عندما كره إله الإغريق أورانوس أولاده غضبت منه زوجته الآلهة غايا، فدفعت بمنجل لأحد أبنائهم ليقطع جسد أبيه ويحرر إخوته من ظلمه. أما الآلهة أفروديت فقد أجبرت على الزواج من إله النار هيفيستوس، وإله الحب والرغبة إيروس تم تصويره في البدايات الكلاسيكية اليونانية بفتى جميل يحمل شبكا ويلبس صندلا. وكان لدى الإغريق إله للموسيقى وإله للخمر وآلهة أخرى لكل شؤون حياتهم المختلفة. أما الإله تور إله الشعوب الجرمانية القديمة فقد وصف شكله عموما بأنه أحمر الشعر واللحية، وقد اضطر للتنكر يوما بزي امرأة ووضع حجرين مكان الأثداء ليخدع العمالقة ويستعيد مطرقته المسروقة منهم. وعند الرومان كان ثمة إله للبراكين حيث نشطت حينها البراكين في تلك المنطقة، وكان لديهم إله للصوص والتجارة وحماية القوافل. واللات عند العرب كانت تعجن العجين للحجاج، كما كان العرب يعبدون الإله ود بسكب اللبن عليه.
الإله كان دوما على هيئة البشر:
لقد خلقت الشعوب القديمة آلهتها على هيئتها، صورتهم كآباء كارهين لأولادهم، كأزواج متخاصمين، كسافكي دماء منتقمين ووحشيين، كنساء يُجبرن على الزواج، كعازفين أو شاربي خمر، كدهاة يلجؤون للحيلة لاستعادة مسروقاتهم، كخدام للكعبة يعجنون العجين ويشربون اللبن، كنساء عرايا بديعات الجمال، وكرجال أقوياء مفتولي العضلات يحمون القوافل التجارية.
لقد رأى الإنسان دوما إلهه كصورة عنه، يفكر كما يفكر هو، ويمارس من الأفعال ما يمارسه هو، يهوى ما يهوى ويستشنع ما يستشنعه هو، ولذا اختلفت الآلهة بين زمن وآخر وبين شعب وآخر بسبب اختلاف طريقة عيش هذه الشعوب واهتماماتها على مدار الزمن. لقد كان الإنسان ساذجا جدا ليعتقد أن آلهته يجب أن تشبهه، يجب أن تكون صورة عنه، يجب أن تكون متوافقة مع تطلعاته وأحلامه وحاجاته، يجب أن تتماشى مع المشاعر السائدة مع مجتمعه، يجب أن تكمل النقص الذي يراه في نفسه، يجب أن تكون عنيفة وجبارة في وقت الحرب، جميلة بجسد بديع في وقت الدعة والحب، حاملة للمطر والخصب في وقت الجفاف. لم تكن الآلهة إلا صورة عن الإنسان نفسه، ولكن.. هل اندثرت طريقة التفكير هذه فيما يخص الإيمان بالإله؟
لقد تطور الإنسان واتسعت معارفه وازداد علمه، لكنه لا يزال يفكر في شأن الإله بذات الطريقة الساذجة نفسها التي انتهجها أجداده القدامى في العصور السحيقة، إنه لا يزال معتقدا بأنه كمخلوق مُحدث قادر بمحدودية قدرته على استيعاب الخالق القديم القادر على كل شيء، بأنه كفرع صغير في هذا الكون الكبير قادر على أن يكون لديه تصور كامل عن مبدع هذا الكون مطلق القدرة! هذا المخلوق الصغير لا يزال يتطاول على خالقه حين يريد أن يريد أن يجعله على الصورة التي يتمناها هو، ويتطاول أكثر فيرفض الإيمان بهذا الخالق لو حاد قيد أنملة عما رسمه عنه في نفسه!
الإله كما يشتهيه ابن الحضارة الحديثة:
وإنسان العصر الحديث الذي يعيش في دعة حضارية، الذي ينام على فراش وثير ويختار طبقه من قائمة من ست صفحات، الذي يمضى ربع ساعة من صباحه أمام خزانته متحيرا بشأن الملابس التي سيرتديها هذا اليوم، الذي يلوح له أطفال الروضة الصغار بمرح من نوافذ الحافلة، الذي يشارك في وقفات احتجاجية لإنقاذ الكلاب الشريدة، الذي يرتعد هلعا عن رؤية جرح مفتوح في مشفى، هذا الإنسان ذاته لم يتخل في التفكير بشأن الإله عن الطريقة القديمة ذاتها، طريقة أجداده القدماء في العصور الغابرة.
هو لا يزال يطالب بإله يتوافق مع طريقة حياته، مع آماله الحالمة، مع نظرته عن نفسه وعن الكون، مع مشاعره الرقيقة وحياته المترفة. إن إلها يأمر بقطع يد السارق في نظره هو إله لا يمكن أن يؤمن به! لأنه ببساطة إله لا يمكن أن يشبهه، لا يمكن أن يقطن جارا له في نفس هذا الحي الوديع، لا يمكن أن يجلس معه ليتناولا وجبة الإفطار سويا. إنه يريد إلها ينتمي إلى بلده، بل إلى مدينته، بل إلى حيه الصغير، وبعبارة أدق: يريد إلها يستطيع أن يراه في نفسه في المرآة، إلها على هواه، يشعر معه بالأمان، بالانسجام، وبأن حياته كلها تسير على ما يرام.
فهل سأل هذا الإنسان العصري الرقيق الذي يستخدم منعم الملابس ويضع عطر هوجو بعد كل حلاقة، هل سأل هذا الإنسان شيخا إفريقيا يتضور جوعا في بيت من القش عن تصوره عن الإله؟ ألا يمكن أن يتصور هذا الشيخ الإله قائد سفينة حربية تغرق كل السفن التي تنهب ثروات أفريقيا؟ ألا يمكن أن يتصوره خبازا يأتي إليه بقطعة خبز ساخنة؟ هل سأل هذا الإنسان الرقيق أما ثكلى فقدت كل أولادها في منطقة نزاع ساخنة عن رأيها بالإله؟ أليس الإله في نظرها جبارا منتقما يعذب قاتلي أطفالها بكل الطرق التي يمكن أن تخطر على بال؟ هل سأل هذا الإنسان المتحضر مراهقا ساذجا غارقا في إدمان الأفلام الإباحية والمخدرات عن تصوره عن الإله؟
هل سأل عبقري برمجة عن تصوره عن الإله؟ هل سأل المساجين الذين قبعوا كل حياتهم في غياهب السجون ظلما عن تصورهم عن الإله؟ هل يعقل أن يتوافق الإله مع تصور كل شخص على حدى؟ بالتأكيد هذا غير ممكن، وإلا حصلنا على ملايين النسخ المختلفة المتضادة عن الإله نفسه؟ فكيف إذا أطالب بأن يتوافق الإله مع تصوري أنا وحدي؟ وكيف أرفضه لو خالف هذا التصور؟ ألا يمكن أن أمر أنا بظروف مختلفة لاحقا تغير نظرتي عن نفسي وعن الكون وعنه؟ فكيف أرفض الآن ما قد أقبله لاحقا، أو ما كنت لأقبله لو كنت أعيش في بقعة أخرى من هذا الكون؟
نعم إن حد القتل وحد قطع يد السارق وحد الجلد وحد قطع الطريق هي حدود يصعب علينا تقبلها في هذه الحياة العصرية اللطيفة التي نعيشها تحت التكييف وأمام الموائد الحافلة، ولربما كان الغرب على حق حين ألغت الكثير من دوله حكم الإعدام، فصار متاحا حتى للقاتل المتسلسل الذي أزهق روح خمسين شخصا أن يكمل حياته، فالغرب لا يحكم باسم الله وبحكمه، وإنما قوانينه قوانين مدنية، تستمد سلطتها من البشر أنفسهم، وما من سلطة بشرية يمكن أن تخول للإنسان أن يزهق روح أخيه الإنسان، لكن أحكام الشريعة مستمدة من سلطة الله خالق الإنسان، الله الخبير الأدرى بخلقه، الذي نؤمن به ونقول له “سمعنا وأطعنا”.
صفات الله كما وردت في القرآن:
هو ليس إله الرحمة والحب والسلام فقط كما يريد البعض تصوره على هواهم، ولكنه الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور.
نحن المؤمنون نؤمن أن إدراك الإنسان المحدود لا يمكن أن يصل إلى تصور شامل عن الإله الخالق وحده، لذا نحن نؤمن بالله كما أخبرنا هو عن نفسه في كتابه العزيز، وما من ديانة على وجه الأرض قدمت تصورا أشمل عن الله كالذي قدمه القرآن بين طياته حين أخبرنا الله عن نفسه بكل هذا التفصيل الذي يشبع تعطش الإنسان للمعرفة. تصور يُخيل إلينا كبشر أن بعضه يناقض بعضه، لكن الغفور هو ذاته المنتقم، والنافع هو ذاته الضار والودود هو ذاته المتعالي، لأنه هو الله الحق الذي ليس كمثله شيء، والذي لا يسعه الكون كله، ولكن يسعه قلب عبد مؤمن.
لا تعليق