أستاذ عبد المنعم الزيادي

 

حبك الأول… هل تذكره؟ وهل تذكر بنت العم، أو بنت الخال، أو التلميذة التي كنت تلقاها كل يوم في طريق ذهابك إلى المدرسة وعودتك منها؟

هل تذكر النشوة الغامرة التي كانت تحتويك كلما سرح إليها خاطرك، وما أكثر ما كان يسرح، في أمسيات الصيف العليلة، أو في دفء غرفة المكتب وأنت جالس إلى دروسك، أو في أحلام يقظتك ومنامك أيًّا كان الموسم، وكيفما كان الجو؟!

هل تذكر قصور الأماني وصروح الآمال التي شيدتها في خيالك؟ عش جميل يضم عاشقين، وأيام وليالٍ من الغرام المتصل، والوفاء المتبادل، وزواج سعيد صافي السماء وردي الظلال، وربما أفسحت ركنًا في قصر الأماني لفلذات الأكباد أيضًا!

وهل تذكر (مذكراتك) الخاصة التي كنت تغلق دونها درج المكتب، وتحرص على سريتها حرص القائد المحنك على سرية خطته الحربية؟! أكانت رسائل إلى حبيبتك؟ أكانت قصة أنت وهي بطلاها؟! أكانت شعرًا ناجيتها بها، ووصفت، وتغزلت؟!

أتذكر حبك الأول؟ لا شك أنك تذكره!

أم تراك غارق فيه الآن إلى أذنيك؟!

كم عمرك؟

إذا كنت بين العاشرة والعشرين، فأنت حتمًا غارق في حبك الأول الآن، وأنت لا بد تشعر ب (الأعراض) التي أسلفناها كافة، ربما مع بعض التعديلات والتفصيلات التي تمليها شخصيتك المفردة التي لا يشاركك في صفاتها شخص آخر!

أنه لا يفلت أحد من (الحب الأول)، تمامًا كما لا يفلت أحد من (الحصبة) أو من (نزلة البرد)!

وكما أن (الحصبة) لا بد منها في الطفولة، (ونزلة البرد) أمر محتوم في الشتاء، فكذلك الحب أمر لا مفر منه في مرحلة من مراحل العمر، تلك هي مرحلة المراهقة!

وكما أن السواد الأعظم يجتاز (الحصبة) ويشفي من نزلة البرد، فكذلك الشاب يجتاز الحب الأول بسلام ما لم تقع (المضاعفات)!

و(المضاعفات) هي التي أريد تحذيرك منها، وأرغب في أن تتخذ منها الحيطة لكي (تجتاز) حمى الحب الأول بسلام.

و(خميرة) المضاعفات، أو (الاستعداد) لهذه المضاعفات ماثل دائمًا منذ الوقوع في الحب، ولكن قوي النفس يسعه أن يتفاداها، تمامًا كما يسع القوى البدن أن يتجنب مضاعفات الأمراض البدنية!

ولهذه المضاعفات أشكال شتى تستطيع أن تقف على بعضها من نظرة فاحصة إلى أبواب (بريد القراء) في الصحف والمجلات..

* الانصراف عن الدرس والاستغراق في الهم لأن بنت الجيران لا ترد على النظرة بالنظرة!

* التفكير في الهروب من البيت أو البلد لأن بنت العم قد طرق باب بيتها خاطب يطلب يدها!

* مداعبة فكرة اختطاف الحبيبة لأن أهلها يمنعونها من الخروج!

* الامتثال لليأس والانطواء على النفس لأن بنت الخال شوهدت تتحدث في انسجام مع صديق أو قريب!

* التفكير في الانتحار لأن حبيبة الروح أظهرت الصد والجفاء!

هذه بعض أشكال المضاعفات التي يمكن أن تترتب على الحب الأول… وهي تحدث في أحيان نادرة، ولكننا كقاعدة عامة نتفاداها ونسلم منها ولا يصيبنا من الحب الأول على أكثر تقدير، إلا ما تعبر عنه بالعذاب، أو الضنى، أو السهاد، أو الشقاء وهذه تتكفل الأيام بشفائنا منها!

ولست أريد أن أحرمك متعة الحب الأول، فلا أحد يفلت منه -كما قدمت- وإنما أريد لك أن تتحرر من مضاعفاته وعذابه، وأن تنظر إليه نظرة صحيحة خالية من الشوائب.. ولعل خير ما أسلكه لأبلغ هذه الغاية أن أدلك على ما ليس صحيحًا مما يراودك من أن أفكار عن الحب الأول.. ولأن هذه الأفكار ليست صحيحة فهي أخلق بأن تسمى أوهامًا..

الوهم الأول: مثالية المحبوب

نحن ميالون في الحب الأول لأن نضفي المثالية على من نحب. إننا ننظر إليه بعين الرضى، وعين الرضى عن كل عيب كليلة! فالحبيبة نموذج للأنوثة يعز نظيره، ومثال للجمال فريد، ومعين للجاذبية لا ينضب.. وهي من حيث الصفات الخلقية نسيج وحدها، لا تدانيها في الخصال، والطباع فتاة أخرى!

هكذا تتراءى الحبيبة في أعيننا ولا يهم كيف تكون على حقيقتها، فإننا لا ننظر إليها بالعين المجردة، وإنما تنظر إليها من خلال منظار سحري لا ينم عن العيوب، ولا يبدي المساوئ!

وأذكر أن حبيبتي الأولى كانت (تتهته) فكنت أرى في هذه (التهتهة) سحرًا دونه سحر الفصاحة والبلاغة! وأذكر أنها كانت عصبية سريعة الغضب وبرغم ذلك كنت أراها نموذجًا كاملًا للشخصية الجذابة، والصفات الحميدة!

وكذلك الحبيب الأول في نظر الحبيبة.. هو فارس الأحلام، المكتمل الرجولة، الطاغي الشخصية، الشهم، الجريء، المقدام هو كذلك من خلال منظارها، ولا يتحتم أن يكون كذلك في الواقع، وهو الأرجح في غالب الأحيان.

ومن أين جاء هذا الوهم؟ لماذا نرى الحبيب الأول في هذه الصورة المثالية الكاملة؟

إن المرحلة المراهقة خصائص عجيبة.. فالمراهق -فتى أو فتاة- يتأرجح في هذه الفترة بين الطفولة والنضج، بين الأحلام والحقائق، بين التبعية والاستقلال، بين الاعتماد على الغير والاعتماد على النفس، بين مقاومة الميول الجنسية الزاحفة عليه، وبين الرغبة في الاستمتاع بها.. ومن هنا كان المنظار الذي ينظر به إلى الأمور منظارًا مسحورًا لا يبدي الحقيقة مجردة، وإنما يبديها مندمجة في الخيال!

فالمراهق حين يتمثل الكمال في حبيبته، فمعنى ذلك أنه (يرغب) أن تبلغ حبيبته حد الكمال، ومن ثم تتجسد له هذه الرغبة! وهو يريدها مثالية أيضًا بحيث تجمع الصفات الطيبة كلها التي تتصف بها أمه -وهو أول فرد من الجنس الآخر أحبه وتأثر به- والصفات الطبية كلها التي يرى أنها تنقص أمه! يريدها مثالية من ناحية الأنوثة لترضى الرغبة القوية التي يستشعرها.. يريدها مثالية ليس لها نظير لكي يشبع غروره، ويحس بامتيازه، ويرضي ذاته.

أي على الجملة هو يراها بعين ما يريد أكثر مما يراها بعينه المجردة، وهذا هو سر المثالية، أو هذا هو وهم المثالية الذي يسيطر عليه!

الوهم الثاني: روحية الحب!

والمراهق ميال في الأغلب إلى أن ينظر إلى الحب الأول نظرة روحية أو (رومانسية) بمعنى أنه لا يستطيع أن يستشف دوافع الحب وأهدافه، أو إن شئت الحقيقة، لا يريد أن يسلم بدوافع الحب وأهدافه -وهي جنسية طبعًا- ومن ثم فهو ينشغل بسطحية عاطفة الحب دون جوهرها! إنه يتغزل في (صفات) حبيبته الخلقية، ويتغنى بشمائلها وسجاياها.. ولكنه قبل أن يتغنى بمفاتنها الجسدية، وندر أن يدرك حقيقة رغبته تجاهها! إنه أشبه بالشاعر دانتي حين أحب (بياتريس) من النظرة الأولى فألهها وقدسها!

وما سبب هذه الروحية؟

سببها أيضًا كما في المثالية، التأرجح بين الطفولة والنضج، بين زحف الرغبات الجنسية ومقاومتها.. وهو يقاوم هذا الزحف لما استقر في ذهنه من قبل عن الرغبة الجنسية بوصفها رغبة مستهجنة، أو قذرة أو محرمة، ومن ثم فهو حين تتجه هذه الرغبة إلى من يختار من الفتيات يحول القذارة نظافة، والاستهجان سموًا، والتحريم شيئًا مشروعًا لا غبار عليه!

الوهم الثالث: الحب عذاب

والمراهق الذي يحب لأول مرة، يرى أن العذاب شيء ملازم للحب لا مفر منه! العذاب الذي يستتبعه الهجر، والصد، وعدم الوفاء.. والعذاب الذي يتمثل في الضنى، والسهاد، والألم، واليأس والامتثال… وهذا وهم كبير ينبغي أن يحتاط منه الذي شرع في تجربة الحب! فما العذاب أبدًا (لازمة) من لزوميات الحب إنما هو انعكاس للحالة النفسية للمراهق.. للصراع الذي يدور في أعماقه حول الرغبة الجنسية فإحساسه بالحب معناه امتثال لهذه الرغبة.. وهو في الوقت نفسه يرى -لا شعوريًّا- أنه ارتكب ذنبًا أو إثمًا لامتثاله لهذه الرغبة، ولا بد إذن أن يجازى عن هذا الذنب بالعذاب! وهو يصطنع العذاب اصطناعًا أن افتقد مقوماته! أعرف شابًا كان ينصرف أيامًا عن الذهاب إلى الجامعة، ويعتزل الناس، ويتلظى بنيران الغيرة والألم لأنه شاهد الفتاة التي يحبها -وهي زميلة له- تحادث زميلًا آخر، وهو أمر عادي كان يجب أن يتوقعه ويدخله في اعتباره!

الوهم الرابع: القلب له واحد

ولا أقصد بهذا أن يحب الفتى حبيبتين أو أكثر في آن واحد، وإنما أقصد ذلك الوهم الذي يسيطر على المراهق من أن حبيبته الأولى هي الوحيدة التي يمكن أن يحبها، فإذا (طارت) منه لسبب من الأسباب لن يجد من تحل محلها، وتشغل فراغ قلبه، ويمنحها -أو تمنحه- من الحب مثل ما منح محبوبته الأولى!

ومرجع هذا الوهم في الغالب إلى أن للمحبوبة صلة لاشعورية وثيقة بأمه أو بمن هي بديل منها! ولما كان حب الأم لولدها حبًّا قويًّا قل أن يحظى بمثله الفرد، لذلك فهو يتمسك به منعكسًا على شخص الحبيبة، وهو لم يزل متأرجحًا بين الطفولة والنضج، وبين التبعي والاستقلال! وقد يعي الشاب مقدار تعلقه بأمه، وقد لا يعيه.. فمن الأغاني الشائعة في أمريكا مثلًا أغنية مطلعها (أريد فتاة كتلك الفتاة التي تزوجها أبي العجوز).. فالمترنم بهذه الأغنية يعي أن ما ينشده حب كحب أمه، أو أن من ينشدها بديلة من أمه.. ولكن هذا الاتجاه قد يخفى أحيانًا ويستقر في الأعماق!

ويتجلى هذا الوهم بصفة خاصة في الشبان الذين شربوا جرعة مضاعفة من حب الأمهات، وحمايتهن، وحنانهن، فكان من نتيجة ذلك أن استقر في أذهانهن أنه لا حب يداني حب الأم، فتمسكوا به وأسقطوه على من شاءوا من الفتيات!

الوهم الخامس: الحب الأول أساس قوي للزواج!

إذا كان الحب الأول يقوم على الأوهام التي قدمناها فيتبع ذلك أن اعتباره أساسًا قويًّا للزواج هو أضخم الأوهام!

ولعل مرجع هذا الوهم الضخم إلى إحساس غير صحيح بأن هذا الحب الجارف الطاغي سيظل على حالة من القوة والطغيان بعد الزواج! ففارق كبير بين الحب قبل الزواج وبين الحب بعده.. وليس صحيحًا أن الحب وحده -وبغض النظر عن أي اعتبار آخر- يكفي أساسًا لزواج سعيد! إن الزواج يتطلب شروطًا أخرى لا تقل أهمية عن الحب أهمها النضج! نضج الشخصية، ونضج العاطفة ونضج العقل.. والمراهقة التي يحل فيها الحب الأول، ما هي إلا مرحلة فاصلة بين مرحلة الطفولة وبين مرحلة النضج، وصفات الشاب فيها خليط من صفات المرحلتين.

والواقع أن خير ما يمكن أن يتحول إليه الحب الأول، هو أن يصبح ذكرى جميلة لعهد من عهود نمونا، نعود إليها بين حين وآخر على سبيل الترفيه والاستمتاع، وتجديد النشاط، ونشرف عليها، حين ننضج واستقر، فنستمتع بمرآها كاملة بتفاصيلها ودقائقها، كما تشرف من ربوة على السهل الأخضر المنبسط تحت أقدامنا!

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *