مهما تكن الأسباب الظاهرة السطحية للمشكلات الزوجية على اختلاف أنواعها ابتداء من المناكفة والاستفزاز إلى الخيانة والطلاق.. مهما تكن هذه الأسباب مقنعة وجيهة، أو تافهة عجيبة فإن جذورها تمتد في أغلب الأحيان إلى الوقت الذي كان فيه الزوجان طفلين تأثرًا بحياة أبويهما الزوجية، وكونا لنفسيهما على هدى هذا التأثر نموذجًا للسلوك مع الجنس الآخر، سويًّا كان أو منحرفًا..

كانت الساعة قد بلغت التاسعة مساءً، حينما عاد (فريد) من عمله وراح يصعد درج منزله قفزًا، وهو يصفر لحنًا مرحًا.. وبحركة مسرحية، أخرج مفتاحه ثم أولجه في قفل الباب، وفتحه ليجد سميرة (زوجته) تنتظره في البهو..

وكان التعبير المرتسم على وجه سميرة كافيًا ليقتل اللحن فوق شفتي فريد!

وابتدرته بصوت تطل منه الريبة:

– لقد تأخرت عن موعدك ساعة كاملة.

قال:

– المواصلات يا سميرة، قاتلها الله! لقد اصطدم الأوتوبيس بمركبة الترام وتعطل المرور ساعة كاملة!

وسكتت سميرة، وإن راحت عيناها الشاردتان تتفحصان كل قسمة في وجه فريد..

وعلى مائدة العشاء، استأنفت سميرة الحديث مرة أخرى قالت:

– بودي أن أصدف حادثة المرور هذه!

وتوقف فريد عن تناول الطعام وقال في ضراعة:

– أرجوك يا سميرة.. إنني متعب من كثرة العمل، وأريد أن أستريح…

فقالت سميرة في إصرار:

– ولكن كيف أعرف أن ما قلته كان صحيحًا؟

فقال فريد في يأس:

– اسألي قلم المرور..

– بل أسأل نفسي..

– ها نحن نعود مرة أخرى!

نعم يا سميرة كانت لي (سابقة) خيانة لك، ولكن ندمت، واعترفت لك بكل شيء، وأنت قبلت الندم. ألا يمكن أن تثقي بي، رحمة بنا كلينا؟!

فقالت سميرة بصوت يقطعه البكاء:

– ليتني أستطيع.. لقد كذبت عليَّ مرة وفي استطاعتك أن تكذب مرات أخرى.

* * *

وحدثني فريد بالقصة كلها. لقد تعرف منذ سنة بسيدة تعمل معه في الشركة التي يعمل بها وتطورت العلاقة بينهما، فكانا يلتقيان سرًّا مرة كل أسبوع، فقد كانت تلك السيدة متزوجة بدورها!

وكان لا بد أن ينكشف الأمر في يوم ما وانكشف ذات يوم، فقد شاهدتهما صديقة لزوجته فأخبرتها بما شاهدت!

قال لي فريد:

– ولم أحاول أن أبرر خيانتي بل اعترفت لسميرة بكل شيء، فقد كان ضميري يعذبني خلال تلك الفترة، ومن ثم استراحت نفسي بعد الاعتراف والتوبة.. وغفرت سميرة، وقطعت علاقتي بالسيدة الأخرى منذ ذلك الوقت وظننت أن الأمور انتهت عند هذا الحد، ولكني اكتشفت أخيرًا أن سميرة لا تريد أن تنسى.. وأنها فقدت كل ثقة بي!

وسألته عن حياته الزوجية قبل الخيانة، فقال:

– تزوجنا منذ اثنتي عشرة سنة تقريبًا، وكلانا الآن في نحو الخامسة والثلاثين، وقد أنجبنا ثلاثة أبناء ومرتبي يكفل لنا عيشًا مريحًا.

والواقع أن كل شيء كان يسير على ما يرام قبل أن أرتكب هذه الحماقة..).

– هل كانت لكما مشكلات جنسية؟

– تعني أن الحرمان هو الذي دفعني إلى ذراعي تلك المرأة؟

كلا.. لم يكن على هذا العذر!

– وما رأيك في زوجتك؟

– إنها من النوع العاطفي.. متوترة الأعصاب دائمًا، يثيرها أقل استفزاز. وهي حساسة جدًّا في بعض المواقف، ومن السهل أن يجرح شعورها.. وهي ليست قديرة على كسب الأصدقاء مثلي..

– هذا يفسر موقفك أنت.. ولكن بودي أن أسمع القصة من الناحية الأخرى.. من سميرة.

– سأدعوك لزيارتي، وربما أمكنك أن تستدرجها للحديث، فهي مستعدة للحديث دائمًا في هذا الموضوع؟

ونجحت الفكرة..

* * *

كانت سميرة سيدة على قسط وافٍ من الجمال، وإن غلبت على ملامحها مسحة من القلق.. وحين تناول الحديث مسألة خيانة فريد قلت لها:

– لقد حدثني فريد بكل شيء، وهو يقر معي بأنه لا عذر له.. لقد آلمك ما حدث، أليس كذلك؟

– لقد كان صدمة شديدة لي لم أتغلب عليها حتى الآن..

– إنني أقدر شعورك، أن الصدمة قد أشعرتك بأن دعائم عالمك قد تزعزعت من جذورها، فأنت لا تثقين في أنه لن يعود إلى ارتكاب الخيانة مرة أخرى؟

– وكيف أثق؟ لقد استمرت علاقته بالمرأة الأخرى مدة طويلة قبل أن أكتشفها بمحض الصدفة وكان خلال هذه المدة يبدو طبيعيًّا كأنما لا يحدث شيء.. فكيف أتأكد من أنه لا يقابل هذه المرأة أو غيرها سرًّا حتى الآن؟!

– هل كانت تلك الحادثة هي الأولى؟

– فيما أعلم! ولكنه كان على علاقات كثيرة قبل الزواج..

– هل كانت علاقات جنسية؟

– نعم.. لقد قال لي هذا بنفسه.

– هل عرفت زوجك قبل الزواج؟

– نعم..

– هل أستنتج من هذا أنك قد أصبحت في خوف دائم من أن تفقديه، برغم أنك اختبرته قبل الزواج، فأغريته وظفرت به بسهولة، مع علمك بأنه محاط بوسائل الإغراء، وبأنه صيد سهل المنال وحتى بعد أن عشت معه 12 عامًا؟!

– ألست محقة في هذا الخوف؟ إنك تعرف فريد، وتعرف أنه صديق من السهل اكتسابه، خصوصًا من النساء اللواتي يقابل عددًا كبيًرا منهن كل يوم بحكم عمله!

– أنت إذن لا تثقين في قدرته على مقاومة الإغراء.. وهذا ليس شعورًا مريحًا، أنا أعلم هذا.. ولذلك أرغب صادقًا في معاونتك، فهل يمكنك أن تحدثيني عن نفسك؟

– لقد طلق والداي وأنا بعد في الرابعة عشرة، وساءني هذا جدًّا، فقد كنت أحب أبواي.

– هل كان والدك هو السبب في الطلاق؟

فقالت في حدة:

– نعم.. لقد هجر والدتي ليعيش مع امرأة أخرى!

وتوقفت فجأة عن الحديث، ثم نظرت إلى نظرة من عثر على شيء ضاع منه ثم قالت:

– هل تعتقد أن هذا هو السبب؟ أعني أنني أخاف أن يهجرني زوجي كما هجر والدي والدتي؟ لعل منشأ الخوف أنني أقدر كيف قاست والدتي من جراء هجر أبي!

والتفت إلى فريد، وقلت:

– هل تدرك الآن موقف سميرة؟

فقال:

– نعم.. ولكني لا أدري لماذا تأثرت سميرة من طلاق والديها إلى هذا الحد، فقد حدث هذا لي أنا أيضًا..

ولكنه توقف كمن تذكر شيئًا وأكمل قائلًا:

– أعتقد أن طلاق والدي أثر فيَّ.. لقد أشعرني بالمرارة.

قلت:

– بالتأكيد.. وهذه المرارة هي التي جعلتك قديرًا على كسب قلوب الناس وإحاطة نفسك بحبهم حتى لا تتجرع المرارة مرة أخرى!

فقال فريد، وقد برقت عيناه:

– أنت على حق.. إنني قدير على اكتساب صداقة أي فرد بسهولة! إن لي طريقة لا تخيب مع الناس، وهي طريقة لم أغيرها منذ كنت طفلًا.. ربما لأنني كنت أشعر أن الأحوال في المنزل لا تسير على ما يرام، ومن ثم اجتهدت في أن أجعل كل امرئ يحبني لكي أحمي نفسي.. لقد كسبت حب الجميع بهذه الطريقة ولكني في الحقيقة لم أحب أحدًا.

واعتدل في جلسته، ثم استأنف حديثه في بطء وتأمل قائلًا:

– الواقع أنني سطحي جدًّا في علاقاتي مع الناس.. لقد كنت أعبث بالنساء، وأستمتع بحبهن دون أن أكن لهن حبًا حقيقيًّا.. وتزوجت سميرة دون أن أدري لماذا.. ربما لأنها كانت تدفعني لأن آخذ الحياة مأخذ الجد.. أنا متأكد الآن أنني كنت رجلًا سطحي العواطف!

* * *

وهكذا تجلت حقيقة الخلاف.

سميرة بغريزة الأنثى كانت تخشى أن تفقد فريد، كما فقدت أمها والدها، وتبحث عن الوسائل التي تضمن لها الاحتفاظ بزوجها وكان الشك والريبة من بين هذه الوسائل! ولكن الواقع أن سطحية فريد كانت هي سبب المتاعب حقًا، فإن طلاق والديه غرس في نفسه شعورًا بالنقص وعدم الثقة بالنفس دفعه للتودد للآخرين لاكتساب صداقتهم، وكان يخشى في الوقت نفسه أن يفقدهم إذا عرفوا أنه يغشهم!

ولما كانت سميرة تعرف معدن زوجها الحقيقي، وتحبه فقد قنع فريد بحبها الصادق عن محاولاته اجتذاب حب الآخرين بل بدأ يقدر نفسه، ويزن عواطفه وعادت السعادة الزوجية إلى البيت الصغير مبنية على الفهم المتبادل والإخلاص.. والثقة!

(صديق العائلة)

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *