تتردد أناملي وهي تدق هذه الأحرف على لوح كتابتي، فهذه الإدمانات ليس متفقًا عليها في الوسط العلمي، ولا تود عين كثيرين أن تطالعها، إنها بعض الإدمانات المسكوت عنها لأسباب عدة، ولكن لا ينفي السكوت عنها أثرها، وسأتناولها معكم باختصار إلى أن يتيسّر التفصيل، وما أظنه في المعنى الكامن خلف الإدمان أن القليل الذي نحتاجه لم يعد كافيًا، والكثير الذي يثقلنا هو ما صرنا نريده، أو لنقل بصيغة أفضل، ما صرنا عاجزين عن الامتناع عنه.

  •  التدين المرضي:

يفقد ذلك المتعبد شغفه في ممارسة الطقس، لم يعد القدر المطلوب منه شرائعيًا يمنحه لذة التعبُّد، ينهمك أكثر وأكثر في الممارسة للوصول إلى القدر الأدنى من الرضا، وبينما يمضي الوقت يجد أن مجرد التفكير في أداء الطقس أصبح يعني له المزيد من التوتر، وحتى التوقف أو خفض الأداء لم يعد في استطاعته، لقد فقد الطقس روحانيته وخرج الأمر عن السيطرة.

لم أسمع هذه الشكوى من واحد ولا اثنين، ولا من المنتمين لديانة أو فئة بعينها فقط، بل من الكثيرين الذين صار الطقس يمثل لهم أكثر من دوره الروحاني، علامات التشنّج التي تبدو على الوجه هذه أعرفها جيّدًا، إنها سمات الإدمان، فقد أصبح الطقس يستغرق أكثر الوقت، جائرا على مساحات الأنشطة الأخرى، ومحاولات التوقف –خفض المستوى للقدر الطبيعي- صارت مصاحبة بتوتر وضيق، مع فقدان القدر المعتاد أثره السكيني، وهو ما يُعرف بالتديّن المرضي (Morbid Religiousity)، ورغم أن هذا المصطلح غير موثّق كمفهوم طبي، إلا أنه واسع الانتشار في التناول العلمي للصحّة النفسية، والرفاه الصحّي.

  • إدمان الجنس:

حين خلق الله أبانا آدم، أشفق عليه أن يطول بقاؤه وحده، فخلق له حوّاء ليحتويها وتؤنسه ويؤنسها، وليس عجبًا أن يخفي الله عنهما لذة الاتحاد إلى حين، إلى أن يعرفا الحب قبل إدراك وسيلته، ثم وجدت الشهوة طريقها إلى قلبيهما، وسيلة للتعبير عن الحب ومستغلّة بقدرها.

لكن ماذا إن صارت الوسيلة غاية، حين لا يرى الشريك في شريكه إلا إشباع شهوته وإسكات ظمأ رغبته، هنا تكون الوسيلة قد أتلفت الغاية، والشهوة قد قتلت الحب، وصار الاشتهاء مخدرًا نلجأ إليه هربًا من الخوف والغضب والجوع والاستياء، نستبدل اتصالنا بالآخر إلى الاكتفاء بالنفس والانفصال عما سوى الذات، أصبحت الشهوة الغاية والوسيلة.

هكذا يرى مدمنو الجنس المتعافون أنفسهم، وهكذا يعرّفون مشكلتهم، حين أفسد الخيال الواقع، وقتلت الشهوة الحب، «في البداية مدمنون وفي النهاية مشلولون عن الحب، كنا نأخذ من الآخرين لنكمل ما كنا نفتقده في أنفسنا، صارت الشهوة مخدرنا، وغرقنا في شرب الصور والتخيلات»، حين نختصر الآخر في شيء منه، نفتقد قيمته في أعيننا، وشيئًا فشيئًا نفتقد حتى قيمة أنفسنا، مما يؤدي للمزيد من الخواء الذي يملؤه السراب، والظمأ الذي يرويه البحر.

  •  إدمان العمل:

يحكي صاحبنا عن حبه لعمله كيف وصل إلى أن طلب من الطبيب تأخير موعد الولادة ساعتين، لارتباطه بموعد مهم صباح يوم ولادة ابنته الأولى، وكيف اختار يوم ولادة الثانية قبل موعد سفر عمل بأربعة أيام فقط، وتحجج لزوجته بأنه تاريخ مميز. أدرك كيف ذهب به ولعه بالعمل إلى طريق صارت خسائره تربو على أرباحه التي لم تعد تغطي جزءًا من الخسائر المتتالية، بدءًا من انهيار علاقته الزوجية التي صرّح بأنها كانت تأتي في المرتبة الثانية بعد عمله، وصولًا لوفاته في ربيع العمر، فرحمة الله عليه.

هذه القصة البائسة التي يحكيها بطلها تروي لنا كيف صارت لذة العمل لعنة، وكيف اختلّت السيطرة حين أصبح العمل يعني لنا أكثر من كونه عملا، حين صار مهربًا ومنفذًا ومخدرًا.

تذكر جيدًا أن ما نسعى للسيطرة عليه ينتهي به الحال مسيطرًا علينا، لذا تقوم فكرة التعافي من الإدمان بالاعتراف بفقدان السيطرة على المشاكل، والتوجه لقوّة أكبر منا مُحِبة وعطوفة لتقوم بإدارة المشهد، بينما ننتقل من دور المخرج للعمل لدور المشارك فيه.

الاعتراف بفقدان السيطرة هنا لا يعني الاستسلام، وإنما الانتقال من توجّه التحكم في الحياة لتوجه إدارة الحياة، نحن ناقصون، وإدراكنا لذلك النقص هو بوابتنا إلى الكمال، اعترافنا بالضعف يكسر سلطة الإنكار علينا، اعترافنا الذي يحمل معنى قبول وجود الضعف ورؤيته ووضع خطة للتعامل معه، وليس إنكاره ليعمل فينا في الخفاء، ولا الانكسار أمامه لتنتهي بِنَا دائرة الإدمان إلى المصحّات والسجون أو القبر.

  – نُشر أولًا بموقع صحتك.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *