنسي عامل مهم في الزواج، ولكنه ليس كل شيء، فانعدام التوافق بين الزوجين في الناحية الجنسية كأن يشكو أحدهما البرود الجنسي، أو لا يستمتع بالعلاقة الجنسية كاستمتاع شريكة أو ما إلى ذلك من أسباب انعدام التوافق –ليس أهم ولا أخطر من انعدام التوافق بينهما في صفات الشخصية مثلًا، أو العقلية والمشارب، والأذواق، أو المكانة الاجتماعية والاقتصادية، أو علاقة كل منهما بأسرته… والواقع الذي تؤيده الأمثلة الكثيرة أن الزوجين المتفاهمين المتوافقين في علاقاتهما العامة أحدهما بالآخر كفيلان بأن يتجاوزا عن انعدام التوافق الجنسي بينهما…

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالتوافق الجنسي ليس شيئًا يجب أن يتوفر أولًا وإلا كان مصير الزواج الفشل، بل هو شيء يمكن الوصول إليه بالمعايشة والمعاشرة واندماج الزوجين في حياتهما الزوجية.

فمرد انعدام التوافق الجنسي إما إلى أسباب بدنية، كبعض حالات البرود الجنسي في النساء، والقصور الجنسي في الرجال، وهذه في الوسع علاجها، وإما إلى أسباب نفسية –وهو الأرجح في أغلب الأحيان- وهذه تعالجها المعاشرة الزوجية المتوافقة في أكثر جوانبها.

4- الأبناء يوثقون رابطة الزواج

ومن الإنصاف أن نقول إن هذه الخرافة ليست عصرية، بل هي ترجع إلى أجيال، ولكن المؤسف أن تظل باقية قائمة في عصر العلم… والعلم يقول أن الزواج متى تقوضت أركانه، وفقد الدعائم التي يرتكز عليها، فإن في بقائه أعظم الضرر لا على الزوجين وحدهما، بل أولًا وقبل كل شيء على الأبناء!

وقد كانت النصيحة التي تقدمها الأمهات والجدات إلى بناتهن أن يعمدن إلى الإنجاب السريع من أزواجهن لكي يضمن الاحتفاظ بهم.. وفعلت الزوجات هذا في أكثر الأحيان قبل أن يتعرفن على مصير زواجهن، هل هو إلى نجاح أم إلى فشل.. وعانى الأبناء الغرم كله من تنافر الوالدين وتفكك رابطة الزواج!…

إن الأسرة ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة اجتماعية لإعداد النشء للحياة في المجتمع وأداء دورهم في رفعته ورفاهته.. والزوجان اللذان ينظران إلى الأبناء باعتبارهم تقوية لرابطة الزواج لا يقيمان في الواقع للأبناء وزنا، وإنما يعتبران الأسرة غاية في حد ذاتها… وفي هذه الحالة خليق بالأبناء أن يتركزوا في الأسرة ويشدوا إليها بحكم العوامل النفسية المترسبة في الزوجين، ويفقدوا صلاحيتهم لأن يكونوا أفرادًا ناجحين في المجتمع أو سعداء نفسيًا.

إن الواجب أولًا أن يتحقق الزوجان من نجاح زواجهما، ثم بعد ذلك يأتي التفكير في إنجاب الأبناء.

5- الحب يجب أن يبقى بعد الزواج

كان الحب في الأجيال الماضية شيئًا معيبًا باعثًا على النفور والاشمئزاز.. ثم مع زحف العلم أصبح الشبان يؤمنون بحقهم في الحب، وجعلوا نصب أعينهم أن يقيموا زواجهم على أساسه… والأمر إلى هنا طبيعي لا شذوذ فيه.. ولكن مع بروز أهمية الحب في الزواج قامت خرافة عصرية مؤداها أن الحب يجب أن يستمر بعد الزواج بالشدة نفسها، والطراز نفسه، والقوة نفسها التي كان عليها قبل الزواج، وإلا كان الزواج فاشلًا!.. والواقع أن دون ذلك استحالة!.. فالحب دائمًا محفوف بالرغبة الشديدة في تحقيق هدف (الزواج في هذه الحالة).. ومن طبائع الأمور أنه متى تحقق الهدف خفت حدة الرغبة، وهذا هو الذي يحدث للحب بعد الزواج.. ولا أقصد أن الحب يزول بعد الزواج، ولكنه يصبح نوعًا من الحب أهدأ من ذلك النوع الذي كان قبل الزواج.. بل في الواقع يصبح –أو ينبغي أن يصبح- شيئًا أجمل من الحب الذي كان قبل الزواج… إنه يتحول إلى نوع من الرفقة والألفة، والصداقة، والمشاركة في المتع جميعها ذهنية وحسية.

أما أن يقصد بالحب الرومانسية، والمناجاة، والغزل، والعاطفة المشبوبة، وأن يصر طالب الزواج على هذا النوع من الحب بعد الزواج، فهذه هي الخرافة!

6- الزوجة العاملة زوجة فاشلة

وهذه يمكن أن تكون خرافة ويمكن ألا تكون، فالأمر كله متوقف على الزوجة العاملة نفسها ومدى فهمها لحقيقة وظيفيتها كزوجة، ووظيفتها كعاملة…

وأمهاتنا وجداتنا هن المسئولات عن ترويج الدعاية ضد الزوجة العاملة، دفاعًا عن قصورهن في زمانهن عن بلوغ هذه الغاية… وكثيرون من الشبان المتعلمين يصدقون هذه الدعاية ويقتنعون بوجاهتها، ويرون أن الحق مع أمهاتهن وجداتهن في أن الزوجة العاملة لا تستطيع أن تجمع بين الوظيفة والقيام على شئون المنزل والأسرة، وأن الأسرة ستعاني ولا شك من مزاحمة الوظيفة لها… وهذا، كما أسلفت، يمكن أن يكون حقيقة ويمكن أن يكون خرافة، ولكنه من الناحية المثالية ينبغي أن يكون خرافة إذا توفرت شروط ثلاثة: أولًا، أن تفهم الزوجة العاملة أن وظيفتها الأولى التي يؤهلها لها كيانها الإنساني جميعًا هي القيام على شئون الأسرة… وثانيًا: أن تدرك أن الوظيفة خليقة بأن تقوي إحساسها بواجبها الأول نحو الأسرة. فالوظيفة تكفيها مئونة الإحساس بالنقص عن الرجل في الحقوق والواجبات، ومن ثم تجعلها أقدر على أن تؤدي واجباتها كما أديت لها حقوقها، وواجبها الأول هو رعاية الأسرة.

وثالثًا: أن تؤمن بأن الوظيفة ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لحياة أفضل، أما جوهر حياتها فهو تكوين الأسرة ورعايتها.

فإذا حققت الفتاة العاملة هذه الشروط الثلاثة، فهي عندئذ قد جعلت من الدعاية المروجة ضدها بين طالبي الزواج خرافة!

 

-نُشر أولًا بموقع حياتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *