عن عائشةَ أنها كانت تقول: (قُبضَ النبي فارتدت العرب، واشرأبَّ النفاقُ بالمدينة، فلو نزل بالجبال الرواسي ما نزل بأبي لهَاضَها، فوالله ما اختلفوا في نقطةٍ إلا طار أبي بحظِّها وعنائِها في الإسلام)، وكانت تقول مع هذا: (ومن رأى عمر بن الخطاب عَرفَ أنه خُلقَ غَنَاءً للإسلام، كان والله أَحوَزيًّا، نسيج وحده، قد أَعدَّ للأمور أقرانَها).

(1)

      الإنسانُ لا يستطيع أن يتعاملَ مع المعاييرِ في مستواها التجريدي فحسب، سواءَ كانت هذه المعاييرُ قِيمًا، أو أخلاقًا، أو حتى قواعدَ مِهنيةً، وأُسُسًا لعيشِ هذه الحياة الصعبة= لا يمكن للمعايير أن تكون فعَّالةً بمجرد كونِها خطابًا في وحيٍ، أو قائمةَ قواعدَ في كُتيِّبٍ إرشاديّ، أو حتى نصائحَ يقولها لك غيرك.

      فعاليةُ المعايير وقدرةُ الإنسان على الوَصلِ معها وتَمثُّلِها ترتكز بصورةٍ كبيرةٍ على وجود المثال الحيِّ الذي يَتَمَثَّلُها، ويُعَدُّ بالنسبة لك قُدوةُ وقرآنًا يمشي على قدمين.

      وهذا هو أحدُ أركانِ الوظيفةِ العظمى للأنبياء – أعني وظيفة البلاغ- وهو هنا: بلاغٌ بالفعل، حيث تكون حياتُهم نفسها وَحْيًا ورسالة.

      ولكلِّ نبيٍّ حواريُّون؛ ليكونوا هم الجماعةَ المعياريةَ التي يَرجعُ الناسُ لها بعد الأنبياء، حتى في خطَئِهم ونقصهم يكونون هنا مثالًا على معيارٍ مهمٍّ، وهو أن العبرةَ ليست بمجرد النَّقصِ والخطأ، وأن العصمةَ ليست من شروطِ ولايةِ الله.

      ولأجل ذلك كان العلماءُ ورثةَ الأنبياءِ؛ ليُكملوا سلسلةَ التَّمثُّل الحيِّ للمعايير هذه، ولأجل ذلك كان العالِمُ الفاسدُ والفقيهُ المنافقُ من أضرِّ الناس على الأمم، ولأجل ذلك يَستعظمُ الناسُ نَقصَ العالِمِ ومخالفةَ قولِه لفعلِه، ولأجل ذلك ليست الوقيعةُ في العالِم الصادق كالوقيعةِ في غيره من المؤمنين.

     من هنا نعلم أن محمدًا  وأصحابَه ليسوا -فقط- حَمَلَةَ دينٍ تَبِعوا نبيَّهم الختم، فنحن نُعظِّمهم تعظيمَ أتباعِ الدِّيانات لرموزِهم، وإنما هم مع ذلك كله= أمثلةٌ حية على نمطِ عيشِ الحياةِ، ووجه صوغ الإنسانيةِ في اتصالها بهذا العالم.

      ومن هنا جاء هذا السَّيلُ العظيم من تفاصيلِ الحياةِ اليوميةِ لنبيِّ الله ، ولم يقتصر نقلُ الرواة -جيلًا بعدَ جيل- على الجانب اللَّاهوتي من حياته، بل نَقلوا من جوانب حياته ما هو بيِّنَةٌ صادقة على أن رسالةَ الرسولِ ليست نَقلَ وَحيٍ بقدر ما هي قانونُ حياة.

      ولأن الله عصمه من الخطأِ في البلاغ، وعصمه من أن يُقرَّه على اجتهادٍ أخطأ فيه، وعصمه من كبائر الذنوب وصغائر الخِّسة، وعصمه من أن يَبقى على ذنبٍ -غيرها- لا يتوب منه= فقد كان هو رأسُ قائمةِ المعايير، وهو الأُسوةُ الحسنة، وهو الهَديُ الواجبُ الاتِّباع، فليس ثَمَّ هديٌ عامٌّ يُخاطَب به الناسُ جميعًا، يَصلُح لعامَّتهم وخاصَّتِهم يَنتزعون منه ما يناسب أحوالهم= إلا هَديُ محمدٍ بن عبد الله .


      وإنما تَفسَدُ أحوالُ الناسِ من حيث قطعوا صِلَتهم بهذا الهَدي معرفةً وعملًا، نظرًا وتفعيلًا، فإن هَديَه في توحيدِه لربِّه هو أحسنُ الهَدي، وإن هديَه في عبادتِه لربِّه هو أحسنُ الهدي، وإن هَديَه في إقامةِ دينِه ونشرِ دعوته هو أحسنُ الهَدي، وإن هَديَه في معاملةِ أهلِه هو أحسنُ الهدي، وإن هَديَه في معاملةِ الخلقِ؛ حبيبِه وعدُوِّه هو أحسنُ الهدي، وإن هديَه في أكلِه وشُربه، وجَدِّه ومَزْحِه، وهَمِّه وعزمِه، وبكائِه وضحكِه، وقيامِه ونومِه، وعافيتِه وبلائِه، ورضاه وسخطِه، ومعافاتِه وعقوبتِه= هو أحسنُ الهدي، اللَّهُمَّ صلِّ وَسَلِّم وَبَارِك عَلَى عَبدِكَ وَنَبِيِّكَ وَحَبِيبِكَ محمد.

(2)

      ولأن النفوسَ لا تتشاكل، والنوازعَ تختلف، وتركيبَ الطَّبع من نفسٍ إلى نفسٍ قَلَّما يأتَلِف، ولأن المواهبَ أرزاقٌ مقسومةٌ، والعزائمَ تفسخها العوارضُ، وليس صَفوٌ إلا ومعه كَدَرٌ، وكمالَ النبوةِ لا يلحَقُه أحد= لم نجد أصحابَ محمدٍ ﷺ نسخًا تامَّةً منه، ولا هو  أرادَ أن يجعلَهم نُسخًا منه، وإن من أهم ما تُقاس به إمامةُ الرجل= قدرتَه على بثِّ روح الإمامةِ والتَّفرُّدِ هذه في نفوس أصحابِه.

      وإن شعبةً كبيرةً من إمامة نبينا محمد تكمن في أصحابه؛ في قدرته على صوغِ هذه النفوس الفريدة التي ما شَهِدت البشريةُ مثلَها.

      أولئك لم يصوغوا قوالبَ مصبوبةً يُشبه بعضُها بعضًا، صمَّاءَ تُطيعُ لا تعقل، بل كان الواحد من أصحابهم نسيجًا وحدَه، يطلب من الأمور معاليها، ولا يقعد -بإرادته- عن شيءٍ يستطيع أحسنَ منه.

      وإن الرجلَ يكونُ فريدًا بقدر ما يُشعرُك بإمكان أن تصبح كذلك، ويعينك عليه.

وليست الفرادةُ الإنسانية أن يكونَ لدى الرجل ما ليس لدى غيره من الخلف والطبع والمعرفة والعمل، وإنما الفرادةُ الإنسانية أن يكونَ تركيبُ ذلك فيه، وأسلوبُ عيشه على وفقه= هو تركيبه هو وأسلوبه هو وطابعه هو يقاسم أهل الحق مشتركاته، وينفرد هو بما هو نهجُ نظره وميزان عقله، وشِرعة عيشه.

    

إن حقيقةَ النظر إلى أحوال محمدٍ  وأصحابه أنه نظرٌ إلى نماذج في الفرادة الإنسانية، كيف تكون، وكيف تقوم، وكيف تُعاش بها الحياةُ، وتُطلب منها الأُسوة.

 

     أبو بكر: فرادةُ اليقين، أعظمُ المؤمنين إيمانًا، وأعرقُهم صحبةً، وأشهدُهم على غيبٍ صدَّق به ولم يره، لينُ القلب، وحزمُ الإمارةِ حين تلينُ قلوبٌ أَلِفت الشدة.

      عمر: الفاروق، المُحدِّث، المُلهم، مثالُ العدالة الذي عَقِمَته الدنيا بعدها، وصلابةُ الحق التي عز نظيرها.

      عثمان: ذو النُّورَين، من أضاء بيتَه بابنتي سيِّد الخلق، رجلٌ تستحي منه الملائكةُ، ويفرُّ البخلُ إذا سمِع اسمَه، وأيُّ فرادةٍ إنسانية كأن يجتمعَ للرجلِ نوران؛ نورُ الحياء ونورُ الصدقة.

      عليّ: دُرةُ أهلِ البيت، وزوجُ سيدةٍ من سيدات نساءِ العالمين، وفردٌ لا يُشاكله غيره في الاستعلاءِ بالمبدأ فوق موازناتِ الحرب والسياسة، ولو كان غيره لهَادَن ووازن، لكنه اختار أن يجعلَ حَزم القاضي فوقَ مداورة السياسيّ.

      حمزة: أسدُ الله ودرعُ نبيه، شيخٌ وجيهٌ، لكنه صار معلمًا لطلاب الحقيقة: أن الحق لا يُباع بالوجاهةِ، وأن العزَّ عند الله يَطيشُ بأوهامِ العزَّةِ عند الخلق.

      خالد: سيفٌ من سيوفِ الله، وعبقريةٌ فذَّةٌ تُخرِس أوهامَ كل مَن ظنَّ أنه يمكنك أن تنصرَ الحقَّ بمعرفةٍ كسيرةٍ وموهبةٍ فقيرةٍ ودعاءِ دراويش لم يقدِّموا بين يدي دعائهم بذلًا من عند أنفسهم.

      معاذ بن جبل: أعلمُ ذاك الجيلِ كلِّه بالحلال والحرام.

      عبد الله بن عباس: أُنموذجُ الفرادةِ لشابٍّ حَدَثٍ، تعلَّمَ التأويلَ حتى تصدَّرَ وسطَ أشياخِ الرجال.

      أبو عبيدةَ بن الجراح: الشيخُ الأمينُ، وصاحبُ الرأيِ، ومستودعُ المشورة.

      أبو هريرة: أن تأتيَ متأخرًا، فتبذل من مُهجةِ نفسك ما ترى به أن السقايةَ خيرٌ، طالما أنت تَسقي القلوبَ بنورِ نبيها، وواللهِ إن ساقيَ القومِ سيدَّهم.

وكما أن هناك شيئًا ما مختلفًا في ذلك الجيل العربي من الرجال الذي اختاره اللهُ لصحبة نبيه وحمل الرسالة= فإن نفسَ هذا الشيء هو هو في جيل النساءِ العظيم الذي صَحِبَ رسولَ الله، وأنجبَ الجيلَ الثاني من الصحابةِ وأوائل التابعين.

شيءٌ ما كانت عليه تلك الدُّررُ الأولى= أضاعه فقهٌ مُحدَثٌ فاقدٌ للاتزان والتكامل، وعاداتٌ وتقاليدٌ، وتصوراتٌ شخصية تقتل المواهبَ وتُميتها، واستهتارٌ بديلٌ يصنع مسخًا مشوَّهًا من قشورِ الثقافةِ الغربية، أو النَّسويَّةِ المُسترجِلة التي تريدُ أن تحييَ المرأةَ بإماتةِ أجمل ما فيها، كمسخِ فرانكشتاين، حياةً يَطيب بجوارها الموتُ.

ومِثلُهم من يَحسَب أن جمالَ المرأة في بلادَتها وسذاجَتها، وأن -تمامًا- عقلَها يُنقص من خيرها وفضلِها، وأن تفقُّهَ المرأةِ يُزري بها، ويُنقص من موضعِ الأنوثةِ فيها ليزيدَ موضعُ الذكورة، وذلك أيضاً فاسدٌ، وإنما أتي أصحابُه من تعميمهم لنموذجِ النسويةِ المسترجِلة، وظنُّهم أنّ تَعقُّلَ المرأةِ وتفقُّهَها لا يكونُ إلا على هذا النمط، ولذلك فلو زاد علمُهم بنساءِ العرب ونساء الجيل الذي نزل فيه الوحي، وتفقهوا في العربية وبيانها، وأيامِ العرب وموضعِ المرأة منها= لرأوا في كل ذلك النموذج الهادي لِمن قاربوا الكمالَ من النساء.

في ذلك النسيجِ النسائي العربي القديم سَمتٌ متفردٌ متزنٌ متكاملٌ، إن اهتدى الناسُ إليه= جمعوا الخيرَ من أطرافه.

خديجة: الزوجةُ والسكنُ، أسطورةُ نساءِ الدنيا -لو كانوا يعون-، من قامت بأمرِ زوجها وأبنائها خيرَ قيامٍ، حملًا، وولادةً، وإرضاعًا، ورعايةً، ودعمًا، سيدةٌ عظيمةٌ لرجلٍ عظيم، قد كانت والله دفءَ فراشِ زوجها، وروحَ حياته.

عائشة: طاقةُ نورِ الوحي المنبعثةِ من بيتِ النبوة، العفيفةُ، الشريفةُ، الفقيهةُ، الراويةُ، الأديبةُ، فخرُ بيت النبوة، وحبيبةُ قلبِ النبيّ .

زينب: وإذا أراد اللهُ أن يجعلَ لنساءِ الدنيا مثالًا، يغادرن به طباعَ الغيبةِ والنميمةِ والوقيعةِ في الأعراض= كانت لنا زينبُ، من حَمَت سمعَها وبصرَها عن الوقيعةِ في عِرض مؤمنةٍ تنافسها، حتى قالت عنها أختُها: إنها المعصومةُ بالورع.

أسماء: طودٌ إيمانيٌّ شامخ، نطاقُ الزادِ لنبيها وأبيها في الهجرة، وشريكةُ زوجها في مهنةِ عمله، وحافظةُ غيرَته، وقلبٌ ثابت ثبوتَ الجبال، لا يهزه نباحُ جبارٍ فاجر فَجَعَهَا بولدِها؛ فإن عمرانَ الإيمانِ لا يزلزله غرورُ من يَحسبون أن القضاءَ في الدنيا فقط.

سمية: أَيَا هذا البلاء القديم، بالله حدثني من أين وَجَدَت تلك المرأةُ -حديثةَ الإسلام- صبرًا عليك؟!

يا أيها الذين آمنوا:

إن سيرةَ محمدٍ وأصحابه قبل أن تكونَ أي شيء= هي مستودعٌ للنماذجِ الإنسانية التي ينبغي أن يقصدَها -دومًا وأبدًا- من يريدُ أن يجعلَ لحياته معنًى، ولإنسانيته زادًا، ولقِيمه أمثلةً حية تُريه أن للطريق روَّادًا، وأنه ليس فيه بأوحد.

وإذا شقَّت سفينتُك عبابَ الحياة في ثباتٍ، وتفاديت بها صخورَ العيشِ كسَرْتها ولم تكسرك، وعبرت بها أمواجَ المشقةَ لم تجد منفذًا تُغرقك منه، ورسيت بها آمنةً في مُستقرِّ الرحمة، وقابلتَ محمدًا وصحبه، فقل لهم: ثمة ضوءٌ منكم أنار طريقي لولاه ما كنت هنا.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *